إذا كان الفرنسي إدغار موران (Edgar Morin (يرى أن الثقافة الحديثة، من غير الممكن استيعابها خارج مظاهرها الأكثر صراعا، فإن السلوك التدّيني للكثير من الأفراد في مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم يمكن اعتباره مظهرا نزاعيا مركّبا ومحيّرا في نفس الوقت. ذلك أن ملاحظة تلك التغيرات التي يُترجم القدر الأكبر منها خصائص العلاقة باللاعقلاني، ربما تندرج في إطار حالة التمّزق «إزاء العديد من العناصر الثقافية» التي لا نستطيع أن يستوعبها جميعا ولا أن نرفضها ببساطة. غير أنه في ذات الوقت هناك حقيقة يجب الاعتراف بها وهي أن معالجة الأحداث المتتالية والكثيرة وممارسة في الوقت نفسه فعل البناء والتأمل العميق الرصين من الأشياء الصعبة جدا. ذلك أن تراكم الأزمات تجعل المجتمعات والنخب أيضا مأخوذة بالآني إلى حدّ النخاع وإهمال المعالجة من الجذور أو ذلك التوق إلى الفهم المعمق الذي لا يتم بلوغه ومعانقته إلا بالتعرف على الأسباب التي لا تتحقق نسبيا بدورها إلا بالقبض على الأسباب الأكثر تحكما في إنتاج الظواهر. ولكن رغم هذه الصعوبة فإنّه لا مفر من المحاولة والإقدام بكل شجاعة وصفاء ذهني على المعالجة العلمية للظواهر بعيدا عن ضجيج المعالجات الإعلامية والسياسيّة والأمنية. ولعل الظواهر الدينية أو ذات الصلة بشكل من الأشكال أو الحاملة لبعد من أبعاد الديني تعد من الظواهر الأكثر تعقيدا والتباسا في الوقت الراهن. ذلك أن الدين مقوم اجتماعي أساسي مهما قطعت المجتمعات من خطوات في العلمانية والتحديث وفي العقلنة. ولئن تعدّدت محاولات تحديد مفهوم الدين بشكل حقق تراكما علميّا ثريا ومتنوعا حيث تعدّدت زوايا المقاربات التي شملت الجوهر والوظيفة والرموز، فإن الدين كجانب أساسي من البناء الاجتماعي للواقع، قد بدأت المحاولات الأولى لفهمه ودراسته انطلاقا من القرن الثامن عشر ميلادي، الذي عرف ظهور الفكر العلمانيّ والتشكيكيّ في كل من فرنسا وانقلترا وهو فكر مرتبط بالتراث العقلانيّ الذي يتناول المسألة الدينية من منطلق علماني ويقوم بإخضاع الروحي والديني إلى آليات تحليل محض عقلانية. وعليه من المهم الانتباه إلى أنه رغم طبيعة السياق الفكري التاريخي للنشأة البحثية لمفهوم الدين، فإن كل المدارس السوسيولوجية الكلاسيكية قد أجمعت على الدور الحاسم للدين مؤكدة أنه لا توجد مجتمعات غير متدينة بشكل أو بآخر. وتنص الفكرة المتواترة كثيرا في بحوث فيبر على أن كل جماعة اجتماعية تسعى من خلال اللغة ونسقها القيمي إلى تلبية ما يسميه « الحاجة الرمزية» وهو ما يعني أن تأثير الدين في المجتمعات البشرية من الأهمية الحيوية ما جعل المختصين في العلوم الاجتماعية المعنية بالدين، يقرون بقيمته الوظيفية الكبيرة ويعترفون في الآن نفسه بجدواه الاجتماعية. سأدخل في الموضوع مباشرة: إن المسألة الدينية هي من المسائل التي تدرس في بلداننا في كليات وأقسام الفقه والشريعة وعلم الكلام والتفسير وغيرها. أي أنّها من مشمولات العلوم الشرعيّة. وهذا طبعا أمر جيد ومهم لأن الدين معرفة مختصة ذات فروع ولا بد من تدريسها بدقة كي تتخرج أجيال وكفاءات متخصصة في معرفة حساسة ودقيقة تتصل بالدين. بمعنى آخر فإن تدريس الدين ضمن العلوم الشرعية أمر مهم وضروري ولكن حسب تقديرنا غير كاف. فكيف ذلك ؟