قضي الأمر اذن، ومنح الصندوق شرعيته الى قيس سعيّد أمام منافسه نبيل القروي، وبذلك استكمل المسار الديمقراطي بعد الانتخابات التشريعية، غير أن ذلك لا يعدّ سوى بداية يجب أن يتبعها الارادة الصادقة والالتفاف حول رؤية واحدة. ومثّل الانتصار الباهر للسّيد قيس سعيد بنسبة 72% من الاصوات، مفاجأة مدوّية على جميع المستويات بالنظر الى الفرق الشاسع بينه وبين منافسه بالإضافة الى نسبة الاقبال المرتفعة مقارنة بالانتخابات التشريعية. ويمكن تفسير هذا الاقبال الكبير على الرّمزية التي مثّلتها شخصية قيس سعيد القائمة على الصرامة ونظافة اليد وكرجل قانون، بالإضافة الى دغدغة شعور الذين لم يصوتوا سابقا عبر القضية الأم التي تأخذ حيزا كبيرا في وجدان الشعوب العربية وهي القضية الفلسطينية. وكما كان النصر عظيما لسعيّد فإن المسؤولية القائمة على عاتقه الآن تبدو أعظم بتحقيق كل ما وعد به وما ينتظره منه أنصاره وحتى من لم يصوتوا له او بقوا على الحياد متّخذين موقف المتفرّج الذي رغم ذلك يريد حقا ان تتغير الأوضاع ليتغيّر رأيه. وبدا أن أغلب من انتخبوا سعيّد وهو الذي خاطب الأنا العليا فيهم ينظرون اليه كمخلّص وكبان لمرحلة جديدة من التغيير والازدهار شبيهة بالتي حدثت سنة 2011 وهو ما أكدته الاحتفالات التي تلت اعلان انتصاره والتي كانت عارمة. لكن الآن وبعد ان انقشع الغبار عن المعركة الانتخابية وانتهى الحماس وبدأ الجد فإنه وجب كنس كل الخلافات والاختلافات والالتفاف حول خدمة الوطن بكل ارادة صادقة بعيدا عن الحسابات الضيقة والمصالح الحزبية التي أضرّت كثيرا بالبلاد. لا يمكن لقيس سعيّد وحده او لحزب وحده بناء دولة والنهوض بها، بل يجب ان تكون هناك رؤية موحّدة للارتقاء بهذه البلاد في هذا الظرف التاريخي الحساس الذي يستوجب ترك المناكفات جانبا ووضع اليد في اليد من أجل مصلحة الجميع. كما لا يجب أن تكون النظرة القائمة الآن ،حكومة ومعارضة، على الصراع من أجل من سيفوز بالحكم ومن سينهزم بل يجب أن يكون صراعا صادقا على خدمة الوطن وحده لتحقيق تطلعات الشعب وخاصة الشباب المعطل عن العمل. تنتظر هذه البلاد تحديات كبيرة أمنية واقتصادية واجتماعية وان لم يكن الجميع حتى المواطن البسيط متحملا لكامل مسؤوليته فإن الفشل سيكون فشل الجميع كما سيكون النجاح أيضا نجاح الجميع. الآن وكما يتوجّه الجنود الى الجبهة للدفاع عن الوطن بكل حماس، فإن الأحزاب ومجلس نواب الشعب المنتخب مدعوون إلى الإسراع بتكوين حكومة جديدة تنهض باقتصاد هذه البلاد وتوفّر الكرامة لشعبها. ويبدو أن العنوان الأنسب لهذه المرحلة السياسية هو التنازل والتوافق والحوار والصدق في النوايا ووضع مصلحة الوطن فقط نصب الأعين. ان هذه البلاد يمكن أن تكون عظيمة بوعي نخبتها وسياسييها وشعبها والتفافهم حول مشروع الوطن الاستثنائي الذي ضرب ويضرب مثالا لكل شعوب العالم على سيره في الاتجاه الصحيح. اليوم كل الأنظار موجّهة الى تونس كمثال عربي يحتذى به وكتجربة فريدة في الديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة التي يتقاتل من أجلها المتقاتلون وتفنى شعوب من أجلها في أماكن أخرى غير بعيدة.