قال البكري متحدّثا عن مدينة تونس: «ومدينة تونس دار علم وفقه، ولي منها قضاء إفريقيّة جماعة كثيرة». وهو دليل واضح على نشاط الحياة الثّقافيّة والعلميّة بتلك المدينة خلال القرون الهجريّة الأولى. ومن جهته خصّ أبو العرب (ت. 333/944) علماء مدينة تونس الّذين عاشوا في القرنين 2 ه/8 م، و 3 ه/9 م، بفصل من كتابه، فجاء عنوان هذا الكتاب «طبقات علماء إفريقيّة وتونس». ما هي أهمّ مظاهر هذا النّشاط الثّقافي بمدينة تونس منذ القرن 2 ه/8 م ؟. قَبْل اشتهارها بمنافستها للقيروان على المستوى العسكري والسّياسي، يظهر أنّ مدينة تونس نافست القيروان على المستوى العلمي. فقد عُرف علماؤها في العالم الإسلامي بصفة مبكّرة قبل أن تتدعّم شهرة القيروان ذاتها. من ذلك نذكر مثلا خالد بن أبي عمران التُّجيبي (ت. 125/742)، أشهر وأقدم عالم بمدينة تونس. فقد عُرف بكثرة حفظه للأحاديث، من ذلك أنّ الإمام مالك بن أنس (ت. 179/795) روى له في الموطّأ، كما روى له مسلم في صحيحه. وهو المظهر الأوّل لهذا النّشاط الثّقافي بمدينة تونس. أمّا المظهر الثّاني لذلك، فهو يتمثّل في عرض ولاة إفريقيّة القضاء على البعض من علماء مدينة تونس نتيجة لقلّة أمثال هؤلاء بالقيروان. فمنهم من رفض ذلك، مثل علي بن زياد التّونسي (ت. 183/799)، في عهد روح بن حاتم، وعبد الله بن غافق التّونسي (ت. 275/888)، الّذي «كانت له طاعة بتونس»، في عهد إبراهيم بن أحمد (261289/875902)، وأبي العبّاس الإبياني (ت. 352/963) في العهد الفاطمي. ومنهم من قبل ذلك مثل خالد بن أبي عمران التُّجيبي (ت. 125/742)، في عهد عبيد الله بن الحبحاب. أمّا المظهر الثّالث لهذا النّشاط الثّقافي بهذه المدينة، فهو يتعلّق بتوافد العلماء عليها، من ذلك مثلا زيد بن بشر الأزدي (ت. 242/856)، الّذي خرج من مصر، واستقرّ بمدينة تونس يُسمع الطّلبة. كما توافد على مدينة تونس طلبة العلم من القيروان مثل سحنون بن سعيد (ت.240/854) الّذي كان يقول إنّه «إذا اجتمعت له نفقة، خرج إلى علي بن زياد صاحب مالك في تونس يطلب عليه العلم». إلى جانب ذلك، كان البعض من فقهاء القيروان يكثرون من استشارة علماء مدينة تونس في عدّة مسائل فقهيّة. فقد كان أهل العلم بالقيروان، إذا اختلفوا في مسألة، كتبوا بها إلى علي بن زياد ليخبرهم من على الصّواب فيها». وعليه، يمكن أن نستنتج أنّ مدينة تونس كانت مركزا علميّا مشعّا على مستوى إفريقيّة كلّها، بما أنّ الطّلبة يقدمون إليها بهدف التّعلّم. ويدور التّعليم آنذاك في فلك العلوم الدّينيّة من فقه وحديث...، إلى جانب تعليم اللّغة وغيرها. والسّؤال المطروح: أين يقع تعاطي هذا التّعليم؟ هل كان ذلك بجامع الزّيتونة ؟. يتبع