نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. العيّاشي (أبو سالم عبد الله بن محمد): 1628 – 1679 م وبعد خروج الأركاب، كالركب المصري والركب الشامي، من المدينة، همدت الأسواق واتّسعت الطرق وصفا الجوّ لزيارة المساجد النبويّة بدءا بمسجد قباء (ص 129)، ومسجد القبلتين ( ص 132)، يليهما جبل أحد ومشهد حمزة (ص 134 – 136) والآبار ذات العلاقة بالنبيّ (ص) وهي سبع (ص 137 – 139) وحتّى الأودية (ص 140 – 141). «ومن عادتهم – والكلام للمؤلّف – في إقامة الصلوات الخمس بالحرم الشريف الصلاة في أوّل الوقت ما عدا الصبح للحنفي فيؤخّرونه إلى قرب الإسفار، فيصلّون الظهر أوّل ما تزول الشمس. وما يقيل غالب الناس إلاّ بعد الصلاة فيذهبون بعد الصلاة إلى منازلهم لنوم القائلة. وكان ذلك يشقّ علينا قبل اعتياده، فتكاد صلاة الظهر تفوتنا في المسجد لأنّا لا نتأهّب لها إلاّ بعد الأذان، وليس بين الأذان والصلاة قدر يسع التأهّب. فمن لم يتأهّب لصلاة قبل دخول الوقت فاتته الصلاة في الجماعة غالبا، وذلك خلاف السنّة في تأخير صلاة الظهر للجماعة إلى ربع القامة . وأوّل من يصلّي من الأئمّة الشافعي ثمّ الحنفي، إلاّ في صلاة المغرب فيتقدم الحنفي لضيق وقته عنده كالمالكي. ولا يؤمّ بالمدينة من الأئمّة سواهما من أرباب المذاهب إلاّ في الجمعة فيصلّي صاحب النوبة على أي مذهب كان، فيتناوب الإمامان الصلاة في المحراب النبوي، فإن صلّى أحدهما فيه صلّى الآخر في المحراب الآخر الذي على يمين المنبر الشريف . وأمّا المحراب العثماني الذي في الصفّ الأوّل فلا يصلّى فيه إلاّ في بعض أيّام الموسم إنّ كثر الناس» ( ص 155). ولم يغفل الرحّالة المغربيّ عن المنتوجات الفلاحيّة وأسعارها المشطّة وعن ولع أهل المدينة بأكل اللحم مقارنا بينهم وبين المغاربة في تحمّل الحرارة إذ يقول : « وأمّا الخضر فأكثرها وجودا الجزر والباقلا والملوخيّة والبامية والبصل واللفت . والخضر البرّية ليس فيها إلاّ الخبّيز. ولا يأكل أحد في تلك البلاد السمن القديم والشحم الغوي إلاّ أضرّ به ما لم يكن حديث عهد بالبلد، فإذا طالت إقامته في البلد تطبّع بطبعهم، وطبع ذلك البلد المشرق وهواؤه قلّما يوافق أحدا من أهل مغربنا الأقصى « (ص 158). وبعد أكثر من سنة من المجاورة بالمدينة وبمكّة في مجالس الفقهاء والمتصوّفة وتحصيل إجازات، أي شهادات علميّة منهم، زار القدس والخليل وغزّة ووقف على مدافن الأنبياء والأيمّة آخذا طريق العودة مرورا ببولاق وتوقّفا بالإسكندريّة (ص 169 – 261) . استعرض بعجالة تاريخها وآثارها كالمنارة، ونوّه بحمّاماتها وأسواقها وعدّد مزاراتها كقلعة أبي الحسن الشاذلي وجامعها الكبير حيث نسخة يعتقد أنّها أحد مصاحف عثمان الخمسة (ص 260). ثمّ توجّه إلى المغرب عبر طرابلس وتونس والجزائر (ص 263 – 290) . وكانت له محطّات على نفس الطريق، كما في الذهاب، أهمّها قابسوتوزر التي يقول عنها: «ومدينة توزر مدينة حسنة غزيرة المياه كثيرة الأجنّة والنخيل، ينساب فيها واد كبير، منبعه من غربيّها . وأعرابها أهل بادية مخصبة، فيرخص فيها غالبا سعر اللحم والسمن، وأمّا التمر فيها فرخيص جدّا «(ص 276). وكالعادة يعرّفنا بمن لقيهم من أهل العلم والفضل والصلاح حيثما حطّ الرحال حتّى بلوغ الأوطان. (انتهى)