قد لا تكون النهاية التي انتظرتها في رحلة عمرها القصير. و لم تتوقع يوما انها قد تلاقي مصيرها تحت كومة من الدجاج المسلوخ الذي كانت تحمله عربة مجنونة اعترضت طريقهم صباح امس وأنهت شقاء يومهم بموت مفاجئ. تونس «الشروق» لا معطيات دقيقة حول هويتها هي فقط طفلة لم تتجاوز بعدُ مرحلة المراهقة بدت في الفيديو الذي تم نشره وتداوله في صفحات موقع «فايسبوك» صباح امس في حالة صعبة. ولم يظهر منها وهي تُحمل بين أيادي رجال الحماية المدنية سوى قدميها بجوارب بيضاء مثقوبة. ضحايا التهميش صاحبة الجورب المثقوب تلخّص معاناة مُفقّرين وجدوا في العمل الفلاحي الهش ضالتهم لكسب الرزق. وقد كان فائضا من العمّال والعاملات صباح أمس يركبون شاحنة الموت انطلاقا من منطقة المغيلة في اتجاه سواني منطقة الصادقية في سبالة أولاد عسكر بسيدي بوزيد إلاّ ان الموت اعترض طريقهم على مستوى منطقة ملاجي الغمامريّة حيث كان التصادم مع شاحنة تحمل كميّة من الدجاج الجاهز للطبخ. واسفر الحادث عن مقتل 3عمّال و7 عاملات على عين المكان وسائقيْ السيّارتين وإصابة 14 عاملة و7 عمّال إصابات متفاوتة وقد تم إيواء 6 مصابين في قسم جراحة العظام بالمستشفى الجهوي بسيدي بوزيد وايواء مصابيْن في قسم الإنعاش ومصابيْن آخرين في قسم الاذنين والأنف والحنجرة وتحويل ثلاثة مصابين الى مستشفى الحبيب بورقيبة بصفاقس وثلاثة مصابين آخرين الى مستشفى سهلول بسوسة وفقا لمصادر «الشروق». وتتراوح أعمار الضحايا بين 15 سنة (مصابة) و60 سنة (توفّيت) ما يعني ان هذا القطاع مفتوح لكلّ الاعمار حتّى الأطفال منهم والمراهقين والمسنين. والموت على هذا الخط يطال الجميع أيضا ولا شيء يستطيع ان يوقف المأساة ما دامت أجهزة الدولة عاجزة عن خلق آليات للنقل الآمن للعملة الفلاحيين وما دام الوضع الاقتصادي والاجتماعي الهش للمفقّرين في الأرياف دافع بارز لانخراط الكل في هذا العمل غير المنظم والذي انتهى في مرّات عديدة بمأساة. التطبيع مع الكوارث تشهد الأرقام ان المعدّل السنوي لحوادث المرور التي تتعرض لها عاملات القطاع الفلاحي في حدود عشرات الجرحى وخمس وفيات. ففي العام 2015 جُرِحت 85 عاملة وقُتِلتْ 8 أخريات جرّاء حوادث مرورية اثناء التنقل نحو العمل. وفي العام 2016 ارتفع العدد الى 151 جريحة و6 قتلى ثم تراجع العدد في العام التالي الى 85 جريحة وقتيلتيْن وفي العام 2018 ادّت الحوادث المرورية الى إصابة 119 عاملة ومقتل 4 عاملات وفقا للأرقام الصادرة عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وقد استنكر المنتدى في بيان أصدره صباح امس حول الحادث حالة «الاجرام والقتل المتكرر للطاقات المنتجة في البلاد رغم النداءات المتواصلة للسلط العمومية والمركزية لوقف هذا النزيف الذي اودى بحياة 40 عاملة وجرح 492 خلال اربع سنوات نتيجة ظروف النقل اللاّ إنسانية على مرأى وعلم كافة السلط». كما حذّر المنتدى في بيانه من «التطبيع مع الكوارث المتكررة» معتبرا ان المتسبب في هذه المأساة هو «غياب العزيمة الصادقة والبرنامج الجدّي لحماية الشغّالين والقطاعات الاقتصادية المنتجة». ويشغّل القطاع الفلاحي حوالي نصف مليون إمراة حوالي 450 الف منهنّ يعملن في المستغلات الفلاحية الصغرى وفقا لارقام وزارة التكوين المهني والتشغيل. وتتجاوز ساعات عمل العاملات المدة المسموح بها في القانون إذ يشتغلن 11 ساعة في الوقت الذي ينص فيه القانون على 9 ساعات عمل يوميا. اغلب العاملات هن من نساء الأرياف وتتمثل اعمالهنّ في تنقية الأراضي الزراعية من الحجارة وجني الخضر الموسمية والزيتون والغلال بمقابل مادي زهيد وفيه تمييز على أساس النوع الاجتماعي بالإضافة الى التنقل في رحلات عمل يومية محفوفة بالمخاطر: فكيف لشاحنة واحدة فقط، الشاحنة التي تعرضت لحادث مرور صباح امس في سبالة أولاد عسكر، ان تحمل حوالي 35 شخصا وهي التي قد لا تتسع لعشرة اشخاص؟ أين القانون؟ اين شرطة المرور؟ استمرار النزيف تثبت نتيجة الحوادث المرورية المسجلة في هذا القطاع ان النشاط الفلاحي ما يزال قطاعا مؤنّثا بامتياز وبالتالي هو قطاع هش مفتوح للطاقة النسوية بدءا بالأطفال وصولا الى المسنّات. وتشير دراسة لجمعية النساء الديمقراطيات الى ان 61 بالمئة من النساء يعملن كعاملات عرضيات موسميات في حين يشتغل 28 بالمئة منهنّ بصفة قارة. وتوكل للنساء مهمة الجني (78 بالمئة) ومقاومة الأعشاب الضارة (69.5 بالمئة) والبذور (64.5 بالمئة) ومهمة حمل المنتوج (36.2 بالمئة) ونقل المحصول (17 بالمئة) وتولّي أعمال الحرث (10 بالمئة). ولا تتوقف المخاطر التي تتعرض لها العاملات عند مخاطر الرحلة اليومية نحو العمل بل هنّ أيضا عرضة للاستخدام الخاطئ للمبيدات ومنهنّ من فقدت حاستيْ الشم والتذوق. هؤلاء اغلبهنّ انخرطن في العمل الفلاحي إراديا وفقا للدراسة المذكورة دافعهنّ في ذلك صعوبة الظروف المعيشية والمشاكل المالية لهنّ ولاسرهنّ. ويعاني هؤلاء بالإضافة الى ظروف العمل غير اللائق والرحلات اليومية المحفوفة بمخاطر الموت المفاجئ جرّاء الحوادث المرورية المتكررة حالة من التمييز على أساس النوع الاجتماعي فتحصلن على اجر اقل من العمّال فالعاملة في القطاع الفلاحي في معتمدية الشابة تحصل على اجر يومي قدره 7 دنانير فيما يحصل الرجل على أجر يومي قدره 14 دينارا ومن المفارقات ان الحمار المستخدم في الاشغال الفلاحية يحصل على اجر يومي قدره 15 دينارا. تمييز وظروف عمل غير لائقة لا يمكنها باي حال من الأحوال ان تحقق ولو فصلا صغيرا من آمال هؤلاء ضحايا الشقاء. وضع تلخّصه الشهادة التالية: «مِلِّي يِبْدى النهَارْ وَأنَ نِسْلِتْ، ضَحِّيتْ بِحَيَاتِي الكُلْ عَلَى خَاطِرْ أَوْلاَدِي وقرَايِتْهِمْ وبَاشْ يكُونْ عِنْدهُمْ سُكْنَى بَاهِية. نُخْرُجْ وُجُوهْ الصبَاحْ ونرْوَّحْ الدِّنْيَا ظلاَمْ ومَازلْت مَا وصِلْتِشْ» وهي شهادة لعاملة فلاحية كانت من ضمن المستجوبات في الدراسة المذكورة. شهادة تؤكد استحالة تحقيق الحلم بظروف حياة أفضل في ظلّ واقع مهني هش ولا يطاله القانون. في المحصلة ما حصل صباح امس في سبالة أولاد عسكر قد يتكرّر في ظلّ غياب البرنامج الوطني الواضح لتنظيم قطاع يشغل نصف مليون طاقة انتاج وهو قطاع منتج وحيوي ولكنه قطاع ملغوم بالمخاطر الصحية والاجتماعية وفيه تجاوزات كثيرة للقانون. فمتى سنوقف هذا النزيف؟ موقف الاتحاد العام التونسي للشغل إدانة للمجزرة في حق عاملات القطاع الفلاحي أصدر الاتحاد العام التونسي للشغل صباح امس بيانا حول ما أسماه ب"المجزرة" في حق عاملات وعمّال القطاع الفلاحي إثر الحادث الذي جدّ في سبالة أولاد عسكر بسيدي بوزيد. وعبّر الاتحاد في بيانه عن صدمته من الحادث المروّع الذي راح ضحيته « أكثر من 15 عاملة فلاحية فقدن الحياة وسقوط عدد آخر من الجرحى هنّ في حالات متفاوتة الخطورة وهنّ ينقلن في ظروف غير آمنة وغير قانونية إلى مواقع العمل في منطقة السبّالة من ولاية سيدي بوزيد». وأدان الاتحاد «بشدّة استمرار تجاهل نقل العملة الفلاحين في ظروف غير إنسانية وغير آمنة أمام صمت السلط وعجزها ويحمّلها مسؤولية استمرار هذا الوضع ويطالب باتّخاذ الاجراءات القانونية لمنع تكرارها وحماية العملة الفلاحيين من الحيف والتهميش». وذكّر بانه «على الرغم من توصّله لإمضاء اتفاقية إطارية مشتركة للعملة الفلاحيين بين الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري واتفاقية خاصّة بنقل العملة الفلاحيين إلاّ أنّها بقيت حبرا على ورق ولم تجد طريقا لتفعيل ما ورد فيها من حقوق من خلال تشريعات وقوانين واتفاقيّات قطاعية صارمة تضمن الحدّ الأدنى من الأمان والحماية وتصون كرامة العاملات والعاملين في المجال الفلاحي».