حملوه على الأكتاف، طافوا به من مكان إلى آخر كما لم يطف بأي عريس ليلة زفافه. وقف له زعماء العالم إجلالا وإكبارا، تجمع الآلاف في الشوارع والملايين وراء أجهزة التلفاز ليتابعوا رحلته لحظة بلحظة في أدق تفاصيلها. بكاه أنصاره ومحبوه وعامة الشعب، رثاه القاصي والداني… هو شرف يلحق بعض المحظوظين من البشر بعد مماتهم. لكن الشرف الحقيقي لتونس ولكل التونسيين بمن فيهم من يكره الباجي ومن وجد القدرة على ذكره بسوء دون صحوة ضمير أو وازع أخلاقي أو مانع ديني. الباجي استفاد من جنازة عسكرية مهيبة يدفع البعض لتحقيقها الكثير من التسلط والبطش و»العنطزة» والتضحية بالديمقراطية وحقوق الإنسان والبلاد والعباد. فالباجي نالها دون أن يسعى إليها. فهو الذي أعيد إلى المشهد السياسي في أحلك فتراته. وهو الذي وصل إلى رئاسة الجمهورية بانتخابات نزيهة وشفافة وديمقراطية. وهو الذي غادرنا قبل أن ينهي عهدته الأولى. لا نعلم إن كان الله جازاه على عمل خيري لا نعلمه أو أكبر فيه عملا نستصغره أو أكرمه على ما ترفضه عقول البعض منا... هذا كله في علم العيب فما أوتينا من العلم إلا قليلا. لكن ما لا ينكره غير الجاهل أو الحاقد أو ذي النفس المريضة أن الله لم يصطف الباجي برسالة ولا بولاية صالحة بل جعله مع العديد من الشخصيات التونسية والأحداث التي نراها عابرة ضمن الأسباب التي حمت تونس رحمة من ربها. الباجي لمن يتناسى كان ضمن قلة من التونسيين الذين تحملوا مسؤوليتهم التاريخية سنة 2011 في إيصال البلاد إلى شاطئ الأمان الأول بإنجاز انتخابات المجلس الوطني الدستوري بعد مخاض عسير، وهو واحد من قلة أخذوا على عاتقهم حماية البلاد سنة 2013 وإعادة التوازن السياسي باعتباره الضامن الوحيد والحقيقي لتركيز الديمقراطية. وهو الذي كان من أبرز الشخصيات التي حمت تونس سنة 2014 من حرب أهلية مدمرة. وهو باجتهاده من كان طرفا مهما سنة 2015 في حماية البلاد داخليا وخارجيا عبر التوافق وسد الطريق أمام التدخلات الإقليمية في السياسة التونسية. قد نختلف في تقييم دوره مثل اختلافنا في الحكم على قراراته وخياراته ومبادراته وحساباته وتكتيكاته. لكن لا نختلف حول وطنيته حتى لو اختلفنا في هذا. فلن نختلف بأن تونس بلدة طيبة لها رب رحيم يسخر لها الباجي أو زيدا أو عمرا ليحميها تنفيذا لإرادة الله. الباجي فشل في توحيد التونسيين وجمعهم كلهم تحت برنسه وفشل في التخفيف من حدة التجاذب السياسي ومنع حزبه من التفكك والانشطار وتقديم صورة أكثر نقاء عن تونس وهذا ليس خيانة منه ولا استخفافا. بل جراء العراقيل التي نصبها أعداء تونس في الداخل والخارج. لكن بعضنا يغفل عن أمر مهم فمن بكى الباجي لم يكن الندائي فحسب بل معه الإسلامي واليساري والشيوعي والحداثي والمحافظ ومن حزن على رحيله لم يكن حافظ وبقية أفراد أسرته فقط بل رفاق دربه مثل «وريثه» الحالي محمد الناصر وأصدقائه المقربين وشركائه في التوافق (مثل الغنوشي) وحتى ألد خصومه مثل سلفه في الرئاسة منصف المرزوقي مما جعله بوفاته يؤلف بين قلوب التونسيين مثلما أراد في حياته وعكس ما أراد أعداء تونس من التونسيين. وفاة الباجي أعطت صورة رائعة للعالم عن التحول الديمقراطي في بلادنا وجنازته قدمت صورة أروع عن جمال تونس وتحضرها وتميز شعبها ووحدته وحبه لبلاده واحترامه لمن خدمها… كم حلمنا بهذه الصورة التي تحرق أعصاب القلة الضالة من التونسيين.