في هذا الشهر الكريم تزداد نجوميّة الدعاة ويتضاعف الإقبال على برامجهم ومتابعتهم الشيء الذي يجعل واضعي الشبكات الإعلامية يخصصون مساحة للمادة الدينية تماشيا مع متطلبات الشهر وحرصا على جذب الاهتمام وتحقيق أعلى نسب المشاهدة والاستماع. أيضا في نفس هذا الشهر يهتم المصلون أكثر من بقية الأشهر الأخرى بالإمام الذي سيرافقهم خلال شهر رمضان في صلاة التراويح والجمعة وهناك من ينجح في شد الانتباه ويصبح نجما حقيقيا . لذلك فنحن أمام حقيقة تأثير هؤلاء الدعاة والأئمة والجاذبية الشعبية التي يتمتع بها العديد منهم، مما يؤكد دورهم وخطورتهم في نفس الوقت. وفي الحقيقة لاحظت منذ سنوات أثناء إعدادي لأطروحة الدكتوراه وكان مجال اهتمامها علم الاجتماع الديني أن الأئمة ودعاة البرامج الدينية يقاربون موضوع الدنيا بمضامين خطيرة جدا دون أن يحرك متلقي هذا الخطاب ساكنا. فالدنيا في جلد دائم من الدعاة والأئمة وغالبية الخطب الدينية سواء أعلنت ذلك أو أخفته فهي تشن حربا متواصلة مقدسة ضد الدنيا والاستمتاع بالدنيا. لذلك ارتأينا مناقشة ظاهرة تبخيس الدنيا في الخطاب الديني الإعلامي والمسجدي. إنّ كيفية تصورنا للأشياء محدد أساسي لعلاقتنا بها. ولعل الدنيا ليست بالشيء الهين أو البسيط حتى نهمل تصورنا لها وهو الذي يصيغ تصورنا لكل شيء. لنطرح سؤالنا بكل بساطة ومباشراتيّة: كيف ننظر للدنيا نحن المنتمون للثقافة العربية الإسلامية؟ طبعا إثارة معطى الانتماء في هذا السياق لا غنى عنه باعتبار أن كيفية البناء الرمزي للدنيا والحياة هو أساسا نتاج البنية الثقافية وخصوصا الدين كمكون رئيس من مكونات الثّقافة. ولكن لماذا هذا السؤال؟ تبدو لي الإجابة بديهية جدا لأني أفترض أن ما نعرفه من تأزم وتوتر وارتباك ولخبطة وانفصام إنما يعود إلى تصورنا للحياة والدنيا. ذلك أن كيفية تصور الحياة يحدد موقعنا بها ودورنا ووظيفتنا فيها ومن ثمة ما ننجزه فيها. عندما نتعمق في الخطاب الذي يقدمه الدعاة اليوم في المنابر الإعلامية وفي الفضاءات الدينية وتحديدا فضاء المسجد نجد أن المضمون المهيمن على هذا الخطاب هو تبخيس الدنيا والتقليل من شأنها: فهي دار ابتلاءات ولا شيء فيها يستحق التعلق أو الحزن من أجله. وهي ممر لا غير وكلما كان حظنا من متاع الدنيا قليلا أو معدوما كانت الآخرة أفضل. وفي الحقيقة هناك مشكلتان في هذا الخطاب: المشكلة الأولى أنه يُسوق لفكرة ليست صحيحة ويتعاطى مع النصوص الدينية المرجعية للدين الإسلامي بشكل انتقائي منزوع السياق. ذلك أن القرآن المرجع الأصلي للدين الإسلامي يزخر بمعاني طلب العلم والعمل والأخذ بنصيب من الدنيا. كما أن تجربة الدنيا امتحان لكفاءة الإنسان في الوجود وإلى أي حد يمتلك العزيمة والقوة والإرادة وقادر على صنع الخير والجمال والمحبة والفرح. فالدين الإسلامي نهانا عن الحزن حتى في أعظم المصائب. أما المشكلة الثانية الخطيرة جدا فهي أن مثل هذا الخطاب يؤثر سلبيا على الشباب العربي المسلم ويشجعه على الانغلاق والاستسلام واستعداء الطموح في الحياة والقطع مع الدنيا مع ما يعنيه ذلك من كبت للذات البشرية وقمعها الشيء الذي يجعلها بمثابة القنبلة الموقوتة. بل إن مثل هذا الخطاب الذي يتعسف على الإنسان، يستبطن مديحا للفشل والتخلف والتقهقر في مجالات الحياة كافة ويؤسس لقبول الهزائم ومؤشرات الضعف.