روى الإمام أحمد والترمذي عن أبي العباس عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف) . فهذا الحديث الذي يرويه حبر الأمة وترجمان القرآن وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبدالله بن عباس، ومن خلاله يوصي الأمة كلها، يقول: (يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك). وحفظ الله: أن تحفظ حدود الله وأن تحفظ حقوقه، وأن تحفظ أوامره ونواهيه، فالواجب على العبد أن يحفظ الله كما قال جل في علاه: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ﴾ [البقرة: 238]. فمِن حفظِ الله: أن تحافظ على الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن حافظ عليها؛ كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومَن لم يحافظ عليها؛ لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة) . ومن ذلك: حفظ الطهارة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) . ومن ذلك: أن يحفظ الرأس وما وعى، وأن يحفظ البطن وما حوى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الاستحياء من الله حق الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، وأن تحفظ البطن وما حوى) . فمن حفظ الرأس: أن يحفظ سمعه، وأن يحفظ بصره؛ فلا يقع بصره على محرم، وأن يحفظ لسانه فلا يتكلم بما لا يعنيه، ولا يقع في الغيبة والنميمة وغير ذلك، وأن يحفظ فمه فلا يدخل فيه طعام حرام، يحافظ على سمعه وبصره ولسانه، وأن يحفظ البطن وما حوى. ومن ذلك قول الله عز وجل: ﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾ [المائدة: 89]؛ أي: لا يحلف العبد كثيرًا، وإذا حلف وحنث في حلفه فعليه أن يكفر عن يمينه. ومن ذلك: حفظ الفرج، كما قال عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ [المؤمنون: 5] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يحفظ ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) . فمَن حفظَ الله عز وجل في سمعه وبصره ولسانه وفرجه، وحافظ على حدود الله وحافظ على حقوق الله وحافظ على أوامر الله بأن يؤديها، وحافظ على حدود الله فلا يقع فيها - كان جزاؤه من الله الحفظ، كما قال الله عز وجل: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]، وكما قال عز وجل: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾ [محمد: 7]؛ فالجزاء من جنس العمل. والحفظ من الله للعبد يكون على نوعين: النوع الأول: أن يحفظ سمعه وبصره ولسانه، وأن يحفظ عليه جوارحه، وأن يُمتِّعه بقوته، وأن يحفظ ماله، وأن يحفظ أولاده، حفظًا في الدنيا. والنوع الثاني: هو حفظ الإيمان، أن يحفظ على العبد إيمانه؛ فلا يقع في الشهوات ولا في الشبهات، وأن يحول بينه وبين المعصية التي توجب غضب رب الأرض والسماوات . الخطبة الثانية ان قول الرسول صلى الله عليه وسلم (احفظ الله تجده أمامك)؛ أي تجده تجاهك، أي: تجده معك، أي إن العبد إذا كان يصعد منه إلى الله عز وجل في وقت النعمة والرخاء - يصعد منه كلم طيب، وعمل صالح إلى الله عز وجل، فإذا وقع العبد في الشدة عرفه الله عز وجل، فقبل دعوته، وفرج كربته. (تعرف إلى الله عز وجل في الرخاء يعرفْك في الشدة). كما قال بعض العارفين: تعرَّفوا إلى الله عز وجل في الرخاء يعرفْكم في الشدة. فإن يونس عليه السلام لما كان ذاكرًا لله، عارفًا به في الرخاء، لَمَّا وقع في بطن الحوت قال الله عز وجل: ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 143-144]. ولما كان فرعون كافرًا جاحدًا ناسيًا لذكر الله عز وجل، لما وقع في البحر قال: ﴿ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس: 90] - قال عز وجل: ﴿ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً ﴾ [يونس: 91-92]. فكلاهما ذكر الله في الشدة، وأعلنا إيمانهما في الشدة، ولكن يونس - عليه السلام - كان من أنبياء الله عز وجل، فساهم فكان من المدحضين، ولما وصل إلى ظلمة بطن الحوت دعا الله عز وجل: ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 143، 144]؛ أي: لصار بطن الحوت قبرًا له. أما فرعون؛ فكان جاحدًا ناسيًا لذكر الله، مستكبرًا على طاعة الله، أعلن إيمانه وهو يعاني الغرق، فلم يقبل الله منه؛ بل جعله الله عِبرة للمعتبرين .فينبغي على العبد أن يجتهد في طاعة الله في الرخاء، حتى إذا وقع في الشدة عرفه الله بقبول دعائه.