نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. إدريس (الرشيد): 2711917 / 592009 وفي بشاور ساحة كساحة باب سويقة كان له فيها خطاب ومفاجأة . قال : « جئت للاجتماع بعد أن أدّيت معهم ( أي الباتان) الصلاة في مسجد البلدة. وهو مسجد من طابقين لا يكاد الإنسان يجد فيه شبرا فاضيا من شدّة اكتظاظه بالمصلّين . وتمكّنت مع مرافقي بعد جهد من إيجاد فجوة بين المصلّين في الطابق الثاني . وألقى الإمام خطبة الجمعة بالأردية أو الباشتو والدعاء بالعربية . وبعد أداء الصلاة وتلاوة الفاتحة والدعاء انتشر المسلمون في الأرض، وكثير منهم قصدوا موقع الاجتماع . ولمّا جاء دوري في الكلام ألقيت خطابي مشيدا بالأخوة الإسلاميّة التي تربط بيننا، وشارحا وضع بلادنا وكفاحها ومحنة المغرب العربي الإسلامي . وكان أحد الإخوان يترجم فقرة فقرة ما كنت أفوه به. وقد تأثر القوم عظيم التأثر فالتفّ حولي الكثيرون منهم بعد أن انقضى الاجتماع يعبّرون عن عطفهم واستعدادهم لمناصرة إخوانهم المكافحين في أقصى الأرض» (ص 29). وأضاف: «وإثر هذا الاجتماع بحثت عن العلم التونسي الذي كنت أحمله معي وقد رفع على المنصّة فلم أجده، وعدت في اليوم التالي أبحث عنه لدى منظّمي الاجتماع ولكنّي لم أظفر به . وكم كانت دهشتي عظيمة عندما صارحني الإخوان بأنّهم احتفظوا به للبركة « (ص 29). العاصمة الثانية لباكستان هي لاهور. وهي كما وصفها: «مغوليّة النشأة، ذات آثار عظيمة تشهد بمجد تليد زاهر، مسجدها ما أوسع رحابه! وفي صحنه الفسيح أقيم ضريح الشاعر إقبال. وقصورها شاهقة، وقباب أبراجها مذهّبة، وحديقتها حبس عنها الماء بسبب مشاكل كانت قائمة بين الهند وباكستان» (ص 30). وفي عقرا بالهند أعجب بالفنّ المغولي من خلال تاج محل. قال: «عدنا إلى التاج ننعم بفنّه البديع ونطوف به في حديقته البديعة ونهر «القانج» يمتدّ إلى بعيد، وعلى سواحله بشر يتطهر وبقر يقدّس! وتابعنا زيارة المعالم القريبة فطفنا بالمدينة المهجور المبنيّة من حجارة حمراء. وهي قائمة كما بنيت منذ قرون بقصورها وبيوتها وأسواقها، ولم يستقرّ بها بشر، فقد لعنها القدر إلى الأبد ! ووقفنا ننظر إلى «التاج» من نافذة قصر عظيم في الغرفة التي سجن فيها الملك «شاه جهان» باني التاج ضريحا لزوجته «نور جهان. وقد سجنه ابنه بعد أن افتكّ منه الملك. وما «التاج محل» سوى ضريح فريد من نوعه أقامه لزوجته فخلّد به الحبّ والوفاء. وكان من النافذة ينظر إليه وهو سجين، ن ولعلّه كان يذكر ويعتبر. وفي قصر الوزير اعتماد الدولة القريب شاهدنا آية أخرى من آيات الفنّ المغولي البديع، ونعمنا برقّة النقش على الرخام، وقضينا في ذلك القصر برهة وكأنّنا في قصر مسحور. فقد نقشت جدرانه وعرصاته بلطيف النقش، فكان بناء شفّافا يسحر النفوس برقّة فنّه البديع « (ص 37). بعد مهمّات في القاهرة وعواصم أوروبيّة تخلّلتها زيارات قصيرة لتونس كلّف الرشيد إدريس بالسفارة التونسيّةبواشنطن. وهاهو يفاجئه ولده بخبر عاجل : اغتيال مرتن لوثر كنق. « كان ذلك مساء الرابع من أفريل 1968 وكنّا جالسين نتحدّث في إحدى قاعات السفارة فتحوّلنا إلى ناحية جهاز التلفزة نتطلّع إلى حقيقة الأمر ونتثبّت في صحّة هذا النبإ الخطر ونقدّر ما عسى أن يترتّب عنه من تقلّبات. فقد كان مرتن لوثر كنق من أشهر زعماء الزنوج وأقواهم حجّة لبلاغته وقوّة تأثيره. وهو يتمسّك بقاعدة عدم العنف في كفاحه. تلاقينا مرّات في واشنطن، وكانت إحدى الفرص بمناسبة محاضرة ألقاها في جامعة هوارد شرح فيها قضيّة السود في أمريكا . وتتبّعنا رحلته الأخيرة لمنفيس واستمعنا إلى خطاباته المؤثّرة . وقد امتدّت يد مجرمة لاغتياله. وسرعان ما انتشر خبر الجريمة فأحدث ردّ فعل عنيف من قبل الأقلّية السوداء بأهمّ المدن الأمريكية، وعمّ الاضطراب بعض أحياء العاصمة واشنطن التي يسكنها حوالي 70 % من السود. وأحرقت متاجر وخرّبت دكاكين وعمّت الفوضى حتّى اضطّرت السلطة إلى إعلان حالة الطوارئ» (ص 72). ذاك يوم حزين.. وهذا يوم يسرّ: «يوم لا ينسى من أيّام الألعاب الأولمبيّة بمكسيكو سنة 1968 وكنت يومئذ سفيرا للجمهوريّة التونسيّةبواشنطن ومعتمدا غير مقيم لدى دولة المكسيك. انتصر القمّودي في سباق الخمسة آلاف متر، واعتززنا بانتصاره أمام دول العالم، وغمرنا شعور الفرح والسعادة عندما ارتفع العلم التونسي على الميدان الأولمبي وعزفت الموسيقى نشيدنا القومي وسلّمت الميداليّة الذهبيّة للفائز . وفي المساء جمعتنا حفلة تكريم أقامها على شرف القمودي قنصلنا الشرفي بالمكسيك بأحد المطاعم الفاخرة « (ص 76). وفي جولة عبر أمريكا الجنوبيّة زار الرشيد إدريس المكسيك ولاحظ أنّ «المكسيكيين من أصل هندي أو إسباني يشبهون التونسيين كما أنّ ملابسهم المزركشة تشبه في ألوانها ما يوجد في أريافنا. وفي المدن جدران مكسوّة بالزليج وجدران بيضاء وأقواس وأسوار تذكّر بالفنّ العربي الأندلسي، وفي ذلك ما يقرّب على بعد المسافة واختلاف اللغة والدين . يضاف إلى هذا أنّنا كلّنا في صراع مع الحياة، ومعركتنا في سبيل التنمية رهان عسير» (ص 88). ثمّ زار البرازيل فأعجب بعاصمتها برازيليا الحديثة كما خطّطها رئيسها السابق كوبتشاك (ص 101) . ثمّ زار البيرو، وفوجئ في ليما بالشمس التي لا يظهر قرصها بل ترسل أنوارها خافتة من وراء حجاب كأنّها مكسوّة بضباب، وأعجب بطريقة دفن الإنكا لموتاهم قاعدين وبوفرة الذهب (ص 121). ثمّ زار بوليفيا محاذرا في لاباز خطر الارتفاع على القلب، وملاحظا لباس النساء لقبّعات مستديرة . وبالمناسبة استحضر في عجالة تاريخ الثورات في ذلك البلد وصولا إلى اغتيال الزعيم شي غيفارة، وسجّل أثر الأزمة الاقتصادية من التضخّم المالي إلى ارتفاع الأسعار (ص 123). ونفس الخطر على دقّات القلب دقّ جرسه في كيتو عاصمة الإكواتور وفي مكسيكو عاصمة المكسيك (ص 126). في قريت فالس بولاية منتانا حلّ الرشيد إدريس بصفته الديبلوماسيّة ضيفا على عائلة شفيتزر في ضيعة للفلاحة وتربية البقر . وكان الحديث حول علاقة اتّحاد المزارعين بالحكومة، وحول تونس التي لا يعرف الأمريكيّون عنها غير حنّبعل قديما وبورقيبة حديثا (ص 154) . وفي ضيافة عند رئيس قبيلة من بقايا الهنود أصيلي أمريكا قدّم له، ولمن معه، طعام تقليدي يشبه الطعام التونسي في « القدّيد» ويختلف عنه في حساء من عصير الفراولة (ص 165). ثمّ زار معرضا لتحف ورسوم تمثّل حياة الهنود (ص 175). ولشدّما أعجب، وهو في مدينة وليامسبورغ بولاية فرجينيا، بما بذلته أسرة روكفلر من أموال لإعادة بناء المدينة على الصورة التي كانت عليها أيّام الاستقلال سنة 1776 م بدكاكين الخبّاز والنجّار والحدّاد مع ترميم قصر الحاكم الأنقليزي ومجلس النوّاب. شعر فيها بالاطمئنان إذ منع فيها مرور السيّارات وفسح المجال للعربات تجرّها الخيل، وتذكّر زيارة بورقيبة لها في ماي 1968 (ص 180) . وتنفيذا لبرنامج الرحلة شارك الرشيد إدريس مع مرافقيه الدبلوماسيين نزول النهر الأخضر – أحد فروع الكولورادو – انطلاقا من لودور في سبعة زوارق بالتجديف مع محطّات استراحة وتخييم ووصولا إلى مرسى مجاور لحديقة الديناصورات . وخصّ هذه التجربة بعدّة صفحات تخلّلتها ذكريات الطفولة ومغامرات الكفاح (186 – 237). ثمّ زار سان فرانسيسكو المشهورة بإعلان ميثاق الأمم المتّحدة في 26 جوان 1945 وبالزلزال العظيم سنة 1906 . قال إنّ الناس فيها يخشون كوارث أخرى، وفي نفس الوقت يشيّدون ناطحات السحاب (ص 241 – 245 ). وأخيرا عاد السفير إلى بيته بنيويورك، في الشارع الخامس بمنهاتن، ليفكّر ويكتب... إلى أن استقرّ «السندباد» بقرطاج لبقيّة الحياة. التعليق : بصفته مناضلا وديبلوماسيّا من زعماء الحركة الوطنيّة وأعضاد بورقيبة في المسار التحريري وبناء الدولة جمع الرشيد إدريس بين مهامّه كسفير وبين نشاطه على هامش السياسة بما في ذلك السياحة . وبأسلوب لطيف دوّن بصفته الأدبيّة، أيضا، ملاحظات وأحداثا ومواقف ومشاعر تفيد المؤرّخ وتمتع القارئ. ومن خلالها بدا مسكونا بحبّ تونس، لا ينقطع عنها مهما ابتعد وانشغل، ولا ينفكّ عن التذكّر والمقارنة، على غرار جيله المكافح، معبّرا بنفس النعوت والصور غالبا. (انتهى)