شاءت الأقدار أن يترجل رئيس الجمهورية الأستاذ محمد الباجي قائد السبسي في الذكرى 62 لإعلان الجمهورية التي كان من أبرز حماتها والمدافعين عنها حتى آخر لحظة في حياته. تونس الشروق: كانت مسيرة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي حافلة بالنضالات والأحداث المصيرية وخاصة في السنوات الأخيرة ومثلت التجارب التي راكمها عونا له في تجاوز كل تلك الأزمات والحفاظ على مبدإ واضح وهو حماية الجمهورية ومبادئها وقيمها وإعلاء راية تونس وتقديم مصلحتها. النشأة ولد الباجي قايد السبسي أو محمد الباجي بن حسونة قايد السبسي في سيدي بوسعيد، بتاريخ 29 نوفمبر 1926 وهو سياسي ومحام قضى في خدمة الدولة أكثر من ستين عاما من عمره وتربى على الفكر البورقيبي. زاول دراسته بمعهد الصادقية بتونس العاصمة ثم أكمل الجزء الثاني من الباكالوريا بديجون سنة 1948، وفي 1949 تحول إلى باريس ليواصل الدراسات العليا في الحقوق. عاد الرئيس الراحل إلى تونس سنة 1952 والتحق بمكتب المحامي فتحي زهير، وتم تكليفه بالدفاع عن الوطنيين الذين مثلوا أمام المحكمة العسكرية للاحتلال الفرنسي وقد رسخت منها ذكريات عديدة استنجد بها في عدة مواقف خلال فترة ترؤسه للجمهورية. ناضل الباجي قايد السبسي في الحزب الحر الدستوري الجديد منذ شبابه وبعد الاستقلال عمل كمستشار للزعيم الحبيب بورقيبة ثم كمدير إدارة جهوية في وزارة الداخلية وكان قبلها صديقا مقربا من نجل الزعيم الحبيب بورقيبة بورقيبة الابن. تمت دعوته بتاريخ 28 أفريل 1956، من قبل الوزير الأول الحبيب بورقيبة إلى ديوانه وتم تكليفه بمتابعة ملف الشؤون الاجتماعية، وفى جويلية 1956، التحق بديوان كاتب الدولة للداخلية الطيب المهيرى وعين مديرا للإدارة المحلية والبلدية. مع الرئيس الحبيب بورقيبة وفي 1962 تم تكليفه من قبل الرئيس الحبيب بورقيبة بمهمة تتعلق بالتنظيم المستقبلي للسياحة والصناعات التقليدية فأصبح مديرا للسياحة. وفي سنة 1969 تم تعيينه سفيرا بواشنطن، لكن بعد تقبل أوراق اعتماده من قبل رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية، تم الاحتفاظ به في تونس ليترأس القائمة الانتخابية للحزب بدائرة تونس. تم انتخابه نائبا بالبرلمان بتاريخ 2 نوفمبر 1969، كما تم تعيينه في الحكومة المكونة من قبل الباهى الأدغم في 7 نوفمبر 1969 وزيرا للدفاع الوطنى في رتبة وزير دولة. وسنة 1970 تم تعيينه سفيرا لتونسبباريس وخلفه بوزارة الدفاع الوطنى حسيب بن عمار، بعد مشاركته في مؤتمر الحزب في أكتوبر 1971، وتم تعيينه عضوا باللجنة المركزية للحزب لكنه قرر الاستقالة من منصبه كسفير وأوضح في مقال نشره بصحيفة ‹لوموند› الفرنسية بتاريخ 1972 أنه لاحظ أن إرادتي الإصلاح والانفتاح الديمقراطي لم يقع احترامهما صلب الحزب. معارضته لبورقيبة وبعودته إلى تونس، استأنف نشاطه بمكتب المحاماة وواصل نضاله مع الليبراليين أحمد المستيري وحسيب بن عمار ومحمد صالح بلحاج وآخرين.كانوا استقالوا من الحزب بسبب غياب الممارسة الديمقراطية. وفى 2 ديسمبر 1980 وافق على الانضمام إلى حكومة محمد مزالي وشغل في فترة أولى خطة وزير دون حقيبة ثم وزيرا للخارجية غداة انعقاد مؤتمر الحزب في أفريل 1981. وقد قدم استقالته من هذا المنصب في سبتمبر 1986. وعين الباجي قائد السبسي سفيرا لدى جمهورية ألمانيا الفيدرالية في نوفمبر 1986 وبقي في المنصب حتى نوفمبر 1987، بعد عودته إلى تونس، عين عضوا بالمجلس الدستوري مع حسيب بن عمار ورشيد إدريس وعياض بن عاشور وغيرهم. أعيد انتخابه نائبا بالبرلمان، وعين في فترة أولى رئيسا للجنة السياسية والشؤون الخارجية ثم في سبتمبر 1990 رئيسا لمجلس النواب حتى أكتوبر 1991، استأنف بعد ذلك مهنة المحاماة حتى الثورة حيث تمت دعوته فى 27 فيفري 2011 إلى رئاسة الحكومة الانتقالية المكلفة بإعداد انتخابات المجلس التأسيسي. الحل في 2011 ربما لم يكن الراحل يتوقع ان يعود الى السلطة مرة أخرى ومن بابها الكبير حيث كان الصراع محتدما حينها حول من سيكون الوزير الاول خاصة بعد رفض مواصلة محمد الغنوشي لكن تم الاختيار عليه وقد ساعدته تجربته السابقة خاصة مع الرئيس الحبيب بورقيبة في استيعاب تلك الظرفية وتحمل المسؤولية. عين في 27 فيفري 2011 من قبل الرئيس المؤقت فؤاد المبزع رئيساً للحكومة المؤقتة وذلك بعد استقالة محمد الغنوشي. و استمر في منصبه حتى 13 ديسمبر 2011 حين قام المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية المنتخب في 12 ديسمبر 2011، بتكليف حمادي الجبالي أمين عام حزب حركة النهضة بتشكيل الحكومة الجديدة. وبعد مغادرته للوزارة الاولى وتسليمه للسلطة في مشهد حضاري يليق بتونس الجديدة عاد الى حياته السابقة لكن سرعان ما قرر العودة الى العمل السياسي حين راى ان الاوضاع لا تسير في الطريق السليم خاصة بالنسبة لمبادئ الجمهورية والمدنية التي رأى انها مهددة وضمنها بيانه حينها. معارضة الترويكا مثلت عودة الباجي قائد السبسي الى العمل السياسي حينها رجة سياسية جعلته مستهدفا من أغلب الأطراف السياسية وخاصة الحاكمة منها ولم يقف الرفض عند التهكم خاصة على سنه وثلبه وانما تجاوزه الى ممارسة العنف ضده وضد من ساندوه في تأسيس حركة نداء تونس ونذكر احداث جربة يوم 24 ديسمبر 2012 وقبلها يوم 18 اكتوبر 2012 -مقتل لطفي نقض. بالرغم من كل تلك الاحداث فقد واصل الباجي قائد السبسي مشواره حيث اهتم بتكوين حزبه والنضال من اجل مواقفه ونذكر تحركاته خاصة اثر اغتيال الشهيد لطفي نقض ثم اثر اغتيال الشهيد شكري بلعيد وكيف ان مواقفه كانت متقدمة حتى مقارنة بالاطراف اليسارية رفاق بلعيد ودعا حينها الى حل المجلس التأسيسي والصراع من اجل مدنية الجمهورية التونسية. وليس كثيرا على الباجي قائد السبسي ان نقول انه انقذ تونس اثر الاغتيال السياسي الذي طال الشهيد الحاج محمد البراهمي عندما تزعم المعارضة وقادها الى طاولة الحوار التي دعا اليها اطراف الحكم وفرض على الجميع التحاور بدل الاقتتال. قيادة الحوار الوطني أكيد كانت هناك أطراف ساهمت في ذلك النجاح الذي تحقق لكن كان الدور الأبرز لخبرة الباجي قائد السبسي السياسية التي مكنته من لعب دور تحكيمي بين مختلف الاطراف حتى تلك التي كانت قبل ايام تطالب باقصائه وعزله وتصغيره. ترشح الرئيس الباجي قائد السبسي للانتخابات الرئاسية سنة 2014 عن حزب نداء تونس الذي قام بتأسيسه سنة 2012 وتمكن من الفوز في الانتخابات إثر إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات يوم 22 ديسمبر 2014 عن فوزه بشكل أولي قبل الطعون وإعلان النتائج النهائية للدور الثاني للرئاسية بنسبة 55.68 بالمائة من جملة الأصوات مقارنة ب 44.32 لمنافسه منصف المرزوقي. وتولى فيما بعد تكليف الحبيب الصيد بتشكيل الحكومة الجديدة إثر اختياره من قبل الحزب الأغلبي كمرشح لرئاسة الحكومة من قبل البرلمان التونسي لكن كانت للرئيس خطوة أخرى لم يتوقعها منه احد حيث انه وبدلا من اقصاء حركة النهضة شركها في الحكم حفاظا على الوحدة الوطنية وخدمة للمصلحة العليا للدولة التونسية. حماية الوحدة الوطنية كانت الظروف الاقليمية والدولية في تلك الفترة تدفع نحو اقصاء الاسلاميين وراينا ما حصل مثلا في التجربة المصرية لكن الباجي قائد السبسي وبالرغم من الضغوطات الكبيرة التي مورست عليه من اطراف دولية وداخلية رفض الاستسلام واخرج النهضة من دائرة التجاذبات الاقليمية وكان هو نفسه يذكر بذلك في الفترة الاخيرة من حكمه بالقول «انا دافعت عن النهضة وانا من بين للعالم انها حزب تونسي معتدل». تلك التضحيات التي قدمها لم تبعد الباجي قائد السبسي من دائرة التجاذب حيث ان تجربة التوافق التي أسس لها انتهت بداية سنة 2018 عندما اختارت حركة النهضة انهاء التوافق معه على حد قوله وخيرت مساندة رئيس الحكومة الذي عينه يوسف الشاهد وبالتالي اعلنت العصيان السياسي على تجربة التوافق. ومن جانبه اختار يوسف الشاهد عصيان الرئيس طبعا لا ندخل هنا في أسباب كل طرف او مدى صحة الخطوات التي قام بها لكن تلك المرحلة جعلت الرئيس يعيش ازمة حقيقية فالحزب الذي اسسه بدأ يتفتت ومن بنى معهم التوافق انقلبوا عليه لكنه بقي متمسكا بالدستور وبقيم الجمهورية ولم يعمل على الانتقام او تعطيل سير مؤسسات الدولة . نهاية عظيمة كانت الأيام الأخيرة في حياة الرئيس من أهم فترات حياته حيث تمكن خلالها من دعوة الناخبين الى الانتخابات التشريعية 2019 كما رفض خلالها الامضاء على قانون اعتبر انه قانون اقصائي وضد مبادئ الجمهورية وكانت آخر رسائله وخير ما يختم به حياته فهو كان دائما ضد الاقصاء ومع الدولة وضد استغلال النفوذ او السلطة لتصفية الحسابات. ومع تلك المسيرة الحافلة التي تخللت أخطاء بكل تاكيد لكنها كانت تنحت رمزا وطنيا آمن بمبادئ الجمهورية وعمل بها الى آخر يوم في حياته لم يكن كثيرا على الرئيس الأستاذ الباجي قائد السبسي ان يترجل في العيد 62 لقيام النظام الجمهوري.