سيكون من العبث أن تتواصل الحياة الوطنيّة بمثل ما هي عليه الآن، وسيكون من الغباء أن لا تذهب النُخبة إلى مبادرات عاجلة لإعادة قاطرة الوطن إلى مسارها الصحيح والمطمئن للمستقبل. حالة من الخوف والتيه والتسيّب والانفلات المجتمعي، ربّما لم يسبق للبلاد أن عاشتها، ووضعٌ سياسيّ يكتنفهُ الغموض والضبابيّة وطغيان المصالح والحسابات الضيّقة، وأفقٌ إقليمي يُنبئ بمزيد من التطوّرات والإكراهات، والتي من المؤكّد أن تكون لها ارتدادات على الوضع المحلي. أحسن رئيس الحكومة في كلمته في اختتام المؤتمر التأسيسي لحركة تحيا تونس، توصيف الراهن الصعب والمعقّد وما لحق الممارسة السياسيّة من رداءة وسوء بلغت حدّ المؤامرات و"الضرب تحت الحزام"، على حدّ عبارته، وإظهار الكثيرين عكس ما يُخفونه تحت الطاولة من حسابات ودسائس. فالحكومة الحالية وحيدة دون سند سياسي قوي، تبدو في منتهى الضعف والإنهاك، عاجزة حتّى عن تأمين تصريف عادي لشؤون الحياة اليوميّة، ولم يكن الإلتجاء للأمنيين والجيش في أزمة المحروقات إلاّ دليلا على عجز المدنيّين، إداريين وأحزاب وقوى نقابيّة ومجتمعيّة مختلفة، عن المسك الجيّد بشؤون الدولة، وهو تحوّل خطير في مسار تجربة الانتقال الديمقراطي وطبيعة الدولة المدنيّة المأمولة ورفض عسكرتها. والخطر اليوم، في ظلّ تزايد الأزمات وحالة التخبُّط العامَّة، في أن تتضاعف الحاجة الى استدعاء المؤسّسة الأمنيّة والعسكريّة لفضّ النزاعات المدنيّة والتعويل عليها أكثر في إدارة الشأن العام اليومي، بما سينحرفُ بها عن أدوارها الأساسيّة ويشغلها عن مهمّات مصيريّة في مكافحة الإرهاب وحماية الحدود الترابيّة للبلاد. من الحكمة اليوم، أن تتنادى النخبة السياسيّة، وفي مقدّمتها الفاعلون الكبار، لإدارة حوار هادئ ومسؤول وعاجل لإيجاد منفذ لإخراج البلاد من المأزق الخطير الواقعة فيه الآن، ونقل منظومة الحكم الحاليّة من حالة العطالة والضعف والاضطراب التي أصابتها منذ الانحراف بها عن سياسة التوافق ووأد التجربة الحوار الوطني في ماي 2018. الأزمة في عُمقها، أزمة منظومة حكم معزولة لا تُحظى بسند سياسي وحزبي ومجتمعي قويّ، منظومة محلّ تجاذب واسع، المخفي منه أكثر من المُعلن، منظومة أصبحت اليوم فاقدة للمصداقيّة ومحلّ تشكيك كبير في نزاهتها وحياديّتها وخدمتها للشأن العام، متّهمة بكونها مُرتهنة لأحزاب بعينها، بل لأشخاص معيّنين وتحمي لوبيات مصالح وتنفّذ اجندات لأطراف خارجيّة. اهترأت منظومة الحكم الحالية، وبلغت، بحسب معطيات الواقع، مداها، ولم تَعُد قادرة على الإقناع وكسب ثقة المواطنين، ناهيك عن المبادرة وتحريك المياه الراكدة وإيجاد الحلول العاجلة للأزمات المتصاعدة وتأمين الطريق إلى الانتخابات القادمة، لذا سيكون من المُخاطرة والسلوك المُغامر أن تُواصل مكونّاتها التنفيذيّة والتشريعيّة عنادها وأن يستمرّ الإئتلاف الحاكم أساسا في تجاهل المآلات المجهولة لوضع سمتهُ الطاغية الفوضى، يُهدّد الراهن ويمسّ قيم الوحدة الوطنيّة والعيش المشترك ويدفعُ بالتجربة الديمقراطيّة الى أفق مسدود. لا يُمكن للوضع أن يستمرّ على ما هو عليه، ولا بدّ من شيء يُفضي حركيّة جديدة بعناوين التوافق الواسع والثقة والانكباب على معالجة قضايا المجتمع المعقّدة وإخراج المواطنين من حالة الاختناق التي هم عليها، ومنح الدولة مجالا لاستعادة أنفاسها المنهمكة ومباشرة مهامها بعيدا عن كلّ المنازع الضيّقة والانتهازيّة والغنائميّة والطموحات المنفلتة و"الضرب تحت الحزام" والهوس المرضي بالسلطة والحسابات الانتخابيّة السابقة لأوانها.