ابداع في الامتحانات مقابل حوادث مروعة في الطرقات.. «الباك سبور» يثير الجدل    منها 617 م.د بيولوجية...عائدات تصدير التمور ترتفع بنسبة 19،1 ٪    بعد القبض على 3 قيادات في 24 ساعة وحجز أحزمة ناسفة ..«الدواعش» خطّطوا لتفجيرات في تونس    فضيحة في مجلس الأمن بسبب عضوية فلسطين ..الجزائر تفجّر لغما تحت أقدام أمريكا    هل تم إلغاء حج الغريبة هذا العام؟    شهداء وجرحى في غارات للكيان الصهيونى على مدينة رفح جنوب قطاع غزة    كأس تونس .. بنزرت وقفصة يعبران ولقاء جرجيس و«البقلاوة» يلفت الأنظار    أخبار الترجي الرياضي .. أفضلية ترجية وخطة متوازنة    وزير الشباب والرياضة: نحو منح الشباب المُتطوع 'بطاقة المتطوع'    انتخاب يوسف البرقاوي وزكية المعروفي نائبين لرئيس المجلس الوطني للجهات و الاقاليم    رئيس الجمهورية يُشرف على افتتاح معرض الكتاب    القصرين..سيتخصّص في أدوية «السرطان» والأمراض المستعصية.. نحو إحداث مركز لتوزيع الأدوية الخصوصيّة    بكل هدوء …الي السيد عبد العزيز المخلوفي رئيس النادي الصفاقسي    هزيمة تؤكّد المشاكل الفنيّة والنفسيّة التي يعيشها النادي الصفاقسي    تعاون تونسي أمريكي في قطاع النسيج والملابس    عاجل/ محاولة تلميذ الاعتداء على أستاذه: مندوب التربية بالقيروان يكشف تفاصيلا جديدة    حجز أطنان من القمح والشعير والسداري بمخزن عشوائي في هذه الجهة    معرض تونس الدولي للكتاب يعلن عن المتوجين    وزارة الصناعة تفاوض شركة صينية إنجاز مشروع الفسفاط "أم الخشب" بالمتلوي    القيروان: الأستاذ الذي تعرّض للاعتداء من طرف تلميذه لم يصب بأضرار والأخير في الايقاف    قيس سعيد يعين مديرتين جديدتين لمعهد باستور وديوان المياه المعدنية    ارتفاع حصيلة شهداء قطاع غزة إلى أكثر من 34 ألفا    الوضع الصحي للفنان ''الهادي بن عمر'' محل متابعة من القنصلية العامة لتونس بمرسليا    حالة الطقس خلال نهاية الأسبوع    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    حامة الجريد: سرقة قطع أثرية من موقع يرجع إلى الفترة الرومانية    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 5 آخرين في حادث مرور    انتخاب عماد الدربالي رئيسا للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    عاجل/ كشف هوية الرجل الذي هدّد بتفجير القنصلية الايرانية في باريس    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    نقابة الثانوي: وزيرة التربية تعهدت بإنتداب الأساتذة النواب.    برنامج الجلسة العامة الافتتاحية للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    حادثة انفجار مخبر معهد باردو: آخر المستجدات وهذا ما قررته وزارة التربية..    كأس تونس لكرة السلة: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ربع النهائي    انزلاق حافلة سياحية في برج السدرية: التفاصيل    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    بطولة برشلونة للتنس: اليوناني تسيتسيباس يتأهل للدور ربع النهائي    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    عاجل/ بعد تأكيد اسرائيل استهدافها أصفهان: هكذا ردت لايران..    توزر: ضبط مروج مخدرات من ذوي السوابق العدلية    عاجل: زلزال يضرب تركيا    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    رئيس الدولة يشرف على افتتاح معرض تونس الدّولي للكتاب    تجهيز كلية العلوم بهذه المعدات بدعم من البنك الألماني للتنمية    المنستير: ضبط شخص عمد إلى زراعة '' الماريخوانا '' للاتجار فيها    القيروان: هذا ما جاء في إعترافات التلميذ الذي حاول طعن أستاذه    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



براءة المالكيّة من الفتاوى التّحريضيّة الرّسميّة التّونسيّة الشّيخ خَمِيس الماجري
نشر في الحوار نت يوم 10 - 12 - 2009

براءة المالكيّة من الفتاوى التّحريضيّة الرّسميّة التّونسيّة
1/4
إنّ مجرّد القول بدون حجّة من شرع أو حقّ غلط فاحش وتكلّف طائش لا يجوز أن نسكت عنه حتّى لا يروّج القول فيقبل. وإنّ اتّهام المخالف دون وجه حقّ لمجرّد خلاف معتبر داخل الدّين هو الفتنة بعينها والظّلم الذي لا يقبله مسلم
الشّيخ خَمِيس بن علي الماجري
المقدّمة
طالعت في أحد أعداد جريدة الصّريح التّونسيّة لشهر جويلية 2009 جوابا لحضرة فضيلة المفتي في "فتوى" لسائل طلب منه أن يتدخّل لتوحيد صفة الصّلاة على المذهب المالكيّ، لأنّ الأستاذ السّائل غاضه أن يرى الشّباب يصلّون في مساجد تونس على هيئة السّنّة التي بلغتهم عن رسولهم صلّى الله عليه وسلّم، وجاء في إجابة فضيلته أنّ صلاة الشّباب على خلاف ما عليه "المالكيّة" الرّسميّة يعدّ فتنة ويهدّد الاستقرار والأمن الذي تنعم به البلاد في العهد الجديد كما قال .
وممّا جاء في فتوى سماحته:"..... حقا إن ما نشاهده من اختلافات في كيفية أداء الصلاة هو ظاهرة شبابية من شأنها إدخال الاضطراب ونشر الفتنة وزرع الخصام والتشاحن والحيرة لدى المصلين..." وقال"... ما يقوم به بعض الشباب بدعوى إحياء السنّة ونبذ المذاهب وخاصة المذهب المالكي تصرّف ساذج لا ينمّ عن معرفة حقيقية بالفقه المالكي وإنّما هي أقوال سمعوها أو قرؤوها في بعض المنشورات فرددوها عن غير وعي ..... ثمّ قال:"..... فلا يجوز تعكير صفو هذا المناخ الطيب بإثارة الفتن و إدخال الاضطراب و الحيرة بين المصلين.....".

قلت
وعند التأمّل في هذه "الفتوى" إن صحّت أن تسمّى كذلك، وجدتها قد جانبت الصّواب وحادت عن منهج أهل الحقّ والعلم، لأنّ مثل هذه الفتوى الخالية من الرّحمة والنّصح قد تستغلّ كأداة بطش أو انتقام من طرف غلاة ذات الشّوكة أو من طرف شباب مغامر.
فضيلة المفتي، اسمحوا لي أن يكتب إليكم طالب علم يغار على دينه ثمّ على بلده ويعمل على وحدة شعبه عبر عقيدته الموحّدة ومذهبها السّنّي الجامع.
ربما يكلّفني الدّفاع عن حقّ التّونسيّين في التّمسّك بالسّنّة تكاليف باهضة في واقع تونسيّ متوتّر وشديد الحساسيّة على كلّ من يدافع عن السّنّة ويتمسّك بها ويدعو إليها، ولكن ماذا نفعل والدّفاع عن الدّين واجب، وقد مضت سنّة الأوّلين. وإنّي إذْ أبحث في هذا الملفّ فإنّي لا أقصد أن أنتصر لطرف على آخر، بل أقصد الانتصار للحقّ بدليله، كما أقصد المساهمة في الإصلاح ما استطعت.
إنّ اختلاف النّاس فضيلة الشّيخ في النّاس قديم، لأنّه يستحيل أن يتّفقوا، كما يستحيل أن تكون أقوالهم كلّها صوابا، ومن ثمّ اختلف أصحاب رسول الله وخطّأ بعضهم بعضا ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقّبوها وراجعوها ولو كان قولهم كلّه صوابا عندهم لما فعلوا ذلك.
من أجل ذلك لم نسّلم بما جاء في"فتواكم"، لأنّ ما صدر عنكم ما هو إلاّ كلام مرسل، والكلام المرسل كما تعلمون ليس بحجّة باتّفاق كلّ المسلمين، ذلك أنّ القول في الدّين لا يقبل إلاّ بدليل، ولذلك قال أهل العلم: إنّ كلام العلماء يُحتجّ له ولا يُحتجّ به.
ثمّ إنّ جوابكم بدا لي أنّه يخالف أصول مالك البيّنة ومذهبه المحقّق.
وكلّ النّاس سعادة المفتي رادّ ومردود عليه إلاّ المعصوم محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قال الإمام مالك:"ليس أحد بعد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلاّ ويؤخذ من قوله ويترك إلاّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم"1 .
إنّ مجرّد القول بدون حجّة من شرع أو حقّ غلط فاحش وتكلّف طائش لا يجوز أن نسكت عنه حتّى لا يروّج القول فيقبل. وإنّ اتّهام المخالف دون وجه حقّ لمجرّد خلاف معتبر داخل الدّين هو الفتنة بعينها والظّلم الذي لا يقبله مسلم"يا عبادي إنّي حرّمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا"...
والاعتراض على كلامكم فضيلة المفتي من وجوه:
أوّلها: أصول الإسلام
الثّاني: أصول الإمام مالك رحمه الله تعالى.
الثّالث: أقوال المحقّقين في المذهب المالكيّ.
إنّ الشّبهة سبب عظيم لشيوع كثير من الباطل بين العوام لكونها مركّبة من حقّ مع ما فيها من الباطل وإزالة الشّبهة أمر واجب.
هذا ولتعلموا فضيلة الشّيخ أنّي لم أقصد من خلال هذا الرّدّ أن أطعن في شخصكم المحترم، لأنّ الأصل في الأشياء أنّ المفتي يحتلّ موقع الوالد، ولكنّه حوار علميّ هدفه النّصح وإبراء الذّمّة وإقامة الحجّة ودفاعا عن مذهب مالك وأصوله وحماية لشعبي من الفتنة، وفرارا من زاوية الشّيطان، لأنّ السّاكت عن الحقّ شاهد زور وشيطان أخرس، أو هو على حدّ قول العلاّمة ابن عاشور رحمه الله تعالى من أجل:"تخليص معاني الشّريعة من الاشتباه والالتباس".
وقبل الخوض في مناقشة ما طرحتم، أقدّم بين أيديكم مسلّمات علميّة يسلّم بها كلّ منصف..

الواقع الذي جاءت فيه"الفتوى"
إنّ من المسلّمات الواقعيّة التي لا ينكرها إلاّ جاحد أنّ الوضع العام في تونس يشهد تنامي ظاهرة صحوة إسلاميّة جديدة غلب على تديّنها التّمسّك بالسّنّة شكلا ومظهرا وتعبّدا، تتّهم بأنّها "سلفيّة مشرقيّة منغلقة متطرّفة" تجلب الفتنة والحرب على تونس"الآمنة المستقرّة والوسطيّة المعتدلة".
ومن أجل محاصرة هذه الصّحوة الجديدة والحدّ من"شرّ ها" اتّخذت الدّولة جملة من الإجراءات المتزاحمة، فعقدت النّدوات والمؤتمرات القطريّة والإقليميّة والدّوليّة المهتمّة بقضايا الشّباب ودعت مفكّرين عربا ومسلمين للمشاركة في تلك التّظاهرات، بل دعت بعض المشائخ الذين كانت منذ زمن قريب تعدّهم أعلاما للتطرّف منهم القرضاوي والعودة.
هذا، وقد عمد الجهاز الدّينيّ الرّسميّ في تنفيذ خطّة لتعزيز فقه المذهب المالكي الرّسميّ "الوسطي" في البلاد تقوم على توزيع عدد من المطبوعات التي توضّح كيفيّة أداء بعض العبادات وفقا للمذهب المالكي. كما تستعدّ وزارة الشّؤون الدّينيّة لإصدار الطّبعة الثّانية من كتاب يتيم تحت مسمّى"السّند التّونسيّ في ممارسة الشّعائر"، التي صدرت الطّبعة الأولى منها سنة 2008.
ويضمّ الكتاب محاضرات عن "خصائص المدرسة الفقهيّة ّالمالكيّة" و"دور المدرسة الكلاميّة بإفريقيّة في مواجهة الغلوّ والتّطرّف" وأثر العبادات المالكيّة في توحيد الشعائر" و"الفتاوى التّونسية في الحجّ"وأثر العبادات في التّراث الحضاري التّونسي".
كما ذكر السّيّد المفتي في "فتواه" أنّ المجلس الإسلامي الأعلى أعدّ كتابا في الصّلاة وهو تحت الطّبع بأسلوب سهل و ميسّر على مذهب مالك لإزالة الخلافات ومحو الشّكوك بين المصلّين.
هذا وقد توسّعت "صحوة" السّياسي الرّسميّ باهتمامه بالمذهب المالكيّ فطالت كلّ دول المغرب العربي فتنادت أن اغدوا واصبروا على"مالكيّتكم" من الخطر العظيم الزّاحف المستهدف لأمن بلداننا "الموحَّدة" من الهجمة الشّرسة الهدّامة التي تستهدف وحدتنا وإنجازاتنا الحضاريّة الضّخمة ومؤسّسات الحداثة المدنيّة الجبّارة، إنّها القنبلة الذرّيّة والفيروس القاتل"السّلفيّة" المحرّفة للدّين المخرّبة للمكتسبات.
والواضح أنّ الحاجة هي التي ألجأت القوم للإهتمام البارد بالمذهب المالكي لاستخدامه كأداة لتحجيم تنامي ظاهرة التديّن السّنّي بين الشّباب أو الحدّ منها أو استئصالها.

ثانيا: المسلّمات العلميّة
أصول يحذر منها من تصدّر للفتوى I
1 تفزع بعض قوى النّفوذ والشّوكة عادة إلى الأجهزة الدّينيّة الرّسميّة لتفتكّ منها فتاوى تحقّق لهم مآربها، وهذا معلوم قديما وحديثا، ألم يفزع ساركوزي إلى شيخ الأزهر ليختطف منه فتوى تعطيه حقّ منع الحجاب في مؤسّسات التّعليم في فرنسا.
2 ليحذر المفتي في فتاويه من مظاهرة ومعاونة المتصارعين السّياسيّين المتربّصين الذين يستعملون الفتوى ويوظّفونها لتحقيق أهدافهم كتصفية الشّباب مثلا، وعلى هذا تكون الفتاوى أمّ كبائر الاستئصال.
3 يحذر المفتي من محترفي التّحريش ومشعلي نار الفتن بين أهل السّنّة، فإنّ دأبهم إشعالها بالصّالحين لضرب الصّالحين بالمصلحين، كما يحذر من الوقوع في أهواء النّاس وإرضائهم أو الوقوع في أسرهم وحيلهم وحبالهم.
4 المفتي والعالم هم من أهل الخير والفضل والدّين، ولكن قد يخدعون من طرف النسّاك فكيف بدهاقنة السّياسة، وقد خدع الإمام مالك بمن يبكي في المسجد النّبويّ وهو ليس من أهل العلم، فروى عنه الضّعيف والموضوع.
5 تقديم الدّين على أهواء السّلطان ودين الملوك إرجاء خطير، وتقديم الفتوى على أهواء النّاس ضلال كبير، قال تعالى:"يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ"2

أصول لا بدّ منها للفتوى II
1 تكفّل الله تعالى ببقاء هذا الدّين العظيم بأخذ العهد على أهل العلم أن يقولوا الحقّ ويبيّنوه للنّاس ولا يخشوا أحدا إلاّ الله عزّ وجلّ، وأن لا يقعوا في بدعة"الرّهبانيّة"، وهي ترك أهل السّلطان يتحكّمون في الدّين ويسكت أهل العلم عنهم.
2 علماء الإسلام هم في الأرض بمنزلة النّجوم في السّماء، بهم يهتدي الحيران في الظّلماء، وهم أطبّاء النّفوس في الأرض، يشفون صرعى الأهواء، وحاجة النّاس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطّعام والشّراب، لأنّهم المبلّغون عن الله مرادَه، ولذا لم يصلح لهذه المرتبة إلاّ أهل العمل والعمل والصّدق والصّدع.
3 من المقرّر، أنّ العلم إذا لم يكن للعمل فلا فائدة منه، ويصير وبالا وخزيا وحسرة وندامة على صاحبه، و هذا ينطبق على من طلب الدّنيا بالعلم الشّرعيّ واتّخذه وسيلة وغرضا للتّنعّم باللّذائذ والتّوصّل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها، وقد حذّر المشرّع من ذلك فقال" من طلب العلم ليجاري به العلماء، ويماري به السّفهاء، ويصرف به وجوه النّاس إليه أدخله الله النّار"3.
ولا شكّ أنّ الذين لم ينتفعوا بعلمهم لهم نصيب من قوله تعالى:"وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ"4
4 من الأصول المقرّرة و من الثّوابت المعتمدة لدى أهل السّنّة والجماعة أنّهم لا يتعصّبون للرّجال مهما كان فضلهم، أو الآباء مهما كانت درجتهم، لأنّ الله تعالى لم يأمرنا أن نتعبّده بالرّجال أبدا ولم يأمرنا أن نجعل أقوالهم سبيلا إليه حتّى توافق أقوالهم أقوال الشّريعة، لأنّهم لا يقبلون قول أيّ كائن مهما كان بغير حجّة و لا يتّخذون أقوال رجل بعينه مهما كان، بمنزلة نصوص الشّارع و لا يقلّدونه دون غيره ولا يلتفتون إلى قول سواه، و لا يعتبرون أقواله دينا إلاّ إذا وافقت نصوصُه نصوصَ الشّارع الحكيم.
5 أجمع المسلمون على أنّ من استبان له وجه الحقّ فعليه أن يفتي به ولا يخالفه. قال الشّافعي:"أجمع النّاس على أن من استبانت له سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فليس له أن يدعها لقول أحد سواه". وقد نقل غير واحد الإجماع عليه.5
وعليه فعلى المفتي أن يدلّ النّاس على الدّين ولا على المذهب، وأنّه ولو اشترط عليه السّلطان أن يفتي إلاّ على مذهبه، يبطل ذلك الشّرط، لأنّ الواجب على الجميع أن يطلبوا الحقّ من النّص البيّن لا إلى قول فقيه معيّن، وهذا هو السّبيل الذي كان عليه الإمام مالك. قال ابن القيّم:"لو شرط على المفتي ألاّ يفتي إلاّ بمذهب معيّن بطل الشّرط، ولا يجب التزامه بل ولا يسوغ"6.
6 التزام المفتي عدم الخروج عن رأي أو قول واحد في المسألة الشّرعيّة الخلافيّة محرّم وفاعله ظالم لنفسه، قال ابن تيمية:"الظّالم يكون ظالماً بترك ما تبيّن له من الحقّ، واتباع ما تبيّن له أنّه باطل والكلام بلا علم. فإذا ظهر له الحقّ فعدل عنه كان ظالماً"7 ، وقال ابن القيم:" ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه أن يفتي السّائل بمذهبه الذي يقلّده، وهو يعلم أنّ مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصحّ دليلاً، فتحمله الرّياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنّه أنّ الصّواب في خلافه فيكون خائناً لله ولرسوله وللسّائل
وغاشّاً له، والله لا يهدي كيد الخائنين، وحرم الجنّة على من لقيه وهو غاشّ للإسلام وأهله، والدّين النّصيحة والغشّ مضاد للدّين"8.
7 لا يقبل قولاً أو فتوى من أحد في الدّين إلاّ بحجّة، والحجّة هي الدّليل الشّرعي من كتاب الله تعالى أو سنّة النّبيّ ثمّ الإجماع المعتبر والقياس الصّحيح. أمّا أقوال العلماء وفتاواهم فليست حجّة في دين الله وليست من أدلّة الأحكام الشّرعية المذكورة في كتب أصول الفقه. ومن هنا قالوا"إنّ كلام العلماء يُحتجّ له ولا يُحتج به"، ومعنى"يُحتجّ له"أي إنّه مفتقر إلى الأدلّة التي تثبت صحّته.
8 المفتي وهو يجتهد في البحث عن الحقّ يصيب ويخطئ ككلّ إنسان، ولذا قسّم النبيّ المجتهدين إلى مصيب ومخطئ، فقال:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجرُ واحد"9.
9 كلّ مسألة اختلف أهل العلم فيها فالحقّ فيها واحد يوفّق الله تعالى إليه من شاء من عباده، وغيره من الأقوال خطأ يعذر فيه المجتهد لاجتهاده، ولا يتقيّد الحقّ بقول أحد معيّن من المجتهدين.
وتفريعاً لهذه القاعدة قرر المحقّقون من أهل العلم المنع من التزام مذهب فقهي دون غيره، قال ابن تيميّه:"إذا نزلت بالمسلم نازلة فإنّه يستفتي من اعتقد أنّه يفتيه بشرع الله ورسوله من أيّ مذهب كان، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كلّ ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معيّن غير الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في كلّ ما يوجبه ويخبر به، بل كلّ أحد من النّاس يؤخذ من قوله ويترك إلاّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو فتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله، ويبقى كلّ إمام في أتباعه بمنزلة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أمّته وهذا تبديل للدّين"10
10 أهل السّنة متبوعُهم الأوحد هو رسولهم صلّى الله عليه وسلّم، فهو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وهو الذي يجب تصديقه في كلّ ما أخبر، وطاعته في كلّ ما أمر، وأن نعبد الله تعالى كما بيّن، وهو الذي يجب أن يتعصّب له، وليست هذه المنْزلة لغيره من الأئمّة، بل كلّ أحدٍ من النّاس يؤخذ من قوله ويترك إلاّ قوله وأمره وفعله وإقراره صلّى الله عليه وسلّم.
11 تخصيص واحد من العلماء وتقليده دون غيره، هذا لا يكون إلاّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذ ليس في ديننا ما يفرّق بين العلماء والأئمّة، وليس فيه ما يلزم مساءلة عالم منهم بعينه، ولكنّه يلزمنا أن نسأل كلّ عالم لم يقدح في دينه ولم يتنازع في عدالته وصحّة أصوله، كما ألزمنا باتّباع الحقّ بدليله من أيّ إمام أو عالم كان، المهمّ أن نتبع القائل المستدلّ بالدّليل الذي يدلّ على صحّة ما يقول، والواجب على كلّ مؤمن موالاة كلّ علماء المسلمين وأن يقصد الحقّ ويتبعه حيث وجده، وأنّى وجده، ومن تعصّب لواحد من العلماء وتبعه في كلّ ما يقول واعتقد أنّ كلّ ما يصدر من شيخه هو حقّ فهذا قد جعل شيخه في مرتبة النّبيّ، وما عليه إلاّ أن يتوب من هذه الكارثة القاضية على دينه، لأنّ الذي أوجبه الله تعالى على جميع المسلمين هو إمامة الرّسول واتباعه إلى يوم القيامة و لم يجعل الله حجّة على أحد من النّاس إلاّ رجلاً واحداً وهو محمّد رسول الله، فمن اتبعه نجا و إن لم يسمع بمذهب مالك أو غيره أصلاً، و من خالفه هلك و شقي و لا ينقذه زعمه أنّه يتمسّك بمذهب مالك لأنّ مالكاً قد تبرّأ منه.
12 الإمام مالك و غيره من أئمّة أهل السّنّة ينقلون لنا سنّة رسول الله إذا صحّت فنقبلها و نعمل بها و ندعو لهم ونترحّم عليهم و لا نفضّل أحداً منهم على أحد، والذي نسأل عنه في قبورنا و في الحشر هو محمّد رسول الله.
13 من الخطر العظيم الذي يهدّد عقيدة المرء أن يصبح المذهب هو الأصل الذي يحتكم إليه النّاس، لأنّ هذا يطعن في وجوب توحيد الإمامة للرّسول و القبول والتّسليم لما صحّ من أخباره.
14 السّيّد المفتي من أهل العلم، و أهل العلم يدلّون النّاس إلى العلم بدليله ولا يدلّون إلى ما عليه الآباء والأجداد، لأنّه هذا تقليد نهى عنه الشّرع الحكيم، ذلك أنّ التّقليد يتعارض مع العلم. وعليه فالعالم يطلب منه أن يجيب بالعلم القائم على الدّليل والحجّة، لا بعمل الآباء وبما عليه العامّة. قال سند بن عنان شارح مدونة سحنون:"ليس التّقليد بطريق إلى العلم بوفاق أهل الآفاق، و إن نازعنا في ذلك برهانه فنقول: قال الله تعالى:" فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وقال:"لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ11" 12
وعليه، فالمطلوب من سعادة المفتي في فتاويه وتوجيهاته أن يدلّ النّاس على الحقّ بدليله، وأن يرشدهم إلى الدّين بالقرآن والسّنّة القطعيّين، لا أن يدلّهم على الظّنّي من فروع الفقه واختلاف الفقهاء. لأنّ الأصل في الأمور، أنّ المفتي أو العالم إذا سئلا عن مسألة أن يجيبا عن الله ورسوله، أي أن يجيبا بدليل من الكتاب والسّنّة، ولا يفزع إلى الفقيه أو إلى المذهب ويغرف منهما ما حلا له، فهل ماتت السّنّة حتّى لا يفتي النّاس إلاّ بأقوال الأئمّة الأربعة الذين دعوا النّاس إلى اتّباع ما ثبت وصحّ عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم.
15 المفتي ليس له انتماء إلاّ للحقّ بدليله من الشّرع العزيز، ويفتي به، فلا ينتمي إلى الفرق ولا إلى جماعة من الجماعات، أو حزب أو سلطان أو عواطف العوام أو التّقليد أو الأغلبيّة أو أيّ أمر كان، لأنّه موقّع عن ربّ العالمين، فيجب عليه أن يدور مع الحقّ حيثما دار. ولا يهمّه أرضي النّاس أم سخطوا طالما همّه أن يرضي ربّه.
16 إذا لم يبلغ المفتي والقاضي درجة الاجتهاد يعتبران من المقلّدين، وقد اختلف أهل العلم في حكم قضاء وإفتاء المقلّد.13، لأنّ الإفتاء والقضاء بالتّقليد واتّباع المذهب منعه الكثير من أهل العلم، بل منهم من حرّمه، بناء على أنّ التّمذهب عندهم محدثة، لاعتبار أنّ الفتوى لا بدّ أن تؤخذ من الكتاب و السّنّة مباشرة، دون تقيّد بمذهب معيّن أو فقيه واحد، ذلك أنّ الواجب على كلّ مؤمن موالاة جميع المؤمنين وعلمائهم، وأن يقصد الحقّ ويتبعه أنّى وجده.
وإذا تقرّر ذلك علمت لماذا لم يتّخذ الخلفاء الرّاشدون في قرونهم المفضّلة مفتيا واحدا ترجع إليه الفتوى ويختصّ بها وتحصر فيه دون غيره، لأنّ هذا يعدّ تشدّدا في الدّين واختطافا له وتكلّفا فيه، وحجرا للعلم على أناس معيّنين، فلم يكن للمسلمين ولاء إلاّ للعلم القائم على الكاتب والسّنّة، ولم يكن لهم تمذهب و لا تحزّب و لا تعصّب ولا تفرّق، بل كانوا كلّهم عباد الله إخوانا، وكان الذي لا يعلم يسأل كلّ من يعترضه من أهل العلم، فكانت الأمّة في تلك الفترة الخيّرة مجتمعة موحّدة. لا يتّخذ أحدا منهم رجلاً بعينه يخصّ بالسّؤال والاتّباع دون غيره.
وهذه هي المرحلة المفضّلة التي مدحها الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وذكرها بخير وأنّها على هدى وخير، وأمرنا وجوبا أن نتبعها ونقتدي بها، لأنّ ما كان عندهم من دين يجب أن يكون لنا هو الدّين دون غيره بنصّ الإمام مالك القائل لهذه الكلمة الجميلة الجامعة المانعة:"من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمّدًا خان الرّسالة، لأنّ الله يقول:"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دًينَكُمْ"14، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا"15
والمعنى أنّ ما لم يكن دينًا في زمان النّبيّ وأصحابه لا يكون دينًا إلى قيام السّاعة، فعمل القرون المفضّلة إذن هو الذي فرضه الله على سائر المسلمين إلى يوم القيامة، و ما ابتدع بعدهم في الدّين فهو ضلال لا يقبله الله و لا يرضاه رسوله أبداً، وعليه، فالتّفرق إلى مذاهب و طرائق و شيع أو فرق كلّه ضلال.
فالذي نقرّره أنّ للعامي الحقّ في أن يسأل من شاء من المفتين دون أن يتقيّد في ذلك بشيخ بعينه أو بمذهب بعينه لأنّ هذا هو ما كان عليه السّلف الصّالح في القرون المفضّلة، قال ابن تيميّة:"إذا نزلت بالمسلم نازلة فإنّه يستفتي من اعتقد أنّه يفتيه بشرع الله ورسوله من أيّ مذهب كان"16. وقال العزّ بن عبد السّلام:"لا يتعيّن على العامي أن يقلّد إماماً في سائر المسائل، لأنّ النّاس منذ عهد الصّحابة إلى أن ظهرت المذاهب يسألون من ظهر لهم من غير نكير "17.. ونقل عن القرافي عن العزّ بن عبد السلام قوله" إجماع الصّحابة على أنّه يجوز للعامي الاستفتاء لكلّ عالم في مسألة، ولم ينقل عن السّلف الحجر في ذلك، ولو كان ممتنعاً ما جاز للصّحابة إهماله وعدم إنكاره"18 .
والمقصود ممّا سبق أنّ تعيين الفتوى في أشخاص وحصرها فيهم ليس من هدي النبيّ ولا من هدي أصحابه، ولم يغرس تلك النّبتة الخبيثة في التّعصّب لرجال المذهب والفرقة وحصر الحقّ فيهم دون غيرهم إلاّ الشّيعة الرّافضة الذين فضّلوا والوا بعض الصّحابة دون الباقين. فحصر العلم والفتوى والمذهب هو كذلك تشيّع في تفضيل بعض المذاهب والطّوائف والعلماء. قال ابن تيميّة:" ومن تعصّب لواحد بعينه من الأئمّة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصّب لواحد بعينه من الصّحابة دون الباقين، كالرّافضيّ الذي يتعصّب لعليّ دون الخلفاء الثّلاثة وجمهور الصّحابة، وكالخارجيّ الذي يقدح في عثمان وعليّ رضي الله عنهما، فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسّنّة والإجماع أنّهم مذمومون،.... فمن تعصّب لواحد من الأئمّة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصّب لمالك أو الشّافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم"19
فحصر الفتوى واحتكارها وتعيينها في رجال معيّنين لم يعرف إلاّ في القرون المذمومة على لسان الرّسول المعصوم. قال الشّوكاني:"التّقليد لم يحدث إلاّ بعد انقراض خير القرون ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم؛ وحدوث التّمذهب بمذهب الأئمّة الأربعة إنّما كان بعد انقراض الأئمّة الأربعة"20
17 كلّ من اتّخذ رجلاً غير النّبيّ يحتكم إليه يحلّل و يحرّم دون أن يسأله عن دليل ما أفتى به، تحسيناً للظّن ّبه واعتقاداً منه أنّه لا يخطئ حكم الله أبداً، فقد اتخّذ ذلك الشّخص ربّاً دون الله، ودليل ذلك من المالكيّة قول الإمام ابن عبد البرّ النّمري الذي شرح الموطّأ ثلاثة شروح في كتابه "جامع بيان العلم و فضله" ما نصّه:" قد ذمّ الله تبارك و تعالى التّقليد في غير موضع في كتابه فقال:"اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ"21
18 الأئمّة الأربعة ورؤوس السّلف الصّالح وهم جبال علم وجَلال نهوا النّاس عن تقليدهم إلاّ فيما تبيّن وجه الحقّ فيه، كما دعوا النّاس أن ينهلوا ممّا نهلوا، ويعرضوا آراءهم على الكتاب والسّنّة، ولا يأخذوا منها إلاّ ما وافقهما. قال مالك بن أنس: "إنّما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكلّ ما وافق الكتاب والسّنّة فخذوه، وكلّ ما لم يوافق الكتاب والسّنّة فاتركوه"22 ، و قال أبو حنيفة:" لا يحلّ لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه"23، وقال الشّافعي:"إذا وجدتم في كتابي خلاف سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقولوا بسنّة رسول الله، ودعوا ما قلت"24 ، وقال أحمد بن حنبل:"لا تقلّدني ولا تقلّد مالك ولا الشّافعي ولا الأوزاعي ولا الثّوري، وخذ من حيث ما أخذوا"25 .
فهذا إجماع منهم لا ريب فيه على نهيهم عن تقليدهم، وهذه نصوص من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلا ولا تأويلا، وعليه فإنّ من تمسّك بما ثبت من السّنّة ولو خالف بعض أقوال الأئمّة لا يكون مبايناً لمذهبهم ولا خارجاً على طريقتهم بل هو متّبع لهم ومتمسّك بالعروة الوثقى التي أخذوا منها. هذا ولقد خالف تلامذة أولئك الأئمّة في كثير من آرائهم وفتاويهم. قال الحجوي:"لا تجد أهل مذهب إلاّ وقد خرجوا عن مذهب إمامهم، إمّا إلى قول بعض أصحابه، وإمّا خارج المذهب، إذ ما من إمام إلاّ وقد انتقد وانتقد عليه قول أو فعل خفي عليه في السّنّة أو أخطأ في الاستدلال فضعف مذهبه"26
فالمقصود أنّه لم يقل أحد من علماء المسلمين قديما ولا حديثا إنّ الحق منحصر في المذاهب الأربعة، فضلا عن حصره في مذهب مالك، بل قد يكون الحقّ مع الثّوري والأوزاعي واللّيث بن سعد وابن المبارك وابن حزم الأندلسيّ وابن تيميّة والبخاري والشّوكاني وغيرهم .....
فإذا تقرّر ذلك، فمن ترك السّنّة الثّابتة لمجرّد مخالفتها لقول إمام متبوع، فهو بذلك يعدّ خارجا عليهم ومخالفا لأقوالهم، لتسليم الجميع بقول الله تعالى:"فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" 27، وقال:"فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"28
، قال الحافظ ابن رجب:"فالواجب على كلّ من بلغه أمر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وعرفه أن يبيّنه للأمّة وينصح لهم ويأمرهم بإتّباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمّة فإنّ أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحقّ أن يعظّم ويقتدى به من رأى أيّ معظّم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ، ومن هنا ردّ الصّحابة ومن بعدهم على كلّ مخالف سنّة صحيحة وربما أغلظوا في الرّدّ لا بغضاً له بل هو محبوب عندهم معظّم في نفوسهم لكنّ رسول الله أحبّ إليهم وأمره فوق أمر كلّ مخلوق فإذا تعارض أمر الرّسول وأمر غيره فأمر الرّسول أولى أن يقدّم ويتبع".
19 لا يعرف الحقّ بالرّجال: قال مالك:"ليس كلّ ما قال رجل قولاً وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله عزّ وجلّ:"الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ" وفي رواية:" ليس كلّ ما قال رجل قولاً وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله عزّ وجلّ:"الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ"29.
20 لا ينظر إلى الرّجال فتؤخذ أقوالهم دون نظر إلى صوابها و دقّتها، لأنّ الإسلام لا يشرف القول عنده ويصحّ بمواقع الرّجال أو بفضلهم، ولكن يشرف القول بإصابته الحقّ، قال الشّاطبي:"إنّ تحكيم الرّجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشّرعي المطلوب
شرعا ضلال"30، فالرّجال ما هم إلاّ وسائل للتّوصّل إلى شرع الله عزّ وجلّ، وإذا تعدّدت أقوال العلماء في مسألة، فإنّ أولاها بالحقّ ما وافق الدّليل أو الاحتمال الرّاجح فيه إن كانت له احتمالات، ولا ينبغي أن يكون المعيار هو شهرة القول وذيوعه، أو شهرة العالم وتقليد مذهبه، أو قول المفتي أو الجهاز الرّسميّ أو مشائخ القنوات أو الأكثريّة أو غير ذلك، لأنّ هذه المعايير هشّة ظالمة يضيع بسببها كثير من الحقّ.
21 كلّ إنسان يجوز عليه الخطأ، ويعظم خطر خطأ الرّجل إذا كان ذا شوكة من علم أو سلطان أو قضاء، ووقوع خطأ هؤلاء في أديان وأسماء الآخرين له تبعات خطيرة في الدّنيا والآخرة، وقد يدخل القاضي في ربع دينار إلى النّار، فكيف إذا كانت الفتوى في أسماء النّاس وأديانهم.
22 لو أجمع النّاس على خطإ فهو خطأ، ألم تر إلى عمر بن الخطّاب كيف كان وحده في مسألة أسرى بدر، وكانت الأمّة كلّها مع النبيّ تخالف عمر، فنزل القرآن يوافق الفاروق ويعاتب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومن معه.. وعليه، لو أجمعت المؤسّسات الدّينيّة الرّسميّة في تونس مثلا على أمر وعارضهم فيه مسلم له نصّ صحيح صريح فلا اعتبار لآتّفاقهم أو أكثريّتهم لأنّهم خالفوا الحقّ وأجمعوا على باطل.
23 يمنع شرعا وعقلا أن يعارض الفقيه النّصّ الصّحيح المعلوم، لأنّ الدّين عُرِف بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم فلم يبق عند أحد دين يتفرّد به.
24 احتكار المذهب والتّكلّم باسمه والتّوقيع نيابة عنه، ليس من حقّ أحد: لا سلطة سياسيّة ولا دينيّة ولا شعبيّة ولا معارضة ولا غيرها.
25 الكلّ في تونس يدّعي أنّه مالكي ووسطي ومعتدل وهلمّ جرّا من تزكيات التّشبّع والزّهو والرّضا عن الذّات، وهذا فضلا عن مجانبة تلك الدّعوى الصّواب يطعن في الإخلاص واتّهام النّفس بالتّقصير، قال ابن القيم:"فإنّ العبد الصّادق لا يرى نفسه إلاّ مقصّراً والموجب له لهذه الرّؤية: استعظام مطلوبه واستصغار نفسه ومعرفته بعيوبها، وقلّة زاده في عينه، فمن عرف الله وعرف نفسه، لم يرَ نفسه إلاّ بعين النّقصان"31.
26 رأيت بعض التّونسيّين يتفوّهون بعبارة تثليثيّة غريبة منكرة جمعت أصولهم العقديّة والفقهيّة والتّربويّة، وهي: "نحن في الفقه على مذهب مالك، وفي العقيدة على مذهب أبي الحسن الأشعري، وفي السّلوك على طريقة الجنيد السّالك"
وهذا الانتساب يرفضه الإمام مالك، لأنّ التّمذهب والتّعصّب لا يكون للأشخاص وللفرق، ولأنّ الانتساب عند مالك بعد الإسلام لا يكون إلاّ إلى السّنّة دون غيرها، فهي وحدها التي تجمع بين كلّ المسلمين وتوحّد بينهم وتهدم كلّ خلاف مقطّع لأواصر الوحدة والأخوّة، جاء رجل إلى الإمام مالك فقال:"يا أبا عبد الله! أسألك عن مسالة أجعلك حجّة فيما بيني وبين اللّه عزّ وجلّ. قال مالك: ما شاء اللّه لا قوّة إلاّ باللّه! سل! قال: من أهل السّنّة؟ قال:"أهل السّنّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرفون به، لا جهميٌ ولا قَدَريٌ ولا رافضيٌ"32
كما سئل رحمه الله تعالى عن السّنّة! فقال:"هي ما لا اسم له إلاّ السّنّة ثمّ تلا قوله تعالى:" وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ" 33 فالإمام مالك لا يرى أن يسمّي السّنّي نفسه إلاّ بهذا الاسم التّعبّدي الشّريف" السّنّة"، فلا جهمي ولا قدري ولا رافضي، ولا مالكي ولا شافعي ولا حنبلي ولا حنفي ولا أشعري ولا سلفي ولا إخواني ولا صوفي ولا طرقي ولا شيء من ذلك، لأنّ كلّ ذلك يحزّب ويفرّق ويحدث الكراهيّة والشّقاق والنّزاع، وكلّ ذلك شرّ عظيم لا بدّ أن نحذّر منه.
فرابطة السّنّة هي الرّاية التي توحّد بيننا لأنّها الرّابط الجامع والسّمة البارزة لأهل القبلة والرّحمة الذين لا يختلفون ولا يكون بينهم تهارش أو تحريش، وهو الذي ينادي به الإمام مالك القائل:"أهل الرّحمة لا يختلفون"34
عن عاصم الأحول قال:قال أبو العالية:"تعلّموا الإسلام، فإذا تعلّمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصّراط المستقيم فإنّه الإسلام، ولا تحرّفوا الصّراط يمينا وشمالا، وعليكم بسنّة نبيّكم والذي كانوا عليه .... وإيّاكم وهذه الأهواء التي تلقي بين النّاس العداوة والبغضاء". فأخبرت به الحسن، فقال: صدق ونصح"35
فالذي نقرّره في مسألة الانتساب إلى غير السّنّة والتّسميّة بها أمور، منها:
أ أنّ الانتساب لا يكون إلاّ إلى الإسلام وحده، إذ به نضمن وحدة شعبنا، و نقطع مع كلّ ما يفرّق بيننا.
ب إن كان لا بدّ من التّسمية فالسّنّة.
ج أنّ المتمسّكين بالسّنّة هم أعظم النّاس تراحما واتّفاقًا واجتماعا وائتلافًا، وكلّ من كان إلى السّنّة أقرب كان إلى الرّحمة والاتّفاق والائتلاف أقرب، وكلّ من كان إلى السّنّة أمسك، كان إلى الحقّ أصوب. فهم بفضل الله لا يختلفون، وإن وقع بينهم خلاف ففي الفروع، ولكلّ دليله من العلم إذ لا يختلفون على الأهواء أبدا. قال تعالى"وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ "، قال مجاهد في قوله تعالى"وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ:"إنّهم أهل الباطل"، وقال في قوله تعالى:"إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ" "فإنّ أهل الحقّ ليس فيهم اختلاف36" وقال ابن المبارك رحمه الله: "أهل الحقّ ليس فيهم اختلاف"37 ، وقال مالك رحمه الله:"أهل الرّحمة لا يختلفون"38
26 من الأصول التي اتّفقت عليه الأمّة: أنّه ما تنازعت فيه وجب ردّه إلى الله والرّسول، لقوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"39 .
ومعلوم باتّفاق المسلمين أنّه يجب"تحكيم الرّسول" في كلّ ما شجر بين النّاس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلّهم إذا حكم بشيء أن لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضى و حكم ويسلّموا تسليما، لقوله تعالى:" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا40"
فالمقصود من كلّ ما تقدّم، أنّه يرجى من المفتي أن يرحم المخطئين فضلا على المجتهدين في الطّاعة، وأدلّة ذلك من الشّرع عديدة معلومة، منها صبر النّبيّ على الرّجل الذي بال في المسجد، والشّاب الذي جاءه يريد أن يرخّص له في الزّنا.. فإذا كان هذا مع العاصي فلماذا يشدّد السّيّد المفتي مع شباب يظهر منهم التّمسّك بالسّنّة؟
إنّ المفتي لا بدّ أن يحوز على ثقة النّاس، ولا يحصل له ذلك إلاّ بانحيازه للحقّ بدليله، والدّفاع عنه، وردّ الجميع إليه، وإن حصل خلاف بين النّاس فعليه أن يسعى للإصلاح بينهم، و لا يزيد الطّين بلّة ولا يصبّ الزّيت على الحريق، فيكون مغذّيا للفتنة ومتولّيا كبرها، ومثل هذه الفتوى التي صدرت عنكم فضيلة المفتي، يعدّ انحيازا لفئة دون أخرى دون وجه حقّ. ودقّا لطبول حرابة بين أهل شوكة متحفّزة وصحوة بريئة مسالمة.


براءة المالكيّة من الفتاوى التّحريضيّة الرّسميّة التّونسيّة
2/4

فإذا كان الإكراه في الدّين كلّه حراما أيكون إكراه النّاس في المذهب حلالا؟ وإذا كان الإكراه في المذهب غير مشروع، أفتكرهون النّاس على فروعه؟

الشّيخ خَمِيس بن علي الماجري

أصول الدّين الطّاعنة في فتواكم
1 لا إكراه في الدّين:
من المعلوم من الدّين بالضّرورة أنّه لا إكراه في الدّين، وأدلّة ذلك كثيرة جدّا أذكر منها دليلا واحدا خوف الإطالة، منها قوله تعالى:"لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّيْنِ"41، ومعنى الآية أن لا تكرهوا على الدّين الإسلامي من لم يرد الدّخول فيه، فإذا كان الإكراه في الدّين كلّه حراما أيكون إكراه النّاس في المذهب حلالا؟ وإذا كان الإكراه في المذهب غير مشروع، أفتكرهون النّاس على فروعه؟

2 المفتي يبيّن ويرحم:
ينتظر الخلق من المفتي الرّحيم أن يبيّن لهم الدّين ولا يكرههم عليه، قال تعالى:"لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر"42 وقال أيضا:"مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ"43 وقال:"فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ"44، وقال:"وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ"45، فإذا تقرّر ذلك، فليس للمفتي أن يحاكم مخالفه أو يتنقّصه أو يصفه بما لا يباح له، من مثل"الجهل" و"الفتنة"، بل يبيّن ويرحم عملا بقواعد الدّين المقرّرة والتزاما بمذهب مالك في هذا الباب، قيل للإمام مالك:"الرّجل يكون عالما بالسّنّة، أيجادل عنها؟ قال:لا! ولكن يخبر بالسّنّة، فإن قبلت وإلاّ سكت"46، وقال ابن عبد البرّ:"قال أهل العلم والنّظر: حدُّ العلم التّبيين وإدراك المعلوم على ما هو فيه"47. وعملا بقاعدة سنّيّة رحيمة تميّزهم عن المبتدعة:"أهل السّنّة والعلم والإيمان بمن فيهم أهل السّلطة يعرفون الحقّ ويتّبعون سنّة الرّسول ويرحمون الخلق". سئل ابن تيمية عمّن ولي أمراً من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوّز شركة الأبدان، فهل يجوز له منع النّاس؟ فأجاب:" ليس له منع النّاس من مثل ذلك ولا من نظائره مماّ يسوغ فيه الاجتهاد، ولهذا فإنّ مثل هذه المسائل الاجتهاديّة لا تنكر باليد، وليس لأحدٍ أن يلزم النّاس باتباعه فيها، ولكن يتكلّم بالحجج العلميّة، فمن تبيّن له صحّة أحد القولين تبعه، ومن قلّد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه"48.
وقال رحمه الله تعالى:"ليس لأحد أن يلزم أحداً بقبول قول غيره ولو كان حاكماً، وإذا خرج ولاّة الأمر عن هذا فقد حكموا بغير ما أنزل الله ووقع بأسهم بينهم "49 .
أصول مالك العمليّة الطّاعنة في فتواكم
فإذا تقرّر ما سبق، أنّ الإكراه في الدّين وفروعه مرفوض في شريعتنا المطهّرة، فالإكراه كذلك مخالف لأصول مالك العمليّة والعلميّة.
ومن أصوله العمليّة:
1 بعد أن أخمد المنصور ثورة "النّفس الزكيّة"، قال مالك ببطلان طلاق المكره بمقولته الشّهيرة"طلاق المكره ليس بشيء"، ففهم والي المدينة جعفر بن سليمان عمّ المنصور العبّاسي فتوى مالك على أنّها تحريض على نقض عهدهم، فأمر بضربه بالسّياط بسبب تلك الفتوى. وكان المنصور قد أخذ البيعة على النّاس لنفسه بالإكراه وحلف النّاس بالطّلاق إن نكثوا...
قلت:" فهذا مالك نفسه يرفض فرض السّياسي نفسه على شعبه وإكراههم على بيعته، و هو لا يعتبرها إذا حصلت بالإكراه، ويبطلها كما يبطل طلاق المكره تماما، فإذا كان مالك كذلك فكيف يُقبل الفقهاء المالكيّون الرّسميّون على إلزام التّونسيّين وإكراهم في فروع فقه؟ أليست هذه مخالفة صارخة لإمام المذهب؟ سبحانك هذا ظلم عظيم!
إنّ ممّا علمنا من هذه الشّريعة السّمحاء أن لا إنكار على النّاس في مسائل الفروع فضلا عن إكراههم عليها، قال الإمام النّووي في شرح مسلم: قال العلماء:" لَيْس للمُفْتِي ولا للقاضي أن يعترض على منْ خالفه إذا لم يخالف نصّا أو إجماعا أو قياسا جَلِيًّا"50. وكذلك لو اختار الإمام رأيا ورد فيه خلاف بين أهل العلم المعتبرين، أو مال إلى مسألة شاع فيها الخلاف والنّزاع، فلا يجوز أن ينكر عليه، قال ابن تيميّة:"إذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي شاع فيها النّزاع لم يكن لأحدٍ أن ينكر على الإمام، ولا على نائبه من حاكم وغيره"51.
وقال رحمه الله تعالى:".... المسائل الاجتهاديّة لا تنكر باليد، وليس لأحدٍ أن يلزم النّاس باتباعه فيها، ولكن يتكلّم بالحجج العلميّة، فمن تبيّن له صحّة أحد القولين تبعه، ومن قلّد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه"52
2 لا إلزام عند مالك في مسائل الاجتهاد على أحد، وليس للفقيه أو السّلطة أن يحملوا
النّاس على مذهب أو قول رجل. ولا يفرض اجتهاده على النّاس، ولا تحمل الأمّة على رأي واحد من العلماء. ولقد ألحّت السّلطة السّياسيّة العبّاسيّة المتمثّلة في أبي جعفر المنصور والرّشيد على فرض الموطّأ على الأمّة بقوّة السّلطان خاصّة على أهل العراق الخارجين فأبى مالك ورفض ذلك الأمر بكلّ شدّة، ولقد راودوه عن ذلك مرارا، وكان كلّ مرّة يردّ:"إِنَّّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي الفُرُوعِ، وَتَفَرَّقُوا، وَكُلٌّ عِنْد نَفْسِه مُصِيْبٌ"53 . وهذه الحادثة تكشف تمام علمه وإنصافه رحمه الله تعالى، كما تبيّن أنّها حجّة قويّة على:
1 رفض الإمام مالك أن يفرض على الأمّة رأي رجل مهما كان، ولو رأت السّلطة السّياسيّة صواب فكره وسداد رأيه وعلوّ نجمه وبياض سمعته.
2 أنّ السّياسيّ لا سلطان له على اجتهادات النّاس، وخاصّة على أهل العلم والاجتهاد.
3 ليس من حقّ السّلطان أن يتّخذ قرارا علميّا يخصّ الشّأن الدّيني إلاّ بعد موافقة أهل الذّكر.
4 لا يريد الإمام مالك أن يضفي على اجتهاده قدسيّة لا يجوز الخروج عليها أبدا، بل رأينا الكثير من تلامذة الإمام الذين درسوا عنه وحملوا المذهب وكانوا أعلامه ورواته قد خالفوه في كثير من المسائل لا يسمح المجال ذكرها في هذا البحث.
5 رفض الإمام توحيد الفتوى ورسميّتها وحصرها في شخص واحد وحمل النّاس عليها، لأنّّ أهل السّنّة اتّفقوا على أنّ العلم لا يجوز أن يبلّغه واحد، بل يجب أن يكون المبلّغون له متواترا، كما اتّفقوا على أنّ الولاء يجب أن يكون لكلّ علماء الأمّة العاملين دون تخصيص.
6 دليل على نهي مالك عن تقليده دون بحث عن الدّليل، ومن ثمّ فنحن في حاجة أكيدة إلى فتاوى تحرّي الدّليل والتّرجيح لا لفتاوى تعصّب الاجترار والتّقليد.
والتّقليد الذي نقصده هو الذي ذمّه أئمّتنا وهو قبول القول بغير دليل أو هو الاتّباع دون حجّة، ولا شكّ أنّ كلّ عاقل ورشيد لا يرضى أن يكون تبعا للنّاس، ولهذا صوّر لنا القرآن مشهدا مرعبا لحالة التّابع لمتبوعه، فقال:"إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَاب 166 وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ 167"54
7 سماحة مالك وورعه وانفتاحه وعدم تحجّره وقبوله للرّأي الآخر، وعدم انزعاجه من التّعدّد العلميّ، فهو بالتّالي يرفض ما عليه المتعصّبة المنغلقون الجامدون المتحجّرون.
8 شدّة ورع الإمام وخوفه أن تحمل الأمّة على اجتهاده رغم الدّرجة التي بلغها من العلم. لقد كان رحمه الله تعالى من أشدّ النّاس خوفا من الفتوى، دخل القعنبي عليه فرآه يبكي، فسأله: ما الذي يبكيك؟ فقال الإمام مالك:"يا ابن قعنب، وما لي لا أبكي؟!ومن الأحقّ بالبكاء منّي؟ لوددت أنّي ضُربت سوطا وقد كانت لي السّعة فيما سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرّأي".

فالحاصل يا فضيلة المفتي، لا يمكن شرعا أو عقلا أو فطرة أو واقعا أن تجعلوا كلّ النّاس شيئا واحدا، فتفرضون عليهم مثلا شكلا موحّدا للّباس أو تلزمونهم نوعا واحدا من طعام أو سكن، فإذا كان هذا مستحيلا وغير ممكن في المعاش، فكيف تستميت المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة وتريد أن تفرض على النّاس أعزّ حقّ لهم فيه وهو الصّلاة ؟ أتريدون أن تتدخّلوا في تفاصيل عبادات الخلق وجزئيّاتها فتجعلون مسائل التّعبّد والرّوحانيّات كتعليب السّردين، أو كدجاج "الماكينة"! أهي دعوى أن تكون صلاة "ستاندار"؟
إنّ إكراه النّاس على فروع العبادة هي الفتنة، والذي نعلمه أنّ أهل العلم دعوا إلى الخروج من الخلاف منعا للتّنازع والتّصدّع بين المسلمين، فلماذا تحرص المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة في تونس على إثارة الخلاف والتّنازع؟
فضيلة المفتي، لا تكاد تجد مسألة في الإسلام إلاّ وفيها خلاف بين النّاس، وللعلماء الرّبّانيّين دور عظيم في استيعاب تلك الخلافات عبر تطويع الأنفس وتربيتها على تقبّل الخلاف المشروع والقبول بالتّعدّد المباح، حفاظا على وحدة الأمّة وعرى أخوّتها.
وإنّ محاولات فرض نمط معيّن للصّلاة وغيرها محكوم عليه بالفشل، لأنّه فضلا على إنكار الشّريعة له مخالف لطبيعة الأشياء، كما هو تدخّل سافر ومتخلّف بكلّ المقاييس في حقوق النّاس وخصوصيّاتهم، وقديما قال الحكماء:" إذا أردت أن تطاع فآمر بما يستطاع".

أصول مالك العلميّة الطّاعنة في فتواكم
فكما تقدّم، لا يوجد في الإسلام مرجعيّة اسمها كنيسة، لأنّ ديننا العظيم ليس له ناطق رسميّ باسمه سواء كان دولة أو عالما أو مؤسّسة أو غير ذلك.وإذا تقرّر ذلك، فليس من صلاحيّات المفتي أو الدّولة ولا من حقّهما أن يفرضا على النّاس فروع مذهب في الفقه. أو يفرضا على النّاس ما هو عليه من مسائل خلافيّة بين أهل العلم، وعليه
فإنّ فتواكم فضيلة المفتي قد خالفت المذهب المالكيّ من وجوه عديدة، منها مصادمتها لأصول المذهب التي عليها إمامها، ومن هذه الأصول:
1 أنّ الإمام مالك كان من أشدّ النّاس حرصا للعمل بالسّنّة، فما أن تصله السّنّة حتّى يكون السّبّاق إلى العمل والإفتاء بها ويترك رأيه ويعمل بالحديث: قال ابن وهب:"سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرّجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على النّاس. قال: فتركته حتّى خفّ النّاس فقلت له: عندنا في ذلك سنّة فقال: وما هي؟ قلت: حدّثنا اللّيث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرّحمن الحنبلي عن المستورد بن شدّاد القرشي قال: رأيت رسول الله يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه. فقال: إنّ هذا الحديث حسن وما سمعت به قطّ إلاّ السّاعة ثمّ سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع"55.
وهذه الحادثة وغيرها كثير تبيّن أنّ الإمام مالك مثل غيره من البشر، يفوته من العلم ما هو لازم نقصانه، وأنّ أقواله في المسائل الاجتهاديّة تظلّ رأيا دون طعن من قيمته العلميّة، ولا يحطّ هذا من مكانته، بل هو نفسه يقول"إن نظنّ إلاّ ظناًّ وما نحن بمستيقنين"56
2 الحديث الصّحيح حجّة قطعيّة يقينيّة على كلّ أحد فلا يجوز معارضته بحال، وقول الفقيه لا يرتقي إلى حجّة إذا لم يعضد بنصّ، لأّنّ قول الفقيه دون حجّة يبقى دائما ظنّا، قال مالك:"إن نظنّ إلاّ ظناًّ وما نحن بمستيقنين"57، وقال:"إنّما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكلّ ما وافق الكتاب والسّنّة فخذوه، وكلّ ما لم يوافق الكتاب والسّنّة فآتركوه"58.
3 العالم المتّبع لمالك يبلّغ ويقيم الحجّة ولا يجادل عن رأيه، إنّما يبيّن ما تبيّن له من حقّ ويسكت. وقد سبق أن بيّنّا أنّ الإمام مالك ليس له سبيل على الخلق، إلاّ أن يخبر بالسّنّة ولا يجادل عنها، فإن قبلت وإلاّ سكت.

فالمقصود من ذكري لأصول مالك وبيانها أمور منها:
1 أنّه لا حقّ لأحد أن يختطف فقهه أو علمه أو مذهبه ويتكلّم باسمه أو يكيّفه على مقاسه السّياسي أو الهوى الشّخصي ثمّ يفرضه على النّاس.
2 أن نبيّن أنّ مالك رحمه الله تعالى كان من دعاة الحجّة والإقناع لا من دعاة الضّغط والإكراه.
3 أن نقرّر أنّ هذه هي المالكيّة التي نعرفها: مالكيّة التّنوّع داخل وحدة مرجعيّة قائمة على العلم بدليله وعلى العدل والتّسامح والانفتاح والتّعايش مع المخالف، خاصّة في فروع الفقه، دون غلوّ ووصاية ونبز و تجريح واستبداد.
4 نريد من المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة أن تلتزم بهذه المالكيّة التي بيّنّاها وتتمسّك بها لا أن تتجاهلها و تخالفها، فلا تأمر إلاّ بعلم، ولا تنكر إلاّ بعلم، كما لا يحقّ لها أن تنكر الشّيء لكونه مخالفا لمذهبها أو لعادة النّاس أو غير ذلك من الأمور المشوّشة على الحقّ.

هل المخالفة في فروع المسائل فتنة؟
فضيلة المفتي لا أحسب أنّنا نختلف في تقرير أنّ المهمّة الأساس للمفتي والدّاعية إلى الله تعالى هي نشر العلم الشّرعي الصّحيح مساهمة في إصلاح المجتمع، وأنّ العبد مسؤول يوم القيامة عن التّبليغ دون الحكم على الأعيان.
إنّ الحكم على الأعيان المظهرين للإسلام على وجه العموم هو من التّكلّف المنهيّ عنه، فضلا على أنّه من مسائل القضاء الشّرعي الذي يختصّ به علماء القضاء دون غيرهم.
كما أنّنا لا نختلف على أنّ إصدار الأحكام على المعيّنين مثل أحكام "الفتنة"، "وتعكير صفو المناخ الطّيّب بإثارة الفتن وإدخال الاضطراب والحيرة ..."، وكلّ هذا صدر عنكم يعدّ من التّصريحات الخطيرة جدّا، وعليه فإنّ صدور مثل هذه الأحكام، لا تكون إلاّ بعد إقامة الحجّة وثبوت الشّروط وانتفاء الموانع.
إنّ اهتمام المفتي أو الدّاعية بالحكم على أعيان النّاس، سيوقعكم فضيلة الشّيخ في أمور منها:
1 التّقصير في المهمّة الأساس"الدّعوة والبيان".
2 يوقعكم في الخصام مع المسلمين الملتزمين إجمالاً.
3 يوقعكم في ولاء الكارهين للدّين وأعدائه لكم، وهذا ينال من واجب الولاء للمؤمنين والبراء من أعداء الدّين.

لا ينكر المختلف فيه، وإنّما ينكر المجمع عليه
وددت من سعادة المفتي أن يأتنا بالأدلّة التي بنى عليها فتواه، من أنّ العمل بما ليس عليه مذهبه أو مؤسّسته هو فتنة، والحال أنّ الذي تعلّمناه أنّه لا إنكار في مسائل الخلاف بضوابط معيّنة، وأنّه ليس من حقّ أحد أن يعترض على من يخالفه إذا لم يخالف نصّا أو إجماعا أو قياسا جليّا، وهذه بعض أقوال أهل العلم في الباب:
1 قال الإمام النّووي في شرح مسلم: قال العلماء:" ليس للمُفْتِي ولا للقاضي أن يعترض على منْ خالفه إذا لم يخالف نصّا أو إجماعا أو قياسا جليّا"59.
2 قال الإمام السّيوطي في قواعده في"الأشباه والنّظائر": "لا ينكر المختلف فيه، وإنّما ينكر المجمع عليه"60 وقال:"الاجتهاد لا ينقض بمثله"61
3 قال الحجاوي المقدسي: "... فيحكم كلّ واحد باجتهاده وليس للآخر الاعتراض عليه ولا نقض حكمه".
4 قال ابن تيميّة:"مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه". وقال: "... فهذه مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السّلف والأئمّة، فكلّ منهم أقرّ الآخر على اجتهاده، من كان فيها أصاب الحقّ فله أجران، ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر، وخطأه مغفور له، فمن ترجّح عنده تقليد الشّافعي لم ينكر على من ترجّح عنده تقليد مالك، ومن ترجّح عنده تقليد أحمد لم ينكِر عليه من ترجّح عنده تقليد الشّافعي ونحو ذلك". وقد قال أحمد في رواية المروذي:"لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يُشدِّد عليهم".
5 قال سفيان الثّوري:"إذا رأيت الرّجل يعمل العمل الذي قد اختلف وأنت ترى غيره فلا تنهه".
6 روى الخطيب البغدادي عن سفيان الثّوري قوله:"ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به".
7 قال الخطيب البغدادي:"إذا اختلف الصّحابة في مسألة على قولين وانقرض العصر عليه لم يجز للتّابعين أن يتّفقوا على أحد القولين، فإن فعلوا ذلك لم يترك خلاف الصّحابة، والدّليل عليه أنّ الصّحابة أجمعت على جواز الأخذ بكلّ واحد من القولين وعلى بطلان ما عدا ذلك، فإذا صار التّابعون إلى القول بتحريم أحدهما لم يجز ذلك، وكان خرقا للإجماع، وهذا بمثابة لو اختلف الصّحابة بمسألة على قولين فإنّه لا يجوز للتّابعين إحداث قول ثالث لأنّ اختلافهم على قولين إجماع على إبطال كلّ قول سواه "62
قلت: فهذه فضيلة المفتي أقوال أهل العلم تجمع على أنّه لا تثريب على من قال بقول قد سبق إليه في مسألة خلافيّة.
فضيلة الشّيخ إنّ وقوع الاختلاف بين النّاس في الفروع لا ضرر فيه، لأنّ الشّارع الحكيم لم يذمّ الخلاف الذي لا يؤدّي إلى فتنة، وإنّ كلاّ من الاختلاف والافتراق، لا يلزم وجود أحدهما حصول
الآخر. ذلك أنّ الشّرع الحكيم ذمّ الافتراق مطلقا فقال:"وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا"63، وقال:"أَنْ أَقِيْمُوا الدِّيْنَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيْهِ"64 .. ذلك أنّ الاختلاف المنضبط قد يكون رحمة، وأهله معذورون. قال ابن تيمية:"والنّزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شرّ عظيم من خفاء الحكم، ولهذا صنّف رجل كتاباً سمّاه: كتاب الاختلاف، فقال أحمد: سمّه كتاب السّعة، وإنّ الحقّ في نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة الله ببعض النّاس خفاؤه لما في ظهوره من الشّدّة عليه"65.
وقال ابن القيّم: "وقوع الاختلاف بين النّاس أمر ضروري لا بدّ منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقدرات إدراكهم، ولكنّ المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلاّ إذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدّي إلى التّباين والتّحزّب، وكلّ من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله، لم يضرّ ذلك الاختلاف فإنّه أمر لا بدّ منه في النّشأة الإنسانيّة.
ولكن إذا كان الأصل واحداً والغاية المطلوبة واحدة والطّريق المسلوكة واحدة، لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافاً لا يضرّ كما تقدّم من اختلاف الصّحابة، فإنّ الأصل الذي بنوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والقصد واحد، وهو طاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، والطّريق واحد وهو النّظر في أدلّة القرآن والسّنّة وتقديمها على كلّ قول ورأي وقياس وذوق وسياسة"66.

وخلاصة ما سبق أنّ الشّريعة أوجبت على الأمّة أن تسدّ كلّ باب يؤدّي إلى الفوضى وعدم الاستقرار ونقض الاجتهاد السّائغ، فلا ينكر على مخالف من أيّ مذهب كان، طالما لم يخالف نصّ الكتاب وسنّة صحيحة وإجماعا قديما، أمّا إذا خالف النّصّ الصّريح الواضح، ساغ الإنكار، بل يجب. وعلى هذا الأساس صار العمل من عهد الصّحابة والتابعين وأئمّة المذاهب الفقهيّة.

الاعتصام بالسّنّة نجاة وليس فتنة أبدا
يا فضيلة المفتي إنّ الشّباب الذين لم ترحمهم ليسوا تنظيما حزبيّا أو معارضة سياسيّة أو
خوارج، إنّما هم يعملون بما وصلهم من سنّة، والعمل بالسّنّة هو النّجاة، كما قال إمام دار الهجرة:"السّنّة مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك"67، وفي مثل هذا المعنى يقول الإمام الزّهري:" كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسّنّة نجاة"68
يا فضيلة المفتي إنّ العمل بالفروع في الفقه لا يكون فتنة بحال، وإنّما الفتنة في ترك العمل بالسّنّة الصّحيحة الثّابتة. قال رجل للإمام مالك: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: أَحْرِم من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله، فقال: إنّي أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل؛ فإنّي أخشى عليك الفتنة! فقال: وأيّ فتنة في هذه، إنّما هي أميال أزيدها! قال: وأيّ فتنةٍ أعظم من أن ترى أنّك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ تلا قوله تعالى:"فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم69"، 70، وهذا منه رحمه الله تعالى نصّ في إنفاذ الوعيد.

مضارّ فتواكم
يظهر لي واللّه تعالى أعلم أنّ سعادة المفتي استدرج بسؤال ملغوم أوقعه فيه سائل متحامل على من خالفه، فجاء في الفتوى عدد كبير من الأخطاء والمضار، منها:
1 أنّ الشّريعة دعت إلى التّآلف والتّوادد والتّراحم بين المسلمين، ونهت عن الشّقاق والتّدابر والتّنافر والتّباغض والتّفرّق ونحوه. و هذه الفتوى مع الأسف الشّديد تحدث الحزن وتوغر الصّدور.
2 أنّها احتوت على ألقاب تنفّر وأوصاف تقشعرّ منها جلود المؤمنين، من قبيل الجهل والفتنة، فكانت هذه "الفتوى" عونا على أبنائك وإخوانك من الشّباب، ودعوة للمتربّصين إلى الوقيعة في مسلمين أبرياء، فهل من حقّ الأخوّة الإسلاميّة أن يعين المفتي كلّ متربّص بالمسلمين؟
ولربما تستخدم هذه الفتوى من طرف الإلحادي والرّافضي والطّرقي والعبثي الأخلاقي، فضلا عن السّياسي والأمني. فيسلكونهم خوارج على دينِ الملِك ومذهب"الأمّة" و"جماعة" المسلمين، فهي بالتّالي فتوى وشاية وتحريض مبطّن لانتهاك حرمات الشّباب، وإنّ من الغبن الفاحش إهداء الإنسان حسناته إلى من يعتقد بغضه وعداوته. فهل تستطيع فضيلة المفتي أن تتحمّل تبعات ذلك وعهدته؟ اللّهمّ إنّي لا أستطيع!
3 مثل هذه الفتوى تثوّر العوام على الشّباب.
4 إنّها فتوى تسمّن غرور التّديّن والاستعلاء لدى المتشبّعين بما لم يعطوا فيرون الآخرين صرعى، وهذا هو الهدم ولو ظهر للبعض أنّه بناء، فإن كان ولا بدّ فهو بناء على جرف هار سيتساقط بنيانه حتما ثمّ تذروه الرّياح العاتية، وفي الحديث: "إذا قال الرّجل هلك النّاس فهو أهلكهم"71
5 إنّ ما صدر عنكم حضرة المفتي يطلق الألسن والأيدي والنّزاع والشّرّ والاستئصال، ومن يدري لعلّ ما صدر عنكم يفتح الشّاهية فيمهّد الطّريق لغلاة الصّحوة فتصدر عنهم ردود فعل عشوائيّة طائشة.


براءة المالكيّة من الفتاوى التّحريضيّة الرّسميّة التّونسيّة
3/4

والذي أخذناه عن مشائخنا، مشائخ الزّيتونة رحمهم الله تعالى أنّ مرجع الفتوى المعتمد في جامع الزّيتونة ردّ الله اعتباره هو شرح الزّرقاني على مختصر خليل، وما استدركه وسلّمه البنّاني الفاسي، ولذلك اشتهرت عبارة لدى أهل علم بلدنا"القول ما قاله الزّرقاني وسلّمه البنّاني" وفي مسألة رفع اليدين قبل الرّكوع وبعده ومن القيام من اثنتين يقول البنّاني:" ... وقول الزّرقاني لا الرّكوع إلخ، هذا أشهر الرّوايات، والظّاهر أنّه يرفع عند الإحرام والرّكوع والرّفع منه، والقيام من اثنتين لورود الأحاديث الصّحيحة بذلك اه"، كما قال أيضا:".... إنّ الرّوايات مشهورة عن مالك عمل بها كثيرا من أصحابه

الشّيخ خَمِيس بن علي الماجري

كلّ المسائل التي طرحها السّائل المتعصّب فروع يسعها المذهب المالكيّ:
اسمحوا لي حضرة المفتي أن أذكّركم بمسائل فرعيّة جاءت في سؤال الأستاذ:
فقد طرح مسائل القبض ورفع الأيدي، وتحريك السّبّابة في التّشهّد، وأذكار القيام من الرّكوع
والبسملة قبل قراءة الفاتحة في الصّلوات الجهريّة، هل يجهر بها أم لا؟ والتّأمين بعد سورة الفاتحة، هل يجهر بها أم لا؟ وهل يمدّ لها أم لا؟ ومسألة التّسليم للخروج من الصّلاة هل هي تسليمة واحدة أم اثنتان؟ ومسألة تحيّة المسجد بعد أذان المغرب أو حين يدخل المصلّي والإمام على منبر الجمعة؟
إنّ كلّ المسائل التي طرحها السّائل تعدّ من الأمور الخلافيّة المشهورة بين أهل العلم، وقد تجد
في المذهب الواحد أقوالا متعدّدة ومتضاربة، وأنا لا أريد أن أردّ على كلّ تلك المسائل التي تجد لها قبولا عند المالكيّة، ولكنّي سأذكر بعض المسائل بإيجاز، كفي البسملة مثلا:"قال محمّد الطّالب بن حمدون بن الحجّاج في حاشيته على شرح ميّارة الصّغير على منظومة ابن عاشر:"و ذكر ابن عرفة في البسملة أربعة أقوال، فقال:"و في كراهة البسملة و استحبابها في الفرض و وجوبها أربع لا بأس بها"...
هذا وليعلم أنّ الشّافعيّة والحنابلة يرون أنّ البسملة آية من الفاتحة ومن كلّ سورة، ومن ترك حرفاً واحدا منها أي سورة الفاتحة و لو في ركعة واحدة بطلت صلاته، و لا يوجد قول واحد في مذهب مالك يقول ببطلان الصّلاة بقراءتها، و صلاة يتّفق كلّ الأئمّة على صحّتها خير من صلاة يقول بعضهم بعدم مشروعيّة قراءتها.
وفي التّأمين في الصّلاة فقد جاء في الموطّأ أنّ التّأمين يكون جهرا وبعد تأمين الإمام72.
أمّا في القبض والرّفع في الصّلاة فاسمحوا لي سعادة المفتي أن أتوسّع قليلا في البحث.
القبض: هو وضع اليد اليمنى على اليسرى وتعيين محلّ وضعهما وإن اختلفوا في موضعه، هل هو تحت السّرّةِ أو فوقها أو فوق الصّدر.
وجمهور أهل العلم على أنّ القبض سنّة، والأدلّة على ذلك كثيرة منها:
1 ما جاء في الصّحاح والمسانيد
أ ففي صحيح البخاري 1/259 : باب وضع اليمنى على اليسرى.
ب وفي صحيح مسلم 1/301 باب وضع يده اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام تحت صدره فوق سرته ووضعهما في السجود على الأرض حذو منكبيه
ج وقال أبو داود في سننه 1/27: باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة
د ما جاء عن سهل بن سعد قال: كان النّاس يؤمرون أن يضع الرجلُ اليمنى على ذراعه اليسرى في الصّلاة73.
ه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنّا معشر الأنبياء أُمرنا أن نؤخّر سحورنا ونعجّل فطرنا، وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في صلاتنا"74.
و روى أحمد ومسلم عن وائل بن حجر: أنّه رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رفع يديه حين دخل في الصّلاة وكبّر، ثمّ التحف بثوبه، ثمّ وضع اليمنى على اليسرى، فلمّا أراد أن يركع أخرج يديه ثمّ رفعهما وكبّر فركع، فلمّا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه فلمّا سجد سجد بين كفّيه". وفي رواية لأحمد وأبي داود:" ثمّ وضع يده اليمنى على كفّه اليسرى والرّسغ والسّاعد".
ز روى ابن خزيمة عن وائل بن حجر قال:"صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره"75 .
2 القبض في المذهب: القبض في الصّلاة مختلف فيه في مذهب مالك على أربعة أقوال مذكورة في مشاهير كتب أئمّة مذهبه كمختصر ابن الحاجب و ابن عرفة و غيرهما: وهي بين الاستحباب و الكراهة و الجواز و المنع، ولم يخالف في القبض إلاّ اللّيث بن سعد وابن القاسم في روايته عن مالك والتي جاءت في النّافلة لا في الفرض..
3 القبض عند مالك: إنّ الرّوايات عن مالك اختلفت، فأشهب وابن الماجشون ومطرف وابن المنذر وأصحاب مالك المدنيّون ينقلون عنه استحسان وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصّلاة مطلقا. وأمّا ابن القاسم فنقل عنه قولين: الأوّل: الكراهة مطلقا. والثّاني: التّفريق بين الفريضة والنّفل. فكرهها في الأولى وأباحها في الثّانية.
قلت: فإذا اختلفت الرّوايات في المسألة الواحدة، فإنّ المطلوب:
1 الأخذ برواية الجماعة المستحسنة للقبض أولى بالأخذ من رواية الفرد أو الإثنين القائلين بالسّدل.
2 الرّجوع إلى مرجع المالكيّة الأوّل، وهو ما كتبه مالك بيده في الموطّأ عن طريق سهل بن سعد المروي76.

4 أقوال أهل العلم:
أ قال الكشميري:"واعلم أنّ الرّفع متواتر إسناداً و عملاً، ولم ينسخ منه ولا حرف"77.
ب قال الشّوكاني في النّيل:" جاء عن النّبيّ في وضع اليمنى على اليسرى عشرون حديثاً عن ثمانية عشر صحابيّاً و تابعيّاً ".
ج قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:"قال أبو عمر:"لم يرد فيه خلاف عن النّبيّ يعني لم يرو أحد عن النّبيّ سدل اليدين لا في حديث صحيح و لا ضعيف".
د قال ابن عبد البرّ وهو من كبار المالكيّة: لم يأت عن النّبيّ فيه خلاف وهو قول الجمهور من الصّحابة والتّابعين وهو الذي ذكره مالك في الموطّأ ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره...
ه قال العلاّمة محمد تقيّ الدّين الهلالي المغربي في"الحسام الماحق":" ألّف الإمام مالك رحمه الله كتاب الموطّأ و درسه ستّين سنة و تواتر عنه كلّ ما فيه. فكلّ قول ينسب إليه خلاف ما في الموطّأ فإمّا أن يتّفق الرّواة عنه لذلك القول و إمّا أن يختلفوا عنه، فإن اتّفقوا و ذلك محال فرواية الموطّأ مقدّمة على اتّفاقهم، لأنّ رواته أكثر و أحفظ و لأنّه كتبه بيده، و هو متواتر عنه. فيردّ كلّ ما خالفه و أمّا إذا اختلفوا فلا يحلّ لأحد أن ينسب إليه شيئاً ممّا اختلفوا فيه إلاّ إذا عرف التّاريخ. فحينئذ يمكنه أن ينسب إليه آخر القولين أو الأقوال و حينئذ تتعارض تلك الرّواية مع ما في الموطّأ إن كانت مخالفة له فتسقط، و يقدّم عليها ما في الموطّأ".
وقال رحمه الله تعالى:"... فإنّ وضع اليمين على الشّمال في الصّلوات كلّها فرضاً و نفلاً هو مذهب مالك و قوله الذي لم يقل غيره و لا نقل أحد عنه سواه و هو المذكور في الموطّأ الذي ألّفه بيده و قرئ عليه طول عمره و رواه عنه الآلاف من تلامذته و أصحابه، و استدلّ عليه بالحديث الصّحيح الذي نقله عنه رواة الفقه و حملته من أصحابه المدنيّين كمطرف بن عبد الله و عبد الملك ابن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون و عبد الله بن نافع المخزومي و أصحابه المصريّين كأشهب بن عبد العزيز و عبد الله بن عبد الحكم و أصحابه العراقيّين كمحمّد بن عمر الواقدي و غيره، و هو مقتضى رواية على بن زياد التّونسيّ عن أصحابه القيروانيّين و هو الذي نقله ابن المنذر الإمام الحافظ الذي تصدّر لنقل المذاهب بالأسانيد الصّحيحة و الطّرق المتعدّدة عن الأئمّة المجتهدين، و هو الذي لم ترد السّنّة المطهّرة و الأحاديث النّبويّة إلاّ به عن سيّد المرسلين و على آله الطّاهرين"78 .
هذا وقد جاءت رسائل عديدة مستقلّة تبيّن أنّ القول بالقبض هو الرّاجح في المذهب، من هذه الرّسائل:
" 1 نصرة القبض والرّدّ على من أنكر مشروعيّته في الفرض" للشّيخ العلاّمة محمّد بن أحمد المسناوي الفاسي المالكي 1072 ه 1136 ه
والرّسالة قيّمة نافعة نفيسة لما فيها من التّأصيل بالدّليل.
2 هيئة النّاسك في أنّ القبض في الصّلاة هو مذهب مالك تأليف الشّيخ محمّد المكّي بن عزوز .
فالذي تقرّر بعد كلّ الذي ذكرنا ما يلي:
1 جماهير أهل العلم قالوا بمشروعيّة القبض، ولم يقل بإرسال اليدين قبل الرّكوع إلاّ بعض المالكية، واختلف النّقل عن مالك في ذلك.
2 أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم كان يقبض طول حياته ولم يرسل يديه في الصّلاة 79.
3 أنّ أصحابه رضي الله تعالى عنهم قبضوا ولم يرسلوا في صلاتهم.
وإن شئتم فضيلة المفتي قلنا: القبض في المذهب خلاف ونزاع، وفي حالهما أمرنا وجوبا أن نحتكم إلى الكتاب والسّنّة لأنّه لا تقوم الحجّة في المناظرة إلاّ بآية قرآنيّة أو حديث صحيح يسلّم له الطّرفان، إذ يحرم علينا العدول عنهما أبدا، فالواجب إذن أن نسلّم للقرآن والسّنّة، ونصير وننتهي إليهما ونقف عندهما ونقول بمقتضاهما كما قال تعالى:"فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"80
و قد علمنا يقينا أنّ سنّة رسول الله قد حكمت بالقبض في الصّلاة بشهادة ما في الموطّأ و الصّحيحين و غيرهما من الأحاديث السّالمة من الطّعن.
فالشّباب الذين قبضوا لم يفارقوا المذهب، بل اتّبعوا من هو فوق المذاهب كلّها، وهو المشرّع القائل:"صلّوا كما رأيتموني أصلّي"81، أمّا من أصرّ على عدم القبض وقد ثبت عنده الحديث الصّحيح وعاند وخالف متعمّدا، وخاصم القابضين فهو في فتنة شرعيّة حقيقيّة وعلى خطر عظيم، قال تعالى:"فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"82 ، وقد اختار الضّلالة على الهدى:"وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا"83، قال ابن تيميّة:"ومن ترك النّقل المصدّق عن القائل المعصوم، واتّبع نقلا غير مصدّق عن قائل غير معصوم فقد ضلّ ضلالاً بعيدا"84، وقال أيضا:"أمّا من تبيّنت له السّنّة فظنّ أنّ غيرها خير منها فهو ضالّ مبتدع"85

الرّفع
والرّفع كذلك سعادة المفتي، له مستند في المذهب المالكيّ وإليك بعض الأدلّة التي جاءت في كتب المالكيّة
1 حديث ابن عمر الثّابت الصّحيح وفيه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا افتتح الصّلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا رفع رأسه من الرّكوع رفعهما أيضا كذلك"86. وزاد البيهقي في روايته" فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله ".
ورواه من الصّحابة نحو خمسين رجلا منهم العشرة المبشّرون بالجنّة"87.
وأخذ به جمهور العلماء من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم، هذا وليعلم أنّ كلّ الأحاديث المرفوعة إلى النّبيّ في عدم رفع اليدين معلولة وضعيفة.
أمّا مالك فقد ثبتت الرّوايات عنه أنّه كان يرفع، فقد رواه في الموطّأ88 كما روى عنه ذلك ابن وهب والوليد بن مسلم وسعيد بن أبي مريم وأشهب وأبو مصعب الزّهري، وأنّ ذلك في آخر أقواله."89
2 قال ابن وهب: "قيل لمالك: أيرفع يديه إذا ركع و إذا رفع رأسه من الرّكوع؟ قال: نعم"90 .
3 قال أشهب بن عبد العزيز: صحبت مالك بن أنس قبل موته بسنة فما مات إلاّ وهو يرفع يديه إذا أحرم وإذا أراد أن يركع وإذا قال سمع الله لمن حمده"91.
4 قيل ليونس وصف أشهب رفع اليدين عن مالك قال: سئل أشهب عنه غير مرّة فكان يقول يرفع يديه إذا أحرم وإذا أراد أن يركع وإذا قال سمع الله لمن حمده92.
5 قال ابن وهب:"صلّيت مع مالك في بيته فرأيته يرفع يديه في أوّل ركعة، وكان إذا ركع وإذا رفع رأسه من الرّكوع رفع يديه حذو منكبيه 93 "
6 وروى ابن نافع عن مالك في رفع اليدين مثل رواية ابن وهب 94 ....
7 قال الإمام الخطابي: ذهب أكثر العلماء إلى أنّ الأيدي ترفع عند الرّكوع وعند رفع الرّأس منه وبه قال مالك في آخر أمره.»95
8 قال ابن عبد البر: وروى أبو مصعب وابن وهب عن مالك أنه كان يرفع يديه إذا أحرم وإذا ركع وإذا رفع من الركوع على حديث بن عمر.96
9 قال القاضي عياض:" وقد اختلف العلماء في الرّفع في الصّلاة، والمعروف من عمل الصّحابة و مذهب جماعة العلماء بأسرهم - إلاّ الكوفيّين - الرّفع في الصّلاة عند الافتتاح وعند الرّكوع والرّفع منه، وهي إحدى الرّوايات المشهورات عن مالك، وعمل بها كثير من أصحابه ورووها عنه، وأنّه آخر أقواله"97.
10 قال أبو بكر بن العربي:" الصّحيح أنّها ترفع في ثلاثة مواضع لحديث ابن عمر المشهور في الموطّأ، ومتابعة كبار الصّحابة له في ذلك أو متابعته لهم"98 .
11 روى ابن عبد البرّ في "اختلاف أقوال مالك وأصحابه" ص 107 عن ابن عبد الحكم أنّه قال:"الذي آخذ به أن يرفع المصلّي يديه إذا أحرم، وإذا رفع رأسه من الرّكوع. قال وليس يروي أحد عن مالك مثل رواية ابن القاسم عنه في رفع اليدين" اه
12 قال ابن عبد الحكم:"لم يرو أحد عن مالك ترك الرّفع فيهما إلاّ ابن القاسم، والذي نأخذ به الرّفع"99.
13 والذي أخذناه عن مشائخنا، مشائخ الزّيتونة رحمهم الله تعالى أنّ مرجع الفتوى المعتمد في جامع الزّيتونة ردّ الله اعتباره هو شرح الزّرقاني على مختصر خليل، وما استدركه وسلّمه البنّاني الفاسي، ولذلك اشتهرت عبارة لدى أهل علم بلدنا"القول ما قاله الزّرقاني وسلّمه البنّاني" وفي مسألة رفع اليدين قبل الرّكوع وبعده ومن القيام من اثنتين يقول البنّاني:" ... وقول الزّرقاني لا الرّكوع إلخ، هذا أشهر الرّوايات، والظّاهر أنّه يرفع عند الإحرام والرّكوع والرّفع منه، والقيام من اثنتين لورود الأحاديث الصّحيحة بذلك اه"، كما قال أيضا:".... إنّ الرّوايات مشهورة عن مالك عمل بها كثيرا من أصحابه"100.

هذا وليعلم أنّ الرّفع في الصّلاة كانت علامة تميّز أهل السّنّة من غيرهم كالرّافضة والخوارج، لذلك روي عن عمر بن عبد العزيز أنّه قال:"كنّا لنؤدّب عليها بالمدينة" يعني إذا لم يرفعوا أيديهم في الصّلاة" 101 .
وكان عبد الله بن عمر يحصب من لا يرفع: قال ابن القيم:"وانظر إلى العمل في زمن رسول الله و الصّحابة خلفه، و هم يرفعون أيديهم في الصّلاة عند الرّكوع و الرّفع منه، ثمّ العمل في زمن الصّحابة بعد، حتّى كان عبد الله بن عمر إذا رأى من لا يرفع حصبه" 102

سعادة المفتي، إن لم تذهبوا مذهبنا فإنّه في حال التّنازع لا بدّ أن نحتكم إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا إلى غيره، ولأنّ هذه درجة لا يشركه فيها غيره لا مالك ولا الشّافعي ولا أحمد ولا أبو حنيفة ولو اجتمعوا، وقد تواترت الأخبار أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يرفع.
والذي نقرّره أنّ قول حضرة المفتي قد فارق ما عليه محقّقو المذهب، فضلا عن صحيح الأخبار ومشهور الآثار ودلائل المنقول والمعقول. ..
وعلى كلّ حال، فإنّه ينبغي لكلّ مسلم يحتاط لدينه و يشهد أنّ الرّسول حقّ، ويقرّ باتّباعه، ويبرأ من التّعصّب لأقوال الرّجال، والاحتجاج بعمل الآباء و الأجداد، أن يتبع ربّه باتّباع رسوله..قال تعالى:" مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ"103
لقد تعصّب بعض المالكيّة للقول الظّنّي لابن القاسم وتركوا القول القطعيّ للإمام مالك، فضاع بسبب ذلك كثير من الحقّ، وإلى هذا يشير شيخ الإسلام في مجموع فتاواه في المجلّد العشرين:"ومعلومٌ أن مدوّنة ابن القاسم، أصلها مسائل أسد بن الفرات التي فرعها أهل العراق. ثمّ سأل عنها أسد ابن القاسم، فأجابه بالنّقل عن مالك، وتارة بالقياس على قوله. ثمّ أصَّلَها في رواية سحنون. فلهذا يقع في كلام ابن القاسم طائفة من الميل إلى أقوال أهل العراق، وإن لم يكن ذلك من أصول أهل المدينة. ثمّ اتّفق أنّه لمّا انتشر مذهب مالك بالأندلس، وكان يحيى بن يحيى عامل الأندلس والولاة يستشيرونه، فكانوا يأمرون القضاة أن لا يقضوا إلاّ بروايته عن مالك، ثمّ رواية غيره. فانتشرت رواية ابن القاسم عن مالك لأجل من عمل بها. وقد تكون مرجوحة في المذهب وعمل أهل المدينة والسّنّة، حتّى صاروا يتركون رواية الموطّأ الذي هو متواتر عن مالك وما زال يحدّث به إلى أن مات لرواية ابن القاسم".
إنّ ردّ المتعصّبة إلى الحقّ عسير، لأنّهم لا يعرفون المذهب إلاّ من خلال المتون أو ملخّصات المذهب دون التّحقيقات في المذهب والكتاب العمدة في الزّيتونة ردّ الله اعتبارها.
هذه حضرة المفتي بعض الأقوال نقلتها لكم من الكتب المعتمدة في المذهب كالموطّأ وشرح الزّرقاني على مختصر خليل ومعه الفتح الرّبّاني فيما ذهل عنه الزّرقاني للعلاّمة البنّاني. والعاقل المنصف لا يجحد ما علم ثبوته بالاضطرار ويقاتل على ما يدّعي صحّته بالإصرار.

سعادة المفتي إنّ مسائل الرّفع والقبض وغيرهما من أعمال الصّلاة التي أثارها السّائل، يسوغ فيها الاختلاف والتّعدّد، لأنّها من مسائل الفروع، وقلّما تجد في مسائل الفروع اتّفاقا بين علماء المذهب الواحد، ومثل هذه المسائل كثيرة جدّا ويستحيل حصرها، والشّريعة تسعها كلّها، ولكلّ أن يأخذ بما تبيّن له وترجّح أنّه حقّ وظهر له أنّه هدى، ولا تثريب عليه، والخلاف في تلك المسائل لا يوغل الصّدور ولا يفتح أبواب الشّرور، ولا يستدعي كلّ هذا الزّخم من إعداد العدّة والطّوارئ، وتجييش الجيوش وتجنيد مؤسّسات الدّولة لمقاومة شباب يصلّي على هيئة صلاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
فالمقصود أنّ الخلاف بيني وبينكم سعادة المفتي لا يذمّ متى كان في المسائل الفرعيّة لأنّ ذلك لا يعارض بالتّأكيد قاطعاً من الكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة. وقد وقع الخلاف المذكور بين الأنبياء كفي داود وسليمان وموسى وهارون، ووقع كذلك بين العلماء ورثة الأنبياء، ومن لوازم ذلك أن يقع بين التّونسيّين قطعا.

وأحسب بعد كلّ الذي ذكرنا، أنّه تبيّن لكلّ منصف أنّ المذهب المالكيّ يشهد بصحّة ما عليه هؤلاء الشّباب، وبأنّهم لم يفارقوا المذهب بحال، وبأنّهم لم يرتدّوا عن دينهم ولا عن نبيّهم ولا عن مالك وأئمّة المسلمين ولا عن المحقّقين من المذهب، كما يتبيّن فساد السّؤال، وأنّ التّدثّر بالمالكيّة ما هو إلاّ حرص بارد ورغوة صابون على المذهب وغيرة ظرفيّة كيديّة، ولو كان حرص القوم حارا وجادّا فلماذا غاضهم حرص شباب يتمسّك بالسّنّة، وأغلقوا أعينهم على طعن الرّافضة في عقائد التّونسيّين الثّابتة منذ 14 قرنا.. أم نقول بقول القائل
وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة
ولكن عين السّخط تبدي المساويا


براءة المالكيّة من الفتاوى التّحريضيّة الرّسميّة التّونسيّة
4/4
لا أريد أن أفهم خطأ: فإنّي لست ضدّ المالكيّة المتحرّرة، ولكنّني ضدّ المتعصّبين للمالكيّة المزيّفة، الذين يعبثون بالمذهب ويخدمون أجندة ليست هي أهداف الإمام مالك لأنّه بكلّ وضوح ليست المالكيّة علمانيّة.

يا فضيلة المفتي، إنّ العاقل هو من لا يفسد أصول الدّين باصطناع الحروب في فروع الدّين. أَوَ تقدحون في الأصول ب"حفظ" الفروع. وهل يحطّم العاقل الأصول القطعيّة المتّفق عليها، من أجل الحفاظ على فروع خفيّة متنازع فيها؟ فكيف يقدح في الأصول لحفظ الفروع؟


الشّيخ خَمِيس بن علي الماجري
أسئلة المكر
فضيلة الشّيخ، لو أنّنا تبيّنّا السّؤال الذي طرحه السّائل على سيادتكم لتبيّن لنا أنّه قائم على خلل منهجي ومعرفي، فلو كان سؤاله مثلا:" أريد حكم الله تعالى في هذه المسائل التي طرحتها، وأريد الحقّ فيما يخلصني أمام الله تعالى يوم القيامة ونحو ذلك، أو لو قال ببساطة: كيف كان يصلّي رسول الله لكان خيرا له وأسلم، ولقلّ الخلل ولسقطت كثير من الأقوال التي لا دليل عليها من الكتاب والسّنّة ولتوحّدت الأمّة.
فممّا جاء في كلامه كذلك:" فرغم أن في الاختلاف رحمة في عمق أبعاده لكن الكفة الراجحة هي الاتحاد والانضواء تحت مذهبية ومرجعية فقهية واحدة..."، وقوله:" لأنّ توحيد أحكام العبادات بين النّاس من شأنه صدّ جميع التّسرّبات الخارجيّة".
فغاية السّائل فيما يظهر من كلامه ، ليست هي مرضاة الله عزّ وجلّ وقبول طاعاته، بل هي"صدّ جميع التّسرّبات الخارجيّة" وهو في ذلك كاذب لأنّه لا يقصد إلاّ "التّسرّبات" الدّينيّة، أمّا الكرويّة والماليّة والغنائيّة والتّطبيعيّة مع الكيان الصّهيونيّ فلا أظنّه يقصدها. ثمّ أليس أئمّة المذهب من مثل مالك والأشعري و خليل والزّرقاني والبنّاني والقاضي عياض وابن رشد والقارئ الإمام قالون من"التّسرّبات الخارجيّة" على حسب قوله، فهل هؤلاء تونسيّون؟ ولكنّ المتعصّبة والمقلّدة جهلة ومتناقضون، والله المستعان!
وممّا يزيد من دهشة العاقل أنّ طارح السّؤال الملغوم أستاذ في الشّؤون الإسلاميّة، فهذا "الوطنيّ المربّي" للنّشء ومن مثله من المقلّدة والمتعصّبة لا يغارون على دينهم، بل يغارون على مذهبهم كما يرونه هم ومن ثمّ تجدهم يعظّمون الموروث، ويعبدون الجمود، حتّى صاروا حجر عثرة أمام العلم بدليله، وعقبة أمام الإصلاح بتأصيله.

فضيلة المفتي إنّ السّؤال الذي طرح عليكم ملغوم، مخالف للأصول الأخلاقيّة والعلميّة للمذهب، لأنّ فيه سوء ظنّ بالشّباب، وكأنّ السّائل لم يجد أن يحقد إلاّ على شباب المساجد، فشنّ عليهم غاراته، ولم يضايقه الشّباب الشّارد عن ربّه والغارق في عالم الجريمة وعبادة الشّيطان وغير ذلك من الشّرور والفساد، فلم يسألكم عنهم، ومن المؤسف أنّ حضرة المفتي طاوعه في ظلمه وجهله، وانحاز إلى طائفته، وأجابه إجابة لا تنفق إلاّ على من لا يعرف دقائق المذهب المالكيّ الذي لا يخالف السّنّة الصّحيحة أبدا، ومن ادّعى خلاف ذلك وردّ السّنّة عدّ من المجانين.
إنّي أتحدّى السّائل أن يستفتيكم فضيلة المفتي عن الفساد الذي ضرب الإدارة والإعلام والأسرة، أتحدّاه أن يسألكم عن الحجاب الشّرعيّ الذي سبّب لمرتدياته اضطهادا أضرّ بسمعة البلاد وجلب العار على نخبتها.
سعادة المفتي، كان الأولى أن تجيب السّائل على سؤاله لا أن تحاكم الشّباب وتردّه إلى الأصول الجامعة لأهل السّنّة والجماعة، والتي منها أنّ الخلاف في الفروع لا يضرّ، وأنّ التّنوّع في إطار الرّحمة هداية والتّعدّد في إطار المحبّة سعة والانتماء إلى السّنّة واتّباع النّبيّ هو الذي يجب أن يحرص عليه كلّ مسلم غيور على دينه حريص على وحدة شعبه مصداقا لقوله تعالى:"وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ 31 مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ32 "104. وقوله تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ"105
لقد تعصّب السّائل والمفتي للتّقليد و خرجا من البحث عن الحقّ إلى الفجور والتّراشق انتصارا لمذهبهما، وتركا سبيل التّحقيق والإنصاف.

وبعد، فقد تبيّن بعد هذا البيان الموجز أنّ حجج المتعصّبة داحضة وهي من جنس بيت العنكبوت، وإن أصرّ النّاس على اتّباع المذهب وتقليده وترك السّنة، فإنّ هذا من دلالات الغربة التي يرأس فيها الجهل.

الغيرة على مذهب مالك وحصره في المسجد لا يلتقيان:
إنّ استخدام الدّولة العلمانيّة لمالكيّة "مزيّفة" أمر لا يجوز أن يستمرّ، وإنّ تحكّم السّياسي في الفتوى وزجّ الدّيني وتوظيفه في الأجندات السّياسيّة أمر مقزّز، ولذلك جاءت الفتوى تسند شحن المحرّضين الذين يتّهمون الشّباب بالخروج على الدّولة لمجرّد مخالفة المالكيّة الرّسميّة، ومن هنا تفهم مدح السّيّد المفتي ل"العهد الجديد" وتزكيته له دون مبرّر، فمخالفة فروع المذهب الرّسميّ عند فضيلة المفتي هو من شأنه" إدخال الاضطراب ونشر الفتنة وزرع الخصام والتّشاحن والحيرة ..... فبلادنا ..... تنبذ الفرقة والفتنة والخلاف والتعصّب والكراهيّة. هكذا عرفت في القديم والحاضر وهي تنعم الآن بالاستقرار والاعتدال ووحدة الكلمة في هذا العهد السّعيد عهد التّغيير المبارك ..... فلا يجوز تعكير صفو هذا المناخ الطّيّب بإثارة الفتن و إدخال الاضطراب و الحيرة بين المصلّين...".....
قلت: فأين حرّيّة الشّباب في حقّهم في التّمسّك بالسّنّة، شكلا ومظهرا وصفة وصلاة؟ أين التّسامح معهم حضرة المفتي؟ أم الحرّيّة والتّسامح فقط مع الرّافضة والنّساء الدّيمقراطيّات والمشعوذين والسّحرة وبيوت الدّعارة المرخّصة بالقانون؟
أو جعلتم فضيلة المفتي الانتساب إلى المذهب انتسابا إلى العقيدة، ومن صلّى على السّنّة ولم يصّل على التّقليد يخرج من العقيدة وتفتعلون الخصومة مع السّنّة، والحال أنّ علماء المذاهب كلّهم علماء سنّة، وكلّهم من أهل الحديث، جمعوا بين الحديث وبين الفقه، وبين الحفظ وبين الفهم.
يا شيخنا إنّهم شباب متحمّس للسّنّة ومتعطّش للعلم فلماذا تواجهونهم بهذه الشّدّة والقسوة.
نعم، قد يكون في بعضهم غلوّ، فإنّ الواجب لحماية الدّين والبلاد أن تنزلوا إليهم وتجالسوهم وتصبروا عليهم، قال تعالى:"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ"106 وقال:"وَتَوَاصَوا ِبِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبْرِ".

لا تجيّروا فضيلة المفتي لخيار سياسيّ معلوم فشله مسبّقا، ألم تفشل سياسة تجفيف ينابيع التّديّن؟ فها هي البلد تشهد عودة عارمة للشّباب إلى دينهم، وما ذلك كلّه إلاّ بفضل من الله تعالى وفضله:"وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ"107
أخشى أن يتمسّك المتعصّبة بمواقفهم لأنّي أخاف عليهم أن يحشروا في المجادلين في الدّين بغير علم، قال ابن تيميّة في قوله تعالى:" يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ"108
" لا يجوز أن يعارض كتاب الله بغير كتاب الله، لا بفعل أحد ولا أمره، ولا دولة ولا سياسة، فإنّه حال الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم"109
وليس لأحد أن يعارض الحديث عن النّبيّ بقول أحد من النّاس وكلام رسوله:" وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً 27 يَا وَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً 28 لَقَدْ "أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً"110، وقوله:" يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ 66 وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ 67 رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا68"111 .
قال ابن تيميّة:"هذه النّصوص فيها نصيب لكلّ من اتّبع أحدًا من الرّؤوس فيما يخالف الكتاب والسّنّة، سواء كانوا من رؤوس أهل النّظر والكلام والمعقول والفلسفة، أو رؤوس أهل الفقه والكلام في الأحكام الشّرعيّة، أو من رؤوس أهل العبادة والزّهادة والتّألّه والتّصوّف، أو من رؤوس أهل الملك والإمامة والحكم والولاية والقضاء"112
لا أريد أن أفهم خطأ: فإنّي لست ضدّ المالكيّة المتحرّرة، ولكنّني ضدّ المتعصّبين للمالكيّة المزيّفة، الذين يعبثون بالمذهب ويخدمون أجندة ليست هي أهداف الإمام مالك لأنّه بكلّ وضوح ليست المالكيّة علمانيّة.
فليست المشكلة في مذهب مالك، وإنّما في المتعصّبين الذين عكفوا على عصور الجمود الفقهي والتّقليد الأعمى لأقوال الرّجال، ورسبوا في اجترار لفقه غير محقّق، ولم يتعصّبوا للسّنّة التي كان يتعصّب لها مالك.
إنّ السّاحة التّونسيّة مرشّحة لتشهد فصلا جديدا آخر من فصول الصّراع المرير بين الشّعب والسّلطة في التّعامل مع الدّين، ولذلك طرحت منذ ثلاث سنوات مبادرة تحت عنوان"الإمام مالك رائد الإصلاح في تونس" تجدونها في موقع تونس المسلمة على هذا الرّابط
113 تستهدف إطفاء حرائق شرور الاختلاف، وتجميع كلّ التّونسيّين على أصول الإمام مالك الحقيقيّة الجامعة، لعلّها تجنّب البلاد ما تنبّأتُ به من فتن قادمة لبلادنا لا قدّر اللّه.
فالمقصود بعد البيان، أنّ الحقّ أحقّ أن يتّبع، وأنّ الحقّ الذي بدا لنا كما أظهرناه لا يخفى على كلّ عاقل منصف، وأمّا من اتبع هواه وأشربه نرجو من الله لنا وله الهداية.

لماذا ينزعج البعض من تديّن الشّباب؟
إنّنا نستغرب أن يظهر فضيلة المفتي في مبحث فرعيّ بشكل متوتّر، والحال أنّه بان بينونة كبرى عن القضايا الجوهريّة للوطن، وغاب غيابا كلّيّا على الخطر الحقيقي الذي يهدّد الوحدة المذهبيّة والسّنّيّة التي ينفخ في كيرها نابتة الشّيعة الذين يطعنون في أصول الدّين وثوابت الشّريعة ووحدة الأمّة.
فهل يشكّل تديّن الشّباب في تونس خطرا على البلاد؟ دع عنك أنّهم يشكّلون خطرا على المذهب المالكيّ! هذا ما نفهمه من خلال عمل المؤسّسة الدّينيّة ضدّ شباب مسالم فرّ من جحيم البعد عن الله عزّ وجلّ واحتمى ببيوت الرّحمان حيث السّكينة والأمن، شباب طريّ يعتقدون ما تعتقدون ويعبدون الرّبّ الذي تعبدون ويأتمّون بأئمّة السّنّة الذين تأتمّون.
لماذا تغضّ المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة عن الشّباب الشّارد عن ربّه الواقع تحت شبكات الجريمة والاغتصاب والقتل وعبادة الشّيطان والصّليب؟ لماذا تسكتون في وجه المدّ الشّيعي والطّرقي والعبث الأخلاقي؟ لماذا تسكتون عن التّوسّع الإلحادي والشّيوعي والعلماني الطّاعنين في كمال الشّريعة وتمامها وعزّتها وهيمنها؟

كراما نوّر الله بصيرتهم والبصر تعيبون شبابا طرّا أعزّة
فهم بركات للبلاد وأهلها بهم يدفع الله البلايا عن البشر

يا شيوخ المالكيّة الرّسميّة أقيلوا على شباب فارّ إلى الله تعالى، فهل أخطأ هؤلاء الشّباب وارتكبوا من الجرائم حتّى أثرتم عليهم الطّامّة والعامّة في مساجد محروسة بترسانات شديدة من سياجات "قانونية" وأمنيّة لخنق حقّ التّونسيّ في التّديّن والنّشاط الدّعويّ.
ألم تتساءل المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة لماذا لم تجد لها قبولا لدى الشّباب، فأقبل هؤلاء على "التّديّن المشرقي" كما يروّج؟ لقد وجد الشّباب كتيبات وورقات ومطبوعات كثيرة وميسّرة وبلغة مبسّطة سهلة، فتلقّوها بالاستحسان والقبول لأنّها مؤصّلة مقنعة، في حين أنّ الكتب المالكية إن توفّرت هي لا تقنع الباحث عن الحقّ، لأنّك لا تجد فيها إلاّ الفقه المحض والرّأي المجرّد، وقد خلا أكثرها من ذكر الدّليل، وما كان هذا يليق بمذهب، أجمعت الأمّة على أنّ إمامه إمام في السّنّة والحديث...

هل مثل هذه الفتاوى الرّسميّة تحقّق نجاعتها؟
لقد عرفت تونس التّعايش بين المالكي والحنفي بل حتّى مع الأباضي فلماذا لا تصبرون وتتعايشون مع شباب متمسّك بالسّنّة.
لا تعالج الصّحوة بمنهج الإلزام الأمني أو بفتاوى التّحريض والاستئصال، أو بما يسمّى القانون أو بالعصا أو بالعقوبات، فإنّ كلّ ذلك غير مجد، لأنّه لا يحقّق إلاّ أضرارا قد تطول المستضعفين في الدّنيا، غير أنّها قطعا ستنال الظّالمين في الآخرة، ولا شكّ أنّ إدخال الشّعب والدّولة في مثل هذه الصّراعات المرّة يعمّق التّخلّف ولن تشهد البلد تنمية في أيّ مجال من المجالات.
إنّ الإقناع هو الأجدر والأحقّ أن تسلكه مؤسّسة الدّين الرّسميّة لا منهج الإلزام والإكراه وفتاوى"التّحريض".
إنّ مثل هذه الفتاوى تكشف ضحالة الخطاب الرّسميّ وهشاشة بنية المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة ممّا يجعلها عاجزة عن مواجهة الفكر بالفكر والحجّة بالحجّة، لعلمها مسبقا أنّها حتما ستخسر في هذا الميدان.
إنّ مثل هذه الفتاوى سيحكم عليها بالفشل مسبقا كما فشلت أخواتها من قبل، لأنّ الإكراه نوع من الاستعباد الذي ترفضه سنّة الخالق الذي خلق النّاس أحرارا.
إنّ النّاس وهم يشهدون انحلالا وتفلّتا وتسيّبا مبالغا فيه على مستوى الخلق والقيم في المجتمع التّونسيّ يرفضون يا فضيلة المفتي تدخّلها في مسائل تعبّدية روحيّة خاصّة، لأنّ النّاس في متعلّقات العقائد والرّوحانيّات يرفضون الإكراه مهما كانت صيغته ولونه وجهته ونوايا أصحابه.
إنّ الإصرار على التّحكّم في صفة صلاة النّاس ليس له مبرّر، لأنّه مشروع فتنة يقطّع أرحام التّونسيّين السّنّة، وإذا حصل هذا حصل إفساد دين أهل السّنّة ولو تدّثّر دعاته بالمالكيّة.
فالمقصود أنّه ومع الأسف الشّديد فقد انخرطت المؤسّسة الدّينية بشكل صارخ تعضد مؤسّسات الاستبداد في مهمّة" تجفيف ينابيع التّديّن" وأخذت تلك المؤسّسات تفتي للاستبداد فتاوى ملفّعة بمرط ينسبونها إلى المالكيّة ظلما وعدوانا وزورا لرمي الصّحوة الجديدة بقذائف الخروج على الدّولة بخروجهم على المالكيّة الرّسمّة، وكأنّ الأخيرة هي الدّين والدّولة، وهما معا العقيدة الإسلاميّة، من لم يلتزم بهما فقد خرج من الإسلام، وهذا وحده كاشف عن تعصّب طائش وضلال غارق في الجهل والظّلم.

تبعيّة المؤسّسة الدّينيّة للقرار السّياسي:
لماذا لا يتواضع النّاس للحقّ؟ لماذا لا تتواضع السّلطة للحقّ؟ إنّ الجدليّة المنطقيّة تدفع غير المتواضعين للحقّ أنّهم سيستعملون العنف والبطش ضدّ من يمتلك الحقيقة الرّسميّة.
إنّ المؤسّسات الدّينيّة التّونسيّة تخضع لأجندة السّياسي، وما هي إلاّ أداة تنفّذ خيارات السّلطة، وما فتوى السّيّد المفتي "الغير المبرّرة" إلاّ دليل على ذلك، وما القرار النّشاز الذي أعلنته وزارة الشّؤون الدّينيّة هذه السّنة في تعطيل فريضة الحجّ إلاّ خادم في نفس التّوجّه. فالسّياسة هي التي كانت وراء إلغاء حجّ سنة 1430 هجري لأنّه قد أصاب العلاقة التّونسيّة السّعوديّة توعّك صحّي منذ سنوات بسبب عائليّ "تافه حقير"، فلمّا جاءت مسألة فيروس( أي أتش 1 آن 1) جعلت تكئة لإلغاء فريضة الحجّ، فما معنى أنّ هذا الإجراء يتّخذ ضدّ التّونسيّين للذّهاب إلى أداء فريضة الحجّ، ولم يتّخذ نفس الإجراء في السّائحين الوافدين من العالم إلى تونس للتّنزّه والتّرفيه، وهم يحملون معهم فيروسات متنوّعة ومتعدّدة؟ والله المستعان!

الخاتمة
فالحاصل حضرة المفتي أنّ "فتواكم" هذه تصدّع وحدة أهل السّنّة، وقولكم في شباب أراهم يتّصلون بوصلة صالحة تنتهي إلى نبيّهم خطأ من الوزن الثّقيل، وفيه من الحساسيّة المفرطة ضدّ شباب يحتاج إلى التّفهّم والرّحمة، قد بيّنّا بطلانه من الوجوه التي ذكرنا، و أنّ العمل بالمسائل المختلف فيها لا يعدّ فتنة ولا أعلم من قال به، وإنّ من حقّ الشّباب أن يصلّوا بما ترجّح لديهم، ثمّ إنّ محاولات المؤسّسة الدّينيّة إلزام النّاس بالشّكل الموحّد للصّلاة فيه تهديد للدّين ودعوة إلى التّنازع والتّحارب وإشغال النّاس بما لا يلزم، ومحاولات إلزام الخلق برأي في المذهب من أعظم القدح العلميّ والطّعن في شخصكم وعلمكم، لأنّ هذا النّوع من الفتاوى يعدم الثّقة فيكم لخلوّها من الرّحمة والنّصح.
إنّي على يقين أنّ مالكا رحمه الله تعالى لو رأى شباب تونس التّوّاق للعمل بالسّنّة لفرح بهم ولشجّعهم على ذلك لأنّهم يتمسّكون بالسّنّة التي جاءت قبل أن يخلق الله مالكًا ومذهبه، ولأنّها مذهب الصّحابة الذين تلقّوها عن نبيّهم، وللسّنّة الفضل الأعظم والدّور الأكبر في تجميع الأمّة ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
إنّ إصدار مثل هذه الفتاوى في مناخ أمني جبري منغلق يفجّر الأوضاع خاصّة إذا علمنا أنّ الشّباب قد يدفعهم التّحمّس والتّهوّر إلى المغامرة.
إنّ الذي صدر عنكم حضرة المفتي لا يتناسب مع شباب يصلّي، ولا يفهم إلاّ أن يندرج ضمن سياسة ممنهجة تمارسها السّلطة لكلّ من خالفها في كلّ خياراتها، لأنّ محاولات حشر الشّباب في "المعارضة" يعدّ خطأ فاحشا، لأنّهم بكلّ بساطة ليسوا حزبا سياسيّا ولا تنظيما سرّيّا حتّى يواجهوا بهذه القسوة والشّراسة.
لقد أحدث قولكم فضيلة المفتي ألما شديدا وأذى عظيما في المؤمنين والمؤمنات، ولاشكّ أنّ من آذى مسلمًا فقد آذى الله ورسوله، وقد قال الله تعالى" وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا"114
قال الشّيخ عبد الرّحمن السّعدي في تفسيره للآية:"وإن كان أذية المؤمنين عظيمة وإثمها عظيما ً ولهذا قال فيها" وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا " أي بغير جناية منهم موجبة للأذى " فَقَدِ احْتَمَلُوا " على ظهورهم " بُهْتَانًا "حيث آذوهم بغير سبب وَإِثْمًا مُبِينًا" حيث تعدّوا عليهم وانتهكوا حرمة الله باحترامها".
وفي الصّحيحين"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وفي البخاري"من عادى لي وليّا ً فقد آذنته بالحرب". وفي أبي داود وأحمد:"ما من امرئ يخذل امرأ مسلما ً في موطن ينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مؤمنا في موطن ينتقص فيه من عرضة وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يجب فيه نصرته". وقال:"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" متّفق عليه. بل جعل المشرّع إذاية المؤمن الواحد مبطلا للجهاد، فكيف بمن لا جهاد له ويظلم الآلاف من الشّباب والشّابّات، فقال صلّى الله عليه وسلّم "من ضيّق منزلا أو قطع طريقا أو آذى مؤمنا فلا جهاد له"115.
وفي الحديث المرفوع الضّعيف الإسناد، ولكنه يحسن إذا توبع"مَنْ أَكَلَ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَكْلَةً أَطْعَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلَهَا مِنَ النَّارِ وَمَنِ اكْتَسَى بِمُسْلِمٍ ثَوْبًا كَسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلَهُ مِنَ النَّارِ ، وَمَنْ قَامَ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَقَامَ سُمْعَةٍ أَقَامَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلَهُ مَقَامَ سُمْعَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
يا فضيلة المفتي، إنّ العاقل هو من لا يفسد أصول الدّين باصطناع الحروب في فروع الدّين. أَوَ تقدحون في الأصول ب"حفظ" الفروع. وهل يحطّم العاقل الأصول القطعيّة المتّفق عليها، من أجل الحفاظ على فروع خفيّة متنازع فيها؟ فكيف يقدح في الأصول لحفظ الفروع؟
يا فضيلة المفتي لقد ضاع الدّين في البلاد. فماذا بقي منه؟ لقد ضاع حكمه وضاعت القيم وضاعت علوم الدّين وأقبرت الزّيتونة ولم يبق من الدّين إلاّ مساجد تشيّد ولا تعمّر.
يا فضيلة المفتي اتّق اللّه عزّ وجلّ، ولا تجعلوا من فروع الفقه دينا ولا تجعلوا المالكيّة الرّسميّة عقيدة من خرج عليها خرج على الدّين وخرج على الدّولة.
يا فضيلة المفتي، إنّ الشّريعة حقوق كلّها، وأعظمها على الإطلاق حقوق اللّه تعالى وحقوق عباده، والدّفاع عنها إقامة للّدين وبذلك تحفظ الدّماء والأعراض والأنفس والأموال، وتعطيل هذه الحقوق تحت أيّ نوع من المعاني إخلال بالدّين وتحريض على الظّلم، وطعن في الحقّ ونيل من الشّرع.
أدعوك يا فضيلة الشّيخ ونفسي أن نتجنّب الأهواء وأن نحافظ على الاعتصام بالسّنّة فهي سبيل الرّحمة والجماعة والائتلاف، وهي حبل الله تعالى الجامع والمؤلّف بين التّونسيّين المسلمين، ولا نتفرّق عليها أبدا. كما أدعوك ونفسي أن نقبل بالخلاف في الفروع، وأن لا نخلط الأمور ولا نتعمّدها، فتوظيف الخلاف الفرعي في صراع سياسيّ وأمني لا يجوز أن تنخرط فيه المؤسّسات الدّينيّة الرّسميّة لأنّه يجلب لها الفضيحة والعار.
اسمحوا لي سعادة المفتي في الختام أن أقول لكم: إنّ "فتواكم" الخالية من الرّحمة والنّصح والمخاصمة للعلم والعدل، لا أعتبرها تدور في دائرة الشّرع الحكيم، لمفارقتها الاستقامة الدّينيّة، وسقوطها في ظلمات طاغوت الهوى المرفوض جملة وتفصيلا. قال الإمام الشّاطبي:" فكلّ مسألة حدثت في الإسلام فاختلف النّاس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنّها من مسائل الإسلام وكل مسالة طرأت فأوجبت العداوة والتّنافر والتّنابز والقطيعة علمنا أنّها ليست من أمر الدّين في شيء وإنّها الّتي عنى الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بتفسير الآية وهي قوله" إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ"116، فيجب على كلّ ذي دين و عقل أن يتجنّبها. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى ...وهو ظاهر في أنّ الإسلام يدعو إلى الألفة والتّراحم والتعاطف. فكلّ رأي إلى خلاف ذلك فخارج عن الدّين"117
وبناء على كلّ ما سبق فإنّه يقتضي منكم فضيلة المفتي التّوبة ممّا صدر عنكم، والله المستعان!!! قال تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ" 118
هذا ما بدا لي حضرة المفتي وأعتذر إن كنت قسوت في العبارة فإنّه بسبب ما قدّرت من خطورة تدخّلكم المثير في مسائل صغيرة ولتحاملكم الشّديد على أبنائكم ولشفقتي عليكم، ذلك أنّ الله عزّ وجلّ أمر أهل العلم الذين تستقيم بهم الدّنيا والآخرة بالعدل والإحسان و القسط ونهاهم عن المنكر والبغي والظّلم.
والكمال حضرة المفتي عزيز، هذا وإنّ خطأكم لا يوجب حرماننا من علمكم ولا هجر نصائحكم وتوجيهاتكم.
من أجل ذلك خاطبتكم سعادة المفتي ليتّسع صدركم لشباب حريص على السّنّة والتّمثّل بها، وأن تنزلوا إليهم وتحاوروهم بالرّحمة والحجّة والبرهان، ولا تحاكموهم من أعلى بالقسوة والتّقليد وشوكة السّلطان.
أرجو أن تجد هذه الرّسالة قبولا من طرفكم ولا صدّا أو مكابرة فلا تقرأ فتهمل أو تطوى ولا تروى، وأن يكون نشرها مساهمة منّا لإخماد أوار فتنة تقع بين شعبي العزيز.
وإنّي على كلّ حال أراكم إن شاء الله تعالى في أوبة إلى العدل والإنصاف لأنّ الله عزّ وجلّ يحبّ العدل والإنصاف في كلّ شيء.
اعذرني أيّها الوالد المبتلى على هذه "الغضبة" التي قد يضيق منها مقامكم الكريم، والذي يشفع لي أنّها ليست غضبة لشخصي، ولكنّها غضبة مشفق على ديننا ثمّ على وحدة شعبنا، وواللّه لا أريد لكم إلاّ الخير أكثر مماّ أريده لنفسي ولشعبي العزيز.
وصاحب العلم حضرة المفتي إذا راجعه من هو دونه من العلم، لم يقدح هذا في كونه أعلم منه، فقد تعلّم موسى من الخضر ثلاث مسائل وموسى أعلم من الخضر، وتعلّم سليمان من الهدهد خبر بلقيس وسليمان أعلم من الهدهد، وراجع سليمان داود، وداود أعلم من سليمان، وراجع بعض الصّحابة رسولهم، والرّسول صلّى الله عليه وسلّم أعلم منهم جميعا.

فضيلة الشّيخ، لم أقصد أن أجرّح أحدا، غير أنّ الحقّ أحبّ إلينا من كلّ شيء، والتّنبيه على ما يسبّب الفتنة هو واجب على كلّ مسلم.. إنّه دين يا سيادة المفتي فلا يجوز اللّعب به، قال عبد الله بن وهب: قال لي مالك بن أنس:"يا عبد الله، لا تحملنَّ النّاس على ظهرك، وما كنت لاعباً به من شيء، فلا تلعبنّ بدينك" 119
إنّه مع نبل التّمسّك بالسّنّة وعظم أداء صفة الصّلاة كما وردت عن رسول الله أقول إنّ هذه الاهتمامات بفروع المسائل من المشغلات عن المسائل الكبرى، وما هي إلاّ تلهية لما هو أهمّ لشعبنا الذي يشهد تحوّلات خطيرة ومدمّرة وددت أن يتدخّل المفتي في قضاياها، وأن لا تتلهّى مؤسّسة الدّين الرّسميّة بمثل هذه الملهيات.
لا بدّ من تحرير المذهب من إكراهات الحكم وضغط العوام وضيق المقلّدين واختطاف الأهواء. وليس للمفتي الحقّ أن ينكر على الشّباب تمسّكهم بصفة صلاة النبيّ فضلاً على أن يحكم عليهم أو يحرّض عليهم المتربّصين ويوغر صدور العامّة عليهم، أو ينحاز إلى طرف دون آخر، بل ينبغي أن يبقى فوق الجميع، يبيّن الدّين بدليله، وهذا وحده الكفيل الذي يجمع بين الشّعب ويصطفّ حوله حتّى يسود بين الجميع الحبّ والمودّة. وأنّ يوطّن الأنفس على قبول الخلاف في مثل هذه المسائل حتّى لا تفسد القلوبّ ولا تتفرّق الكلمة.
إنّه لا خيار للمؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة إلاّ أن تتخلّص من الخوف من الشّباب وأن تتواضع لهم وتجادلهم بالمنهج الشّرعي المتألّق، وإذا كان الشّرع العزيز أمرنا أن نجادل المشركين غير الظّالمين بالتي هي أحسن، فإنّ أكبادنا المتديّنين هم أولى بذلك حرصا على جمع الكلمة ووحدة الصّفّ والوصول إلى الحقّ ودفعا للشّرور والعداوة التي قد تحصل بالتّأكيد، لو اخترنا طريقا آخر غير الحوار العلميّ الهادئ الملجم بالوحي متوخّين أسلوب أحسن العبارة وألطف الإشارة ودون تهجّم أو تجريح أو شطط في القول دفعا لوساوس الشّياطين وتحريشهم بين المؤمنين وصدّا عن إفساد قلوب المؤمنين وشحنهم بالأحقاد والضّغائن.
وإنّه لا خيار للدّولة إلاّ أن تنتهي عمّا درجت عليه منذ تأسيسها على فرض رؤيتها للدّين وتدخّلها المفرط في حقوق النّاس، و لا بدّ أن تنتهي كذلك عن استخدام المالكيّة مرّة وتجاهلها مرّات، كما لا خيار لها أن تنتهي عن استعمال الرّدع والقوّة ضدّ حقّ شعب يضطهد من أجل تديّنه.
لا تعالج الصّحوة بمثل هذه الأساليب، والحلّ الحكيم هو التعقّل والاقتناع بالفشل الكامل لتجربة تجفيف التّديّن وأن تتوقّف الدّولة عن مواجهة الصّحوة، فإنّها لن تفلح، لأنّه لا يمكن لها أن تطفئ جذوة الإيمان في قلوب شعب مسلم، وإنّ الفزع إلى الحلّ الأمني خاسر وفاشل بكلّ المقاييس، لأنّ العقائد لا يمكن قهرها أو كسرها.
ولا سبيل للمعالجات العميقة والجادّة لمسائل الشّباب، إلاّ بالعودة إلى العلم الشّرعيّ المؤصّل، والتّشجيع عليه، والحوار الجادّ والحكيم القائم على الحجّة والإقناع.
لقد حصرت المؤسّسة الدّينيّة اهتمامها بالجدل الفارغ، وظلّت منذ فبركتها تضيّع جهود وذكاء أهل علمها في مباحث كلاميّة وفقهيّة فرعيّة لا تجدي نفعا، في حين أهملت اهتمام الإسلام بقضايا العقيدة و الحقّ والخير والمساواة والعدل.

عجبت من المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة في تونس، وهي تخاصم شبابا يحرصون على اتّباع السّنّة، و لا تنخرط في إيجاد الحلول الدّينيّة لمشاكل البلاد المتراكمة والمستعصية.

إنّ أهل السّنّة هم أهل الجماعة وهم أشدّ النّاس حرصا على وحدة الأمّة، والاختلاف في فروع الدّين لا يؤثّر في جماعتها ووحدتها أبدا، فكم كان الاختلاف بين الصّحابة وهم خير القرون وأفضلها، وكانوا جماعة واحدة، وعلى هذا يجب أن نربّي أنفسنا وشعبنا على هذه المبادئ:
1 وحدة في الأصول وتنوّع في الفروع.
2 الاجتماع في الأصول واجب وفريضة والاختلاف في الفروع سعة ورحمة.
3 نشر ثقافة التّسامح وحسن التّعامل مع الخلاف وذلك بتوعية النّاس أنّ الخلاف واقع وموجود، وهو إنّما يذمّ إذا عارض قاطعاً من الدّين أو ضروريّاً منه، وأنّ أتقى النّاس وأعلمهم وهم صحابة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في زمنه وبعده وكذلك من بعدهم اختلفوا، وتفاوتت اجتهاداتهم، ولم يكن هذا سبباً لفرقة ولا اضطراب ولا فتنة، والأمثلة على هذا كثيرة لا تحصى منها: حديث:"لا يصلّيّنّ أحد العصر إلاّ في بني قريظة"، فاختلاف الاجتهاد يلزم كلّ مجتهد أن يأخذ بما أدّاه إليه اجتهاده، ويلزم مخالفه ألاّ يثرب عليه.120
والواجب على الجميع الرّجوع إلى الحقّ، فالحقّ أحقّ أن يتّبع، والحقّ كما قال الفاروق الشّهيد "أبلج لا يخفى على فطن121"
و الموفّق لا يكتفي بمعرفة الحقّ، بل يجب أن يحبّه ويعمل به، لأنّه من أراد أن يحترم نفسه ويصون دينه فعليه أن يقبل الحقّ، ولا يدفعه الكبر والبغي والتّعصّب على عدم التّسليم له والانقياد إليه، ولا يجعل ولاءه للأهواء يعميه عن قبول الحقّ من أيّ كان، فانّ التّعصّب البائس والمصالح التّافهة هي الّتي أصبحت اليوم حكما في قبول الحقّ وردّه. قال ابن مسعود رضي اللّه عنه :" ومن أتاك بحقّ فآقبل منه وان كان بعيدا بغيضا، ومن أتاك بالباطل فآردده وان كان قريبا
حبيبا"122، وقال ابن تيميّة: "وليس صلاح الإنسان في مجرّد أن يعلم الحقّ، دون أن لا يحبّه ويريده ويتبعه، كما أنّه ليس سعادته في أن يكون عالمًا بالله، مقرًّا بما يستحقّه، دون أن يكون محبًا لله، عابدًا لله، مطيعًا لله، بل أشدّ النّاس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه؛ فإذا علم الإنسان الحقّ وأبغضه وعاداه، كان مستحقًا من غضب الله وعقابه مالا يستحقّه من ليس كذلك، كما أنّ من كان قاصدًا للحقّ طالبًا له وهو جاهل بالمطلوب وطريقه كان فيه من الضّلال، وكان مستحقًا من اللّعنة التي هي البعد عن رحمة الله مالا يستحقّه من ليس مثله، ولهذا أمرنا الله أن نقول:"إِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ"، و"الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ" علموا الحقّ فلم يحبّوه ولم يتّبعوه، و"الضَّالُوْنَ" قصدوا الحقّ لكن بجهل وضلال به وبطريقه، فهذا بمنزلة العالم الفاجر، وهذا بمنزلة العابد الجاهل، وهذا حال اليهود فإنّه مغضوب عليهم، وهذا حال النّصارى فإنّهم ضالّون"123.
هذا هو جانب من الصّورة الواضحة والصّادقة للوضع الدّينيّ في تونس، وكلّ من قال بخلاف ذلك فهو مزيّف ومخادع.
نسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يجعلنا ممّن ينظر بعين الإنصاف ويتبع الهدى دون اتّباع الهوى، ولا يقول على الله إلاّ الحقّ، ولا يلبّس على النّاس دينهم. وأن نكون ممّن يخدم الدّين، ولا يستخدمه، ولا تلهنا الدّنيا عن إيصال الحقّ إلى مستحقّه.
وصلّى الله على محمّد و على آله وصحبه وإخوانه.
كتبه الفقير إلى رحمة ربّه وعفوه: خَمِيس بن علي الماجري المشرف العام على موقع تونس المسلمة
باريس في 11 ذو الحجّة 1430
1 / 12 /2009

1 ابن عبد البر في الجامع 2/ 91
2 ص 26
3 حديث حسن، أخرجه الترمذي 2654، والطبراني في الكبير، 10019 وغيرهما، وانظر بقية تخريجه في التعليق على فضل علم السلف لابن رجب ص 59 دار الأرقم بالكويت.
4 آل عمران 187
5 عقود رسم المفتي لابن عابدين ص 11، وانظر: شرح منتهى الإرادات (3/458 )، وصفة الفتوى لابن حمدان ص39
6 إعلام الموقعين 4/185.
7 بواسطة طريق الوصول لابن سعدي نص117
8 إعلام الموقعين 4/177.
9 صحيح البخاري 7352، صحيح مسلم 1716.
10 مجموع فتاوى شيخ الإسلام 20/208-216 .
11 النّساء 105.
12 انظر إلى كتاب"إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين و الأنصار و تحذيرهم عن الإبتداع الشّائع في القرى والأمصار من تقليد المذاهب مع الحمية والعصبية بين فقهاء الأعصار للإمام صالح بن محمّد بن نوح الفلاني "ص 26
13 انظر: جمع الجوامع 2/397، الإحكام للآمدي 4/236، إرشاد الفحول، ص 269.
14 المائدة 3.
15 الشّاطبي.الاعتصام 1/28.
16 المرجع السّابق 20/208، وانظر: مختصر الفتوى المصريّة 545،
17 الفكر السامي 3/230،
18 بواسطة الفكر السامي 3/230.
19 فتاوى ابن تيمية: 22 /356 .
20 القول المفيد، ص 17، 18.
21 التّوبة 31.
22 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/ 32، وابن حزم في أصول الأحكام 6/149
23 شرح رسم المفتي لابن عابدين ص 29
24 المجموع للنووي 1/ 63
25 إعلام الموقعين 2/302
26 الفكر السّامي 3/238
27 النّساء 65
28 النّور 63
29 الاعتصام 2/515
30 الاعتصام للشّاطبي 2/355
31 مدارج السّالكين ابن القيم: 2/293 .
32 رواه ابن عبد البرّ في الانتقاء ص35.
33 الإعتصام 1/ 77.
34 الاعتصام 1/ 287 .
35 ابن وضّاح في البدع والنّهي عنها ص 32 33، والمروزي في السّنّة ص 13 رقم 26 ن وابن بطّة في الإبانة 1 299.
36 الاعتصام1/82 .
37 رواه الطبري في تفسيره12/85 .
38 الاعتصام 1/ 287 .
39 النّساء 32.
40 النّساء 65.
41 البقرة 256 .
42 الغاشية 22 .
43 المائدة 99 .
44 النّحل 35.
45 في مناسبتين، في النّور 54 و العنكبوت 18
46 الموافقات4/ 204.
47 جامع بيان العلم وفضله 2/993 .
48 مجموع الفتاوى 30/80،79.
49 ابن تيمية 35/387
50 شرح النووي على صحيح مسلم 2/24 .
51 مجموع الفتاوى 30/407 .
52 مجموع الفتاوى 30/80،79.
53 أبو نعيم في الحلية 6/332.
54 البقرة.
55 مقدّمة الجرح والتّعديل لابن أبي حاتم ص 31 – 32 .
56 الاعتصام 1/ 51 .
57 الاعتصام 1/ 51.
58 ابن عبد البرّ في جامع بيان العلم وفضله 2/32 وابن حزم في أصول الأحكام 6/149.
59 شرح النووي على صحيح مسلم 2/24 .
60 القاعدة الخامسة والثّلاثون.
61 القاعدة الأولى.
62 الفقيه والمتفقه 1/435 .
63 آل عمران: 103 .
64 الشورى:13.
65 مجموع الفتاوى 14/159.
66 الصّواعق المرسلة 2/519 .
67 الفتاوى 4 / 137.
68 رواه اللاّلكائي 1 /94 95 ،رقم 136 137. ابن بطّة في الإبانة الكبرى 1/ 319 320 رقم 159 160.
69 النّور:63 .
70 ابن العربي في أحكام القرآن 3/432، و الشّاطبي في الاعتصام 1/131 132
71 رواه مسلم في كتاب البر، وأبو داود في الأدب، ورواه مالك وأحمد وغيرهم.
72 انظر الموطّأ. باب ما جاء في التّأمين خلف الإمام ح رقم 195.
73 رواه البخاري
74 أخرجه ابن حبان في الصحيح
75 صحّحه الألباني
76 انظر إليه في كتاب الصّلاة، باب وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصّلاة، رقم 376، 1/159.
77 فيض الباري 2/255 ، ونيل الفرقدين ص22
78 بتصرّف من كتاب "الحسام الماحق على كلّ مشرك ومنافق" للعلاّمة محمّد تقيّ الدّين الهلالي المغربي.
79 "أنّ النّبيّ كان يضع اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرّسغ والساعد" أبو داود والنسائي وابن خزيمة 1/54/2 وصححه ابن حبّان 485 و"كان أحيانا يقبض باليمنى على اليسرى" النسائي والدارقطني بسند صحيح و"كان يضعهما على الصّدر" وهو مذهب إسحاق بن راهويه وأحمد ابن حنبل وهو ما رجحه القاضي عياض المالكي و الإمام الألباني عليهم رحمة الله. "راجع صفة الصلاة للألباني ص88".
80 النّساء 59.
81 البخاري والدّارمي.
82 النّور 63
83 النّور 54
84 الفتاوى 27/12
85 الفتاوى 24/202.
86 أخرجه البخاري ومسلم و البيهقي في السّنن :2/26 .
87 انظر تفصيل ذلك في فتح الباري 2/220والمجموع 3/399.
88 انظر باب افتتاح الصّلاة ح رقم165.
89 انظر التّمهيد 213/9 و 221، وحاشية الرّهوني على شرح الزّرقاني 1 / 408
90 النّوادر والزّيادات1/170
91 البيان والتّحصيل 1/ 413 .
92 التمهيد9 /222
93 البيان والتّحصيل 1/ 413.
94 انظر مدوّنة الفقه المالكي وأدلّته للفرياني 1 / 350 .
95 معالم السنن 1 /26 .
96 الاستذكار:1/408 .
97 شرح مسلم 2 / 261 .
98 انظر العارضة : 2/58
99 انظر القوانين الفقهية. ص 64
100 انظر شرح الزّرقاني على مختصر سيدي خليل ومعه الفتح الرّبّاني فيما ذهل عنه الزّرقاني للعلاّمة البنّاني . 1 / 370 371
101 انظر مدوّنة الفقه المالكي للغرياني 1/350
أعلام الموقعين 2/376 102
103 النّساء 80 ..
104 الرّوم .
105 الأنعام 159
106 الكهف 28 .
107 الحجرات 7
108 غافر 35
109 الفتاوى 19/78.
110 الفرقان 29 .
111 الأحزاب:66-68.
112 درء تعارض العقل والنقل 5/317-318
تونس المسلمة 113
114 الأحزاب 58.
115 الصّحيح الجامع 6378
116 الأنعام 159
117 الموافقات 4/221 -222
118 البروج 10.
119 السّنّة للخلاّل 1/215، والحلية لأبي نعيم 3/320.
120 انظر في هذا شرح صحيح مسلم، للنووي، ص1139 .
121 الفتاوى 20/44.
122 الإحكام في فصول الأحكام 4/ 586،
123 الفتاوى 7/586


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.