في خطاب رئيس الجمهورية الأخير لوم وعتاب وتقريع لخصميه الحاليين النهضة والشاهد، لكنه لم يخل من رسائل الود وحتى التودد فالباجي يبدو مستجيبا لرغبة الحركة في وصل حبل التوافق، وواعيا بضرورة إعادة الإبن يوسف إلى عائلته. تونس الشروق: الشاهد وحركة النهضة خالفا الدستور ودفعا في اتجاه تغول رئاسة الحكومة على حساب رئاسة الجمهورية، هذا حكم رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي كما دافع عنه في الخطاب الذي ألقاه الأربعاء على هامش إحياء الذكرى الثالثة والستين للإستقلال. النهضة والشاهد مسؤولان عن الكثير من الأخطاء الأخرى من وجهة نظر السبسي فالحكومة زادت الوضعين الاجتماعي والاقتصادي تدهورا والنهضة التفت على التوافق وعلى المدنية وزادت في تفكيك حزب النداء بدعم الشاهد على حساب حافظ، وعملت على عزل رئيس الجمهورية تغليبا لمصلحتها… هو لوم من الباجي يرتقي إلى حد تقريع خصميه الحاليين وجلدهما عبر تعديد أخطائهما تجاهه وتجاه الوطن لكن وراء «البكائيات» و»التظلم» والشكوى يبدو السبسي كمن يمد يده لخصميه ولو باحتشام أملا في مد حبل الود من جديد: «هذه السياسة» في خطاب الباجي عبارات عديدة يكفي تجميعها لمعرفة ما يضمر، فهو يستعمل عبارة «الوحدة الوطنية» أو «الوحدة القومية» في ما لا يقل عن خمس مناسبات. والوحدة لا تظهر عادة في قاموس من اختار التفرد والعزلة ورفض الآخرين. في الوحدة لا يمكن منطقيا إقصاء أي طرف سياسي إلا من حرمها على نفسه ولكن تبدو النهضة والشاهد معنيين أكثر من غيرهما وهو ما يظهر في قول الباجي: «في السياسة لا وجود لعداوة ولا صداقة إلى ما لا نهاية.. وهذه السياسة ولدى السياسيين أمر معروف». هذا الكلام يعني على وجه الحصر من تترواح العلاقة به بين الخصومة والمودة فيمكن أن ينطبق على النهضة التي كانت عدوا وباتت شريكا قبل تصبح خصيما، كما يمكن أن ينطبق على الشاهد الذي جاء إلى الحكومة من حزب النداء قبل أن يثور عليه حافظ قايد السبسي ويجمده ويدفعه إلى تأسيس حركة «تحيا تونس» مع عدد من الندائيين المغضوب عليهم دون أن يكونوا ضالين. عفا الله عما سلف «لو كان يرجعلنا الشاهد نمشيو اليد في اليد» قالها الباجي في خطابه الأخير قبل أن يضيف مازحا: «موش شاهد العقل». ولكن ما الذي يمنعه من إقصاء عبارة «شاهد العقل» التي تؤدي المعنى، وإذا كان يقصد رئيس الحكومة فلماذا لم يقل: «يوسف الشاهد». كل القراءات تبقى سليمة في ظل الغموض المقصود ولكن الإصرار في الاستدراك على إزاحة معنى «شاهد العقل» يوحي بأن المقصود هو يوسف الشاهد وأن الباجي يوجه له دعوة رسمية مبطنة للعودة إليه وإلى حزبهما نداء تونس. في الخطاب ما يؤكد هذا المنحى فصحيح أن السبسي قرّع الشاهد وعاتبه ولكنه تقريع المتبوع للتابع (من وجهة نظر الأول) أو على الأقل تقريع الأب لابنه والمبالغة في تأنيبه دون غلق الباب خلفه بما أن المصلحة في عودته إلى أسرته. الرسالة ذاتها موجهة إلى النهضة وفحواها عفى الله عما سلف فالخلاف كما التوافق لا يعمر والخير في تقديم المصلحة. لكن لنفهم هذا كله علينا أن نضع رسائل الباجي في إطاريها السياسي والتاريخي: نافعة للجميع سبق للشاهد أن هاجم حزبه السابق ومسؤوله الأول حاليا حافظ قايد السبسي لكنه لم يسقط قطّ في فخ التعرض بسوء لمؤسسه الباجي بما يعني أنه نجح في تفادي الرد بالقول على تهجماته واستفزازاته وترك باب الود مفتوحا. بالتوازي نجحت النهضة في ترك حبل التقارب مع الباجي ممدودا رغم إصراره على قطعه والمثير للانتباه أنها غيرت تكتيكها خلال الأيام الأخيرة فلم تعد تكتفي بدور المحايد في متابعة العلاقة بين رئيسي السلطة التنفيذية بل مرت إلى لعب دور الوساطة ومحاولة تقريب وجهات النظر وإزالة الخلافات وسوء الفهم وسوء الظن. الحركة تنطلق من مصلحتها التي تتحقق بإحياء التوافق مع نداء قوي تكون حركة «تحيا تونس» جزءا منه أو على الأقل شريكا استراتيجيا له لكن هذا الحل لا ينفع النهضة فحسب بل ينفع معها النداء وتحيا تونس معا. الظاهر أن الباجي اقتنع بموقف النهضة فاستجاب له وإن قدم لاستجابته ببعض البكائيات واللوم والتقريع، فهل بدأ الإعداد لتوافق مع بعد الانتخابات التشريعية القادمة؟.