مرض خطير وداء عضال ظهر في كلّ الأزمنة والعصور وانتشر وتكاثر في عصرنا هذا وخاصة في العالم الثالث، آفة الرِّشوة التي تجرّأ عليها الكبير والصغير والغني والفقير والحاكم والمحكوم واستحلّها المجهول والشَّهير، مع أنها معاملة محرّمة بالكتاب والسنّة، وأن صاحبها ملعون ومطرود من رحمة الله سواء كان المعطي أو الآخذ أو الواسطة، روى التّرمذي وأحمد وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله الرَّاشي والمُرْتَشِي. وفي رواية عند أحمد والرَّائش. والرشوة كَسْبٌ خبيث، وسلوك سيئ قبيح، صنفها العلماء من كبائر الذنوب، واعتبروها من أشد أنواع أكل الأموال بالباطل وهذا مصداقا لقول الله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة 188) والرشوة في الحكام أعظم خطرا وأشدّ فتكا لأنّهم ميزان العدالة، فإذا فسد الميزان اختلّ الاتِّزان، وإذا خان الوَازَّنُ ضاع التّوازنُ، ومن ثمّ ينتشر الفساد. روى الطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الرّشوة في الحكم كفر، وهي بين النّاس سحت. (صحيح الترغيب) ويعني بالكفر هنا أنّه إذا أعطي الحاكم أو القاضي ومن في معناهما من أهل الولايات الرّشوة من أجل استحلال حقوق الناس وغصبها وإعطائها لآخرين، فإنّ في ذلك تحليل لما حرّم الله، أو تحريم لما أحلّ الله فذاك هو الكفر لقوله تعالى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة 44) . وللرشوة مسميات مختلفة سواء في القرءان الكريم أو السنة الشريفة أو كلام الناس منها: السّحت، الإكرامية، والحلاوة، والهدية، والقهوة، وغيرها من تسميات. كما أنّ الرشوة مجالاتها عديدة ومسالكها متشعبة، اقتحمت الكثير من الجوانب في المجتمعات المختلفة حتى لم يكد يسلم منها مجال من المجالات، فإذا كانت في القضاء فيُعطَى الحكم من لا يستحق، ويُمنعه من يستحق، فيقضي الحاكم لمن لا يستحق أو يمنع من يستحق أو يقدم مَن ليس من حقه أن يتقدم ويؤخر الجديرين بالتقدير والتقديم، أو يحابي في حكمه لقرابة أو جاه أو رشوة أكلها سُحتًا. كما تكون الرشوة في تنفيذ الحكم أيضًا.وتكون الرشوة في الوظائف والمسابقة فيها، فيُقدَّم من أجل الرشوة من لا يستحق النجاح ، وتكون الرشوة في تنفيذ المشاريع، وفي التحقيقات الجنائية وغيرها، فيتساهل المحققون المرتشون في التحقيق ويُخفون الحقيقة، وأغرب من هذا أن تدخل الرشوة في التعليم، فينجح من لا يستحق النجاح، ويتساهل المراقبون في مراقبة الطلاب من أجلها، فيتقدم الطالب الضعيف، ويؤخر المؤهّل وفي ذلك حصول الكوارث والحوادث في المجتمع، والشرور على البلاد والعباد. إن لجريمة الرشوة آثارًا خطيرة وعواقب وخيمة على الفرد والمجتمع، فيوسد الأمر لغير أهله، وتضيع الحقوق على أصحابها، وتدمر المبادئ والأخلاق الكريمة، وتهدر الأموال والمصالح العامة والخاصة، وتتعرض الأنفس للخطر، ويشيع الفساد، وينتشر الظلم، وتختل موازين العدالة. ومن أقبح آثار الرشوة وغيرها من المعاصي في المجتمعات ظهور الرذائل، واختفاءُ الفضائلو. الراشي والمرتشي والرائش ملعونون عند الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومطرودون من رحمة الله، ممحوق كسبهم، الزَّائلة بركتهم، خسروا دينهم وأضاعوا أمانتهم، استسلموا للمطامع، واستعبدتهم الأهواء، وأغضبوا ربّ الأرض والسموات، وغشّوا الأمّة، في نفوس خسيسة وهمم دنيئة. فكم من مظالم انتهكت، وكم من دماء ضيّعت، وكم من حقوق طُمست، وكم من محارم استحلت، وكم من أموال نهبت، وكم من مصالح ضيّعت، ما أضاعها وما طمسها إلاّ الرّاشون والمرتشون. وقد وردت أحاديث كثيرة في التحذير من هذا المحرم وبيان عاقبة مرتكبيه: منها ما رواه ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به ، قيل: وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم. وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب. (أخرجه أحمد).