نُذكّر هنا بأنّنا لم نعثر على أيّ خبر صريح يحدّثنا عن تعاطي العلوم بجامع الزّيتونة خلال فترتنا. بل يظهر أنّ العلماء كانوا أحيانا يلقون دروسهم على الطّلبة سواء ببيت الطّالب نفسه، من ذلك أنّ عليّ بن زياد كان يأخذ معه الموطّأ، ويتّجه به إلى مقرّ إقامة سحنون. أو كان الشّيوخ يُلقون دروسهم ببيوتهم، مثل الوليّ محرز بن خلف (ت. 413/1022) الّذي «كان يقرئ الصّبيان بداره». أو ببعض المساجد الصّغيرة بالمدينة، مع العلم أنّ المدارس بإفريقيّة آنذاك لم تظهر بعدُ، إذ أنّ أوّل مدرسة بالمغرب الإسلامي، وهي الشّمّاعيّة، أنشأها أبو زكرياء يحيى الحفصي بمدينة تونس، بين سنتي 634/1236 و647/1249. لكن ما هو المانع من التّدريس بجامع الزّيتونة خلال فترتنا خاصّة وأنّ قدوم نسبة هامّة من الطّلبة على مدينة تونس من جهات مختلفة، يجعل عددهم مرتفعا. فَبَيْتُ المدرّس أو المسجد الصّغير لا تسعانهم، بخلاف جامع الزّيتونة. ثمّ بالعودة إلى ترجمة زيد بن بشر (ت. 242/856)، لاحظنا أنّ هذا الأخير كان يمرّ ناحيّة «المسجد الجّامع»، ومعه الطّلبة، إشارة عابرة تسمح لنا بالقول إنّ الدّروس كانت تُلقى بهذا الجّامع. وإذا أضفنا إلى هذه المعطيات الإصلاحات الّتي أدخلها الأغالبة على جامع الزّيتونة، ربّما كتقدير لرسالته التّعليميّة، فإنّه من الممكن أن نستنتج أنّ الدّروس كانت تُلقى فعلا بجامع الزّيتونة على الأقلّ منذ القرن 3 ه/9 م، بل ربّما منذ القرن 2ه/8م. على أنّ هذه الدّروس لم تُصبح منتظمة ورسميّة هناك إلّا منذ القرن 7 ه/13 م، أي منذ العهد الحفصي. ويظهر أنّ الطّرق المتّبعة لإلقاء هذه الدّروس خلال فترتنا كانت كثيرة، نذكر منها اثنتين: الأولى تتمثّل في «السّماع». فقد كان شجرة بن عيسى (ت. 262/875) حرّك ابنه للسّماع، إذ أنّه لاحظ غيابه عند خروجه للسّماع. والطّريقة الثّانيّة تتمثّل في استعمال اللوح، خاصّة لتحفيظ القرآن. على أنّ لقمان بن عيسى الغسّاني (ت. 319/931) «مكث...أربعة عشر سنة يدرّس المدوّنة ويكتبها في اللوح». لماذا المدوّنة بالخصوص، تلك الّتي ألّفها سحنون بن سعيد في الفقه المالكي ؟ إنّه تعبير واضح على تقديم مدينة تونس المذهب المالكي. هذا المذهب الّذي انتهى بالسّيطرة ببلاد المغرب الإسلامي. والمذهب المالكي هو نسبة إلى الإمام مالك بن أنس (ت. 179/795)، عالم دار الهجرة، أي المدينة. وعن هذا الإمام تتلمذ مئات الطّلبة، نذكر من أقدمهم وأشهرهم علي بن زياد التّونسي (ت. 183/799)، الّذي يُعتبر رائدا في إدخال المذهب المالكي إلى بلاد المغرب. «وهو أوّل من أدخل المغرب جامع سفيان الثّوري، وموطّأ مالك، وفسّر لهم قول مالك، ولم يكونوا يعرفونه». تمّ ذلك حوالي سنة 150/767. وقد عَمَل ابن زياد على نشر المذهب المالكي بإفريقيّة منذ منتصف القرن 2 ه/8 م، كما ألّف كتبا على مذهب مالك من أشهرها كتاب «خير من زنته». يتبع