من حق التونسيين معرفة تفاصيل تاريخهم وخاصة القريب منهم والمؤثر فيهم بما يتضمنه من أوجاع وآلام... ومن حق التونسيين بعد الثورة في عدالة انتقالية تكشف الحقيقة، تسائل، تحاسب، تجبر الضرر وتعيد الاعتبار لأصحاب الحق، من حق تونس أن تعيد الاعتبار للزعيم صالح بن يوسف كرمز من رموز الوطن، لكن في المقابل ليس من حق العدالة الانتقالية أن تضع أحد رموزها وهو في عداد الأموات على مقصلة القضاء لمحاكمة تاريخية بمفردات القانون الجزائي. العدالة الانتقالية وبمحكمتها المختصة التي انطلقت في محاكمة المشتبه بهم في قتل الزعيم صالح بن يوسف، وضعت في هذه الفترة من هذا العام من هذا القرن أمامها روحا للنهش الداخلي ونفسا للتمزيق الخارجي، وفتحت بابا كبيرا لتصفية الحسابات لا مع صاحب الجسد بل مع موطن هذا الجسد تونس. العدالة الانتقالية التي كان بإمكانها أن تكتفي بمحاكم التاريخ في القضايا التي تمزق الوطن، نجحت اليوم في شحذ سكاكين خصوم بورقيبة داخليا وخارجيا لا لتمزيق رفاته، بل لتمزيق فكره بغثه وسمينه ومحاكمة أفكاره في المرأة والتعليم والصحة والشرعية الدولية بمفردات الحاضر وبنصوص القانون وفصول المجلة الجزائية. هذه العدالة الانتقالية المثيرة للجدل منذ الإعلان عن تأسيس هيئتها، والمثيرة للضغائن في نهاية مدة عملها، نجحت في تقطيع وحدة التونسيين الممزقة أصلا في مرحلة دقيقة من تاريخ تونس المتطلعة إلى مستقبل أفضل يقطع على الأقل مع ما نحن فيه في انتظار أن نحلم بما تحلم به الشعوب. منطوق الحكم معلوم من الآن :إدانة بورقيبة، و"تنفيذ" الحكم ببعده القضائي والتاريخي سيكون على حساب حاضر التونسيين ومستقبلهم ..سيكون على حساب صورة تونس في الخارج التي سيتردد ان من حكمها " سفاح قاتل " يداه ملطخة بالدماء كتب بها فصول مجلة الأحوال الشخصية وعمم بها التعليم والصحة وقمع بها الحريات واغتال بها بن يوسف ! من حق أنصار الزعيم بن يوسف أن يستمتعوا بموسيقى أحكام قضائية لا تشتهي أذان أنصار بورقيبة الاستماع إليها ..بل هم ينتظرون هذه اللحظة التاريخية لمحاسبة التاريخ وتصفية الحسابات مع الحاضر الانتخابي. أنصار الزعيم بن يوسف ينتظرون الحكم العادل في وقائع تاريخية غاب عنها متهمون وانتقل مورطون منهم إلى الرفيق الأعلى وغيبت التحقيقات الأولية المشتبه بهم لأسباب قد تكشفها المحاكمة نفسها إن لم تتخل أصلا عن الملف لتتركه لعدم الاختصاص وتحوله إلى محكمة التاريخ. قضية بن يوسف وبورقيبة قضية خلافية بين كل التونسيين، وقد زج بالقضاء ليصدر حكما تاريخيا أكثر منه قضائيا لتفتك بذلك الهيئة المنتصبة منابر المؤرخين الذين حين يتعاملون مع التاريخ فإنهم يتعاملون في العادة مع روايات لا تكتسي بصفة عامة الوثوقية التامة لإصدار الأحكام المطلقة، ومع ذلك تصر هيئة الحقيقية والكرامة على إصدار حكم قضائي « نهائي وبات» قد يخلف جرحا عميقا في الذاكرة الوطنية في حق بورقيبة وبن يوسف الغائبين عن المحاكمة والحاضرين في الأذهان.