فالصّورة الشّعريّة هنا تحيلنا على طائر ميرنيفا أو طائر الرّماد الّذي يبعث حيّا من الحريق فكأنّ عشق الوطن يدفعها للتّجدّد في خلاياه وترابه، لقد ظلّ رمز طائر الرّماد أو البعث في نسيج الرّؤية الإبداعيّة الخلاّقة في مجال الشّعر والفنون الجميلة الأخرى..وظلّت إيحاءاته الفيّاضة بالدّلالات الجماليّة بعيدا عن الرّؤية التّقليديّة أو حبيسا لتلك الرّؤية واكتشف المبدعون سحره الإيحائيّ وروعته الجماليّة وأعادوا توظيفه من جديد في بناء فنيّ معاصر يحاول إعادة تشكيل هذا العالم من جديد، فالشّاعرة تجسّد لحظة رمزيّة غنيّة بالإيحاءات والدّلالات: فكلّ الفصول هباء ولولاك يا وطني ما كنت أبعث في بركة نور الإله...(3) وإذا كنّا نلاحظ أنّ لفظة (وطن) يتطوّر مفهومها أو مدلولها على مدار الزّمن..فقد بدأ الوطن لدى البدويّ ليدلّ على (مربض الإبل والغنم) ثمّ شمل منزل الإنسان وبيته..ونلاحظ أنّ اللّغويّين لم يشترطوا في هذا الوطن أن يكون مسقط رأس الإنسان –ربّما لأنّ الإنسان العربيّ الّذي يولد في الصّحراء في شبه الجزيرة العربيّة لم يكن له مكان معيّن..فقد أملت عليه الحياة الكثير من التّنقّل من أجل تحقيق السّلامة والرّزق..أمّا الوطن بعد الإسلام فقد اتّسع مدلوله بصورة أكثر..فأصبح هو كلّ مكان يعيش فيه الإنسان فترة زمنيّة معيّنة..ومنه جاء مصطلح (مواطن مكّة) وجاء لفظ: وطن بالمكان..أي أقام فيه..وتدلّ للمعاجم أيضا أنّ كلّ مقام أقام به الإنسان لأمر ما..فهو موطن له..وقد أسهم الأدب النبوّيّ في تأكيد هذا المفهوم حينما نهى الرّسول صلّ الله عليه وسلّم عن إيطان المساجد..وعن جعلها وطنا يمكث فيه المسلم وقتا أكثر ممّا ينبغي..ومن الإضافات العصريّة في هذا المجال ظهور لفظ الوطنيّة والمواطن..وربّما نشأ ذلك بعد جهود مضنية من أجل استقرار وإقامة الدّول..وسيادة الرّوح الوطنيّة..ولشدّة انتماء الإنسان لوطنه أصداء كثيرة في تراثنا الأدبيّ..هكذا يتأكّد ارتباط الإنسان بوطنه ليصبح إحدى الظّواهر الإنسانيّة الّتي يشترك فيها الإنسان أنّى كان..ومتى عاش..وربّما كان هذا التّمسّك هو سرّ الصّراع الدّائر بين الإنسان وأخيه الإنسان...هكذا في نفس السّياق يتأكّد ارتباط الشّاعرة بربوع الوطن... مشرّدون داخل أوطاننا وسائرون نحو حتفنا.. مجرّدون من أكفاننا نمشي عراة ندفن ونبقى حالمين بالوطن...(4) وإذا كانت الأسباب العامّة تتعلّق بحبّ الجماعة..وحبّ الطّبيعة..والعادات والتّقاليد وغيرها من مفردات الحياة المختلفة..فإنّ الأسباب الخاصّة بحبّ الوطن تتعلّق بالذّكريات..والعواطف الإنسانيّة الّتي لا يمكن أن يفلت منها أيّ إنسان: لم أنسى يا أبتي برنسك الأبيّ؟ وطفولتي ترنو إليه في ابتهال؟ وأصابعي تعزف من خيوط القزّ أنشودة العمر البهيّ! لحرير برنسك الأثير حكاية تصحو عليها أصابعي...(5) ولقد تسابق الشّعراء يعبّرون عن المواطنة بعاطفة قويّة..وكم من قصيدة حرّكت المشاعر في نفوس البشر بما تنطوي عليه م نصدق الشّعور..وعمق المواطنة..والسّعي والمناداة بتحقيق الحلم الإنسانيّ... وهو ما تحقّق في قصيدة «بلعيد لم يرحل...!!» فالشّاعرة تأثّرت بذلك الحديث الجلل الذّي هزّ مشاعر المواطنين...فأضحى الوطن أيضا يرتبط بالشّهداء: بلعيد لم يرحل..! فقد روى تونس الخضراء فهبّت لتعصف برياح الغدر ولن تخذل بلعيد هنا في نبضات قلوبنا لم يرحل..!! حيّ هو في رعشة مآقينا في رقرقة عبرات الرّوح التّي لن تقتل.. بلعيد هنا.. هناك.. في كلّ التّواريخ والأساطير وحكايات البطولات لم يرحل..!!...(6) الهوامش (3): المصدر نفسه. ص: 22. (4): المصدر نفسه. قصيدة «مشرّدون داخل أوطاننا». ص: 26 – 27. (5): المصدر نفسه. قصيدة «برنس والدي». ص: 36 – 37. (6): المصدر نفسه. قصيدة «بلعيد لم يرحل». ص: 28 – 29. يتبع