صُدم الراي العام التونسي بتتالي خبريْ مقتل 15 رضيعا في مستشفى وسيلة بورقيبة وتعرض 20 طفلا للتحرش الجنسي من قبل معلمهم. وقبلهما هناك اخبار أخرى تؤكّد قبح المشهد الاجتماعي الذي أصبحنا نعيشه وبروز مؤشرات انهيار منظومتنا القيمية. تونس الشروق: إن كانت السلطات تبحث فعلا عن مخرج مشرّف من ازمة وفاة الولدان في مستشفى وسيلة بورقيبة فما عليها سوى كشف الحقيقة كاملة دون دفن أي تفصيل ثمّ تطبيق القانون بصرامة على المسؤولين الذين تسببوا في هذه الكارثة ثم تطبيق الفصل 38 من الدستور ف"الصحة حق لكل إنسان" والدولة مطالبة بضمان "الوقاية والرعاية الصحية لكل مواطن، وتوفر الإمكانيات لضمان السلامة وجودة الخدمات الصحية" كما تضمن الدولة "العلاج المجاني لفاقدي السند ولذوي الدخل المحدود وتضمن الحق في التغطية الاجتماعية طبق ما ينظمه القانون". هذا ما يردده التونسيون في مجالسهم في انتظار الكشف عن نتائج التحقيقات في السابع والعشرين من الشهر الجاري. ويعتقد الكثير منهم بانّ الميدعة البيضاء لم تعد كذلك ولا هي أيضا رمز لملاك الرحمة فالأخطاء الطبيّة ووفاة الولدان وسوء المعاملة للحوامل في اقسام الولادة في المستشفيات جعلت الاطار الطبي وشبه الطبي محلّ شكّ بخصوص مدى احترام مواثيقهم المهنية المقدسة فهم يباشرون مهنة إنقاذ حياة الإنسان. وينظر الكثير منهم أيضا الى ان وفاة الولدان بتلك الصورة الكارثية دون الكشف السريع عن حقيقة ما حصل وكشف مرتكب هذه الجريمة الى انها بداية انهيار المنظومة القيمية في القطاع الصحّي الاستراتيجي. التعليم ليس قطاع الصحّة وحده من يواجه الشك والريبة بخصوص انهيار المنظومة القيمية والقاعدة الأخلاقية التي تضمن الخدمات الجيدة والإنسانية في المهنة بعيدا عن منطق الربح والخسارة، والحال ان معطيات كثيرة تؤكد استشراء الفساد في القطاع الصحّي وانخراط العديد من رؤساء الأقسام في شركات صحية خاضعة لمنطق الربح والخسارة، تواجه أيضا قطاعات أخرى استراتيجية ذات المخاوف من تجاوز مواثيقها الأخلاقية وعدم احترام قواعدها وقيمها. فاعتداء مربّ جنسيا على 20 تلميذا هو أيضا بداية انهيار في المنظومة التربوية بالنسبة للكثير من متابعي كارثية الاعتداء المعلن عنها في صفاقس قبل أسبوع. لم يستوعب الكثيرون الرقم المعلن عنه حول ضحايا هذا المعلم الجلاّد فالجريمة، والتي تطال تداعياتها نفسية هؤلاء التلاميذ وقد تجعل بعضا منهم مشروع مُعْتد جنسيا لاحقا إذا لم يحصل على العلاج النفسي الضروري، طالت 20 تلميذا ذكورا وإناثا في الوقت الذي يباشر فيه المعلم-الجلاّد وظيفة المرشد في برنامج أطفال يبث عبر الإذاعة المحلية. صدمة مضاعفة تؤكد بلا شك انهيار كل القواعد في ذهنية هذا المعتدي وهي بلا شك تمس في العمق المنظومة التربوية التي بدا تراكم الإشكاليات في تشويهها. رقم اخر مفزع لم يستوعبه التونسيون نهاية شهر فيفري يخص ضحايا مدرسة التكفير في الرقاب من ولاية سيدي بوزيد حيث انقذت الدولة 42 طفلا كانوا يتعرضون الى تدريبات رياضية قاسية والى تدريب على حياة مختلفة تماما عن النمط المجتمعي التونسي حيث يُجبرون على ارتداء ملابس أفغانية و يتلقون دروسا في التكفير والتشدد الديني. حدث هذا تحت راية تعليم القران الكريم فهل هناك سقوط أخلاقي وقيمي افضل من هذا الانحراف الذي كانت غايته صناعة جيل إرهابي بدل تعليم القران للأطفال؟ الاعلام قطاع استراتيجي اخر ينظر اليه التونسيون بعين الريبة خشية انهيار منظوماته القيمية بشكل نهائي وهو الفاعل الرئيسي في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. هذا القطاع هو الاعلام والذي لم يكن في علاقة ود مع الراي العام قبل 2011 بسبب إخضاعه للنظام طيلة ربع قرن من الدكتاتورية. وبعد 2011 علّق التونسيون امالا كثيرة على الاعلام لتبنّي استحقاقات الثروة والدفاع عنها وإنجاح المسار الانتقالي وصولا الى بناء الجمهورية الثانية جمهورية القانون والمؤسسات والديمقراطية والرخاء الاقتصادي. غير ان الاعلام لم يقم بهذا الدور بالشكل المطلوب وفقا للكثير من منتقديه ولم يشتغل وفقا للقواعد الأخلاقية للمهنة وخرج من جبّة سيطرة النظام نحو تسرّب راس المال وتدخله في الخط التحريري لبعض وسائل الاعلام وخرج أيضا نحو سيطرة نفوذ راغبين في الحكم وفي مراكمة الثروة ولا افضل عمّا نقول سوى فوضى المواقع الالكترونية وفوضى الاخبار الموجهة التي تتم في شكل تسريبات في الاعلام بشكل يومي وصولا الى تدهور مستوى الخطاب في البرامج التلفزية الى درجة تحرّج البعض من مشاهدتها بشكل جماعي في الاسرة الواحدة. والحداثة لا تتناقض مع هذا الجانب المحافظاتي في الاسرة التونسية حتى لا يفهم البعض اننا نروم الانتصار لمشروع مجتمعي اخلاقوي بعينه. وافضل دليل أيضا على خرق القواعد الأخلاقية للعمل الإعلامي ما تقوم به إذاعة الزيتونة للقران الكريم وهي إذاعة مصادرة إلاّ ان خطابها الإعلامي يبث الدعوة لمصلحة حركة النهضة باعتبارها حامية الدين وقد عجزت السلطات الى حد الان في وضع حد لهذه التجاوزات الخطيرة في الإذاعة المذكورة والتي يسيّر خطها التحريري عضو مجلس شورى لحركة النهضة. هذا بالإضافة الى غياب مجالس التحرير ومواثيق التحرير في اغلب وسائل الاعلام إمّا جهلا بقيمة هذه القواعد المهنية الضرورية لتنظيم العمل داخل المؤسسة الإعلامية او تخوفا من هذه القواعد لتستمر التجاوزات ومعها يستمر خرق القواعد المهنية في الاعلام. العمل السياسي قطاع اخر تجاوز كل الخطوط الحمراء من حيث انهيار قواعده الأخلاقية وهو العمل التجاري حيث حجزت الرقابة الاقتصادية موادا فاسدة وصنوفا من التجاوزات الخطيرة في ترويج مواد غير صالحة للاستهلاك والغش في ترويج اللحوم والاحتكار والمضاربة والتهريب وفيه تهريب لمواد خطيرة على الامن القومي مثل المخدرات والأسلحة وتهريب الأشخاص (إرهابيين و"حرّاقة" (مهاجرين غير نظاميين)). وكذلك استشراء الفساد والرشوة عند الحواجز الجمركية وعند نقل مواد مهربة ما يعني أيضا مسّا بالمواثيق المهنية للموظف العمومية وارتكاب تجاوز الارتشاء وتمرير مواد ممنوعة. يحدث كل هذا بسبب إخلالات في المزاج العام للبلاد حيث تسود الساحة السياسية منذ العام 2011 صراعات حزبية هدمت كل الاخلاقيات فاصبح التشويه والاغتيال جزءا من الصراع الحزبي. وقد اسهم هذا التدهور المشين في العمل السياسي، حيث برزت الأحزاب السياسية التونسية في شكل الممتثل البارع لقاعدة "لا اخلاق في العمل السياسي"، في انعكاس ذلك على مستوى الممارسة في الإدارة وعلى مستوى أداء البرلمان وتهاوي الخطاب في الحملات الانتخابية. واثمر كل هذا مناخا عاما يسوده الانتهاك لكل الخطوط الحمراء فالصراع السياسي سمح بجميع أنواع التجاوزات في مختلف المجالات. وها نحن نتقدم نحو انتخابات عامة جديدة ستُنتظم نهاية العام الجاري دون ان يلوح في الأفق تعهّد او ميثاق يكون قاعدة عمل للحملات الانتخابية للأحزاب مثل تحييد مدنية الدولة والحريات الفردية والخطاب الديني عن الصراع السياسي والالتزام بمنافسة لا تنفّر المواطن من الاقبال على الاقتراع يوم التصويت. نحن إذن في مواجهة صراع ما تبقّى فينا من اخلاق وثوابت حتى لا يأتي اليوم الذي نبكي فيه انهيار المنظومة القيمية في المجتمع التونسي. فإلى جانب بروز ظواهر اجتماعية خطيرة (مثل ارتفاع حجم العنف وخاصة العنف الاسري وارتفاع نسب الانتحار) تمثّل مؤشرا لترنّح المنظومة القيمية تحتاج البلاد فعلا الى تفعيل مواثيق الاخلاق في المهن الاستراتيجية وفي مقدمتها الصحة والتعليم والاعلام كما تحتاج الى تنافس سياسي قاعدته الاخلاق في الصراع والتنافس واحترام حق الاختلاف. هذا هو الطريق الصحيح لبناء جمهورية ثانية هي جمهورية القانون والمؤسسات وغير ذلك هو فتح أبواب لبناء دولة أخرى موازية باقتصاد مواز وبخرق أمثل لكل القواعد الأخلاقية والانهيار التام للمنظومة القيمية. فاتن مبارك باحثة في علم الاجتماع ل«الشروق» نحن في مرحلة «افعل ما يحلو لك» أمام ما حصل من كوارث في الايام القليلة الماضية على غرار مقتل 15 رضيعا في المستشفى والتحرش ب20 تلميذا من قبل مربّ هل نحن امام انهيار المنظومة القيمية في المجتمع التونسي؟ ما نعيشه هو نتيجة وتداعيات لانهيار منظومة المؤسسة منذ وجود بن علي ولكن الثورة عرّت هذه المسائل وجعلتها تبرز للعلن. فهناك ثلاثة أنواع من القادة ومنهم القائد الدكتاتور ونحن كنّا نعيش تحت سلطة قائد دكتاتور ما يعني ان الدولة تسيطر على كل شيء والناس يخافون من شخص واحد وكان الخوف من سلطة هذا القائد وكانت المؤسسات تشتغل بهذه الطريقة وحضور الدولة كان قويا بهذه الطريقة. اما الان فنحن نعيش في مرحلة قادة "اعمل ما يحلو لك" وحين تريد المحاسبة وعند حصول تجاوزات لا تجد من تحاسب. وبالتالي نحن انتقلنا من مرحلة الحضور القوي والكامل والمسيطر للدولة الى غياب الدولة باتم معنى الكلمة. نحن لم نعط قيمة للعمل والحقائق بدأت تُكْشف. والى اين يأخذنا هذا الوضع؟ في الصحة والتعليم والاعلام وغيرها هؤلاء هم فاعلون سوسيولوجيون والفاعل السوسيولوجي يحين فقد قيمة الانتماء يفقد الضمير ويدخل دائرة عبثية وهذا ما نعيشه اليوم إذ وصلنا مرحلة التوازي بين العمل واللاعمل. وحين نفقد قيمة العمل نفقد كل شيء وكل المؤسسات تنهار واولها الصحة والتعليم والاعلام وماهو الحل لتفادي مجمل هذه الانهيارات؟ نحتاج الى وقفة مسؤولة لهذه المؤسسات والى إعادة توزيع الموارد وان ندخل مرحلة التقشف الذاتي الاقتصادي وان يكون لنا قادة ديمقراطيون وحين نقول قائد لا نقصد بالضرورة رئيس الجمهورية او غيره بل الى قادة ديمقراطيين في كل المؤسسات. فانتظارنا للشخص الأمثل الذي سينقذنا فكرة خاطئة وبهكذا تفكير لن نتقدم فما يهم الساسة اليوم هو اضعاف المؤسسات العمومية ومن ثمة التفويت فيها.