كعادته لا يتكلّم الحكم التونسي الكبير ناجي الجويني إلاّ لينطق بالصِّدق والحق دون أن يخشى لومة لائم. وقد استغلت "الشروق" فرصة تواجد الجويني في تونس بمناسبة التربّص الخاصّ بالحكام القطريين لإجراء هذا الحوار الذي تحدّث فيه ضيفنا دون قفازات عن الواقع الأليم للصّافرة التحكيمية والكُرة التونسية عُموما. في البَدء ما هو سرّ الثقة العمياء التي تحظى بها في قطر؟ السرّ الحقيقي يكمن في الكفاءة والعمل الجَاد. فقد آمن الأشقاء بقدرتي على النهوض بالتحكيم القطري استنادا إلى الخبرات التي راكمتها على امتداد سنوات طويلة في القطاع. وقد مضى على هذه العلاقة التعاقدية قرابة عشر سنوات نجحت خلالها لجنة التحكيم القطرية في تحقيق جُملة من المكاسب في انتظار المَزيد خاصّة أن المشروع المُتّفق عليه ضخم ويخضع لسياسة المراحل. رغم تواجدك في "الدّوحة" فأنت تُحاضر في الخارج وتُتابع بشكل جيّد المشهد التحكيمي. فكيف تُقيّم أداء الصّافرة الافريقية على هامش ال"كان" الأخيرة في مصر؟ مردود الحكّام الأفارقة كان مُتذبذبا وبان بالكاشف أن "القُضاة" الناشطين في القارة السمراء يحتاجون إلى عمل كبير لبلوغ المُستويات المنشودة. ومن المُلاحظ أيضا أن الفوارق شاسعة بين الحكام. فقد حقّق البعض الإمتياز ويُمكن وضعهم ضمن الصِّنف الأوّل كما هوالحال بالنسبة إلى الجنوب - افريقي "فيكتور غوميز" والأثيوبي "باملاك تيسيما" والمصري جهاد جريشة والجزائري مصطفى غربال والغمبي "باكاري قاساما". هذا في الوقت الذي يتواجد فيه بقية الحكام في الصف الثاني والثالث. أثار "الفَار" جدلا لا ينتهي فهل من تعليقات حول تطبيق هذه التَقنية في المُنافسات الافريقية؟ الهدف من تركيز تقنية الفيديو يكمن في تطبيق "العَدالة الرياضية" من خلال مساعدة طاقم التحكيم على الفصل في اللّقطات المُتنازع حولها. ولئن نجح الأوروبيون في قطع خطوات عملاقة في هذا المجال فإن كل الوقائع تُثبت أن الكرة التونسية والإفريقية عُموما غير جاهزة لإستخدام مثل هذه التقنيات الحديثة. ولا يخفى على أحد أن تطبيق هذه التقنية يحتاج إلى أمرين مُهمّين. أمّا الشرط الأوّل فإنه يكمن في التكوين الجيّد للحكام المُكلّفين بإدارة غرفة "الفار" ومن الضروري أيضا أن تُصادق "الفيفا" على بطاقات الإعتماد المُسلّمة لهؤلاء الحكّام. وأمّا الشرط الثاني فإنه يتمثّل في توفير الوسائل التقنية إذ أنه لا معنى ل "الفار" دون تركيز حوالي 8 كاميراوات لرصد اللّقطات من كلّ الزوايا. أفرزت "كان" مصر العديد من "الفَتاوى" حول بعض اللّقطات التحكيمية التي فرضت اللّجوء إلى "الفار". فكيف تقرأ الاختلافات الحاصلة في هذا الموضوع؟ شخصيا لاحظت وجود لقطتين بارزتين ومُثيرتين للجدل وتَتعلّق الأولى بلقاء المربّع الذهبي بين تونس والسينغال في حين حدثت الثانية في مباراة "الفينال" بين الجزائر والسينغال. وبعيدا عن العاطفة نؤكد أن "الفَار" أنقذ الموقف في الحالتين (عدم احتساب ضربة جزاء لتونس في مباراة الدور نصف النهائي بعد لمس المدافع السينغالي للكرة بالبيد وكذلك عدم تصفير ضربة جزاء للسينغال في مباراة النهائي بعد لمس اللاعب الجزائري للكرة بيده). هل من شرح مُبسّط وتوضيح مُقتضب للمس الكرة باليد داخل مناطق الجزاء؟ الكثيرون يتحدّثون عن القانون الجديد والذي نسعى منذ فترة الى إلى شرحه للحكّام واللاعبين ليستوعبوه بَعيدا عن القراءات المغلوطة. ويهدف القانون الجديد إلى تجاوز الثغرات وضمان الحُقوق والسعي الدائم لإضفاء جمالية أكبر على اللّعبة. وبالعودة إلى موضوع لمس الكرة بالبيد نشير إلى أن الأمر واضح وضوح الشمس ولا يحتاج إلى الكثير من الإجتهادات. -ذلك أن لمس الكرة من طرف المهاجم داخل منطقة الجزاء يستوجب الإعلان عن مُخالفة لفائدة الفريق الخصم. وعندما يتعلّق الأمر بلمس الكرة باليد من قبل المدافع فإن الشرط الأساسي والأهمّ لإحتساب ضربة الجزاء يكمن في وضع اليد: أي أنها في وضعية طبيعية أم العكس. وهذا العامل هو الفيصل لتحديد وجود المُخالفة من عدمها. إن القانون واضح ولا لبس فيه لكن يبدو أن بعض الجهات تُحاول استغلال الموقف لتُغالط الناس الذين قد لا يُميّز بعضهم بين الحَالتين المذكورتين. مع العلم أنه بوسع الطرف المُعترض على لقطة ما رفع الأمر إلى "الفيفا" التي تُقدّم للمُشتكي الإجابة الشافية. نأتي الآن إلى الملف الذي يهمّنا بصفة مباشرة وهو التحكيم التونسي. فكيف تنظر إلى واقع صَافرتنا؟ المنطق يفرض الإنتصار للكيف لا الكمّ. وأقول هذا الكلام لتزايد الخطابات الرسمية حول عدد المُلتقيات والحكام المشاركين في المسابقات الدولية في حين أن هذه الإحصائيات مجرّد مُغالطات ولا تعكس الوضع المُؤلم للتحكيم التونسي. فقد شاركنا مثلا بخمسة عناصر تحكيمية في الكأس الافريقية الأخيرة (السالمي والسرايري وقيراط وهميلة والملولشي). وتمّ التسويق لهذا الحُضور القوي على أساس أنه "إنجاز" كبير وغير مسبوق. لكن مع انطلاق ال"كان" ضاع حكامنا في الزّحام واكتفى أبناؤنا بتسجيل الحُضور ودون النجاح في بلوغ الأدوار المُتقدّمة. والحقيقة أن المشاركة الباهتة في ال"كان" ليست سوى تكملة لمُسلسل الغياب الصَّادم لحكامنا عن الأدوار المُهمّة في المنافسات القارية فضلا عن "القطيعة" مع النهائيات المُونديالية. ومن الضروري أن نُصارح أنفسنا ونُقدّم تشخيصا دقيقا وشفّافا عن واقع التحكيم الذي يحتاج إلى مُراجعات شاملة تبدأ من التكوين الجيّد وُصولا إلى رصد الميزانيات اللاّزمة لتحقيق نُقلة نوعية في القطاع. في سياق مُتّصل بالصّافرة التونسية عِشنا خلال الموسم الفارط ظاهرة مثيرة للجدل وهي "غزو" التحكيم المصري لبطولتنا. فهل تعتبر أن التعاون التونسي - المصري مُثمر أم أنه سيضرّ بالقطاع؟ أنا لا أؤمن بحكاية الشراكة خاصّة أن كلّ الأدلة والبراهين تُثبت أن هذا القرار يهدف إلى إرضاء بعض الجمعيات وإسكات البعض الآخر خاصّة في ظل الاتهامات والتوتّرات التي تسيطر على المشهد التحكيمي في بلادنا.ولا يُمكننا إلاّ أن نقول إن هذه الاتّفاقية هي خطوة إلى الوراء ومن الضروري التخلي عن هذه "المسرحية" بصفة فورية خدمة لمصلحة الصَّافرة التونسية. تعتقد بعض الجهات أنه لا إصلاح دون إسقاط "المنظومة" الحالية بقيادة وديع الجريء. فهل تتبنّى هذا الموقف؟ أنا حكم وأحترم القوانين التي تقول إن الجامعة الحالية أتت بها الإنتخابات لا التعيينات. ومن هذا المُنطلق فإن الحديث عن التغيير والإصلاح يهمّ أوّلا وأخيرا الجمعيات التي اختارت المكتب الجامعي بملء إرادتها وما عليها إلاّ أن تَتحمّل مسؤولياتها. وينبغي على الأندية أن تُحاسب نفسها على الخيارات التي قامت بها. ومن الضروري أن تكون صريحة مع نفسها وتعترف بأنّ المنطق يفرض مُراعاة المصلحة العامّة لا تحقيق المنافع الذاتية. يبدو أنك تحمل صُورة سلبية عن الأوضاع الكروية في تونس أليس كذلك؟ لاشك في أن الكثيرين على وعي تامّ بأن الكرة التونسية تسير نحو المجهول. وهذا التشخيص نابع من عدّة مُؤشرات لمسناها على أرض الواقع. فقد لاحظ الجميع حالة الضّياع التي ظهر بها فريقنا الوطني في كأس افريقيا. والحقيقة أن الوجه الشّاحب للمنتخب يعكس المشاكل العميقة للكرة التونسية التي غابت منتخباتها الشابة عن التظاهرات الدولية الضخمة مثل المونديال والأولمبياد وهو ما يضع المُشرفين على التكوين في قفص الاتّهام. وهُناك أمر آخر خطير ويفرض علينا إشعال الأضواء الحمراء وهو الزحف الكبير للاعبي شمال افريقيا نحو ملاعبنا. وأعتقد أن تزايد لاعبي المنطقة المَغاربية في بطولتنا وإدراجهم ضمن العناصر المحلية من القرارات التي ستعود بالوبال على المنتخبات الوطنية. ذلك أن الوافدين من الاتحادات المُجاورة سينتزعون أماكن العناصر الصَّاعدة والتي كان من المفروض أن تصنع ربيع الأندية وتُدافع في مرحلة مُوالية عن المنتخبات الوطنية. والخوف كلّ الخوف أن يأتي يوم لا نعثر فيه على لاعبين دوليين في السّاحة المحلية ما قد يدفعنا إلى التَنقيب في "أدغال" وأرياف أوروبا عن أيّ عنصر حامل ل"عِرقٍ" تونسي ولو من جهة الجدّ الأكبر. وأعرف جيّدا أن القانون المُتعلّق بلاعبي شمال افريقيا جاء ليخدم بعض المصالح الضيّقة وقد يستفيد منه البعض لكنّه سيعود بالوبال على الكرة التونسية على المدى المُتوسّط والبعيد. يترقّب الجميع قرار محكمة التحكيم الرياضية بخصوص قضية الترجي والوداد. فكيف تقرأ النِّزاع من الناحية التحكيمية؟ الأمانة تجعلنا أمام حتمية الإعتراف بشرعية الهدف المغربي المُسجّل في رادس رادس لكن القانون والمنطق يُرجّحان كفّة الترجي. وأعتقد أن اللّقب من حق مُمثّل تونس ونقول هذا الكلام عن قناعة لا من باب العَاطفة خاصّة أن الوداد انسحب من تلقاء نفسه. كما أن "الفَار" ليس من الشروط الأساسية لإجراء المُباريات الرياضية. في انتظار لقاء آخر ماذا تقول؟ أنا سعيد من أجل تونس بعد النجاح في نقل السلطة بشكل سريع وسلس لنُقدّم للعالم بأسره درسا جديدا في احترام المُؤسسات والتقيّد بقيم الديمقراطية. ونأمل أن نستثمر الوحدة التي تلت وفاة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي لرصّ الصُفوف والنهوض بالبلاد على كلّ المستويات الاقتصادية والسياسية والرياضية. والاختلاف في الرأي لا يُفسد للودّ قضية.