الحالة مدهشة بكل المقاييس هكذا اجتمعت آراء المتابعين لما حصل في آخر المحطات الانتخابية حيث توقّف قطار الانتخابات الاحد 13 أكتوبر عند نسبة مشاركة لم تكن متوقعة في انتخابات الدور الثاني من الرئاسية التي فاقت 60 بالمئة. تونس (الشروق) انهى التونسيون الاحد 13 أكتوبر آخر المحطات الانتخابية في الانتخابات العامة الجديدة التي بدأ مسارها منذ 15 سبتمبر (الدور الأول من الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها) لانتخاب رئيس جديد وبرلمان جديد. واختلفت نسبة الاقبال خلال الآحاد الثلاث لتكون في حدود 47 بالمئة خلال الدور الأول وفي حدود 43 بالمئة في الانتخابات التشريعية يوم الاحد 6 أكتوبر ولتقفز النسبة الى اكثر من 60 بالمئة اول امس الاحد. الخيارات ذاتها كانت مفاجئة حيث اختار الناخب الانحياز للمستقلين في البرلمان وفي الرئاسة وكان الانتصار الجماعي لفكرة محو ما سمّي ب»السيستام» بعد مضي 9 سنوات على الثورة وانهيار نظام حكم بن علي اثر موجة احتجاجات اجتماعية انهت النظام خلال اقل من شهر (17 ديسمبر 2010/15 جانفي 2011)خذلان كانت نسبة الاقبال على الانتخابات البلدية في ماي 2018 مفاجئة وهي التي لم تتجاوز 37 بالمئة وكانت مفاجأتها الأكبر فوز المستقلين بمرتبة أولى. انسحب الامر لاحقا على الانتخابات البرلمانية والرئاسية حيث مثّل المستقلون قبلة الناخب وهو الذي اعلن صراحة خيبة امله في الأحزاب سواء الحاكمة او المعارضة. ويفسّر متابعون للشان السياسي هذا الوضع بان عدم الاستجابة للمطالب التنموية وعدم وجود برامج حقيقية تدافع عن مطالب الشارع وتستجيب لاستحقاقات الثورة من ذلك الشغل والكرامة والعدالة الاجتماعية والتنموية سهّل على الناخب النفور من الأحزاب. كما ان الازمات الداخلية التي مرّت بها الأحزاب وتجربة التقارب بين الأطراف السياسية فرضت أيضا نفورا من القواعد والانصار. كان هناك خذلان حقيقي للشارع. وكان متابعون للوضع الاجتماعي قد حذروا في وقت سابق من تعاظم الازمة الاقتصادية والاجتماعية وان الانصراف نحو البناء السياسي خلق ديمقراطية سياسية مفرغة ولا تستجيب لانتظارات الناس وهي في المحصلة لا تقود سوى الى الهلاك ما لم تصاحبها برامج وآليات خروج من حالة التازم الاقتصادي والاجتماعي. ولئن اختار البعض الاحتجاج في الشوارع وقطع الطرقات للمطالبة بحلول تجاه ازمة العطش والبطالة والتفقير والتهميش وغياب التنمية وغياب الادوية والخدمات الأساسية كالصحة والنقل والخدمات الإدارية وغيرها من المطالب التي تمس الحياة اليومية للمواطنين (وجُوبِهوا بالتصدّي الأمني والمحاكمات العشوائية) الا ان الأغلبية ظلّت صامتة الى حين الموعد الانتخابي حيث كان العقاب الجماعي للمنظومة الحزبية حكومة ومعارضة وحيث كانت مفاجأة نتائج الاقتراع مساء 15 سبتمبر: غير متحزبين يهزمان رئيس الحكومة ووزير دفاعه ورئيس جمهورية سابق و رؤساء حكومة سابقين ووزراء سابقين ويمرّان بيسر الى الدور الثاني. كان الناخب هو الصانع لهذه النتيجة المبهرة. السيستام والهامش انسحب ذات السيناريو على الانتخابات التشريعية والتي كانت حملتها باهتة ويوم اقتراعها باهتا إذ ان نسبة الاقبال كانت لتكون قريبة من نسبة الاقبال في الانتخابات البلدية لولا تلك الصيحات التي اطلقها نشطاء وفنانون ومثقفون لدعوة الناخبين للاقتراع لتصل نسبة المشاركة الى 43 بالمئة. لم ينته الذهول عند نسبة الاقبال التي كادت تكون متدنية بل زاد بنتيجة افرزت كتلة متقدمة لحركة النهضة لا حول ولا قوة لها لتشكيل حكومة امام أرخبيل من الشتات الحزبي والمستقل في برلمان مطلوب منه تشكيل حكومة في اسرع الأوقات. هاتان الصدمتان كانتا محطة الاستشراف التي نظر منها مراقبون ليتوقعوا نسبة اقبال ضعيفة جدا على الدور الثاني وقد صدقت التوقعات بالنسبة للانتخابات في الخارج حيث لم تبلغ نسبة الاقبال 30 بالمئة ولكنها لم تصدق في الداخل حيث كان ذهول المشاركة التي تكاد تكون قياسية في مقارنة بانتخابات الدور الأول والانتخابات البرلمانية ببلوغها اكثر من 60 بالمئة وبان من خلالها الفوز العريض للمترشح المستقل قيس سعيّد. هل كانت الحالة مزاجية؟ هذا السؤال طرحه الكثيرون وهم يتابعون خارطة الاقبال على التصويت. ومن هو هذا الناخب المتمرد الذي عاقب الكل وهدم المعبد على رأس جميع الأحزاب واخرج المتحزبين من قصر قرطاج ووزّع المقاعد بين شتات حزبي ومستقلين في مشهد يصعب فيه تشكيل حكومة او تمرير أي مبادرة تشريعية او مصادقة على قانون؟ من هو هذا الناخب الذي يريد الإطاحة بالسيستام؟ هنا تكون الإجابة من قيس سعيد ذاته والذي يقول في إحدى تصريحاته «الشباب يحب يعيش كيفكم» وهي الجملة التي التقطها الباحث في علم الاجتماع فؤاد غربالي ليقول إنّ الشباب يبحث عن مكان له في «السيستام» بعد ان شعر بالتهميش وان المعركة الحقيقية هي بين السيستام والهامش. من جهته قالت الباحثة في علم الاجتماع فاتن مبارك إنّ الشعب أعاد رسم الطريق بعد ان ملّ من أصوات المتعالين وصوت النخبة التي زادت من حقرتهم والابتعاد عن واقعهم ومعيشهم. قالت أيضا إن «الذوات البشرية، كما يقول الان توران، تنحو لخلق نوع جديد من السلطة وذوات الشباب خلقت سلطتها خارج توقعات العارفين. فاتن مبارك (باحثة في علم الاجتماع) ظهور نوع من السلطة الجديدة قالت فاتن مبارك أستاذة علم الاجتماع بجامعة قفصة إنه في الانتخابات التشريعية مثلها مثل الانتخابات الرئاسية كانت هناك إعادة إنتاج لمنظومة سابقة وماكينة عمل مهترئة وبالتالي فإن الأحزاب في الانتخابات التشريعية عولت على خزانها الانتخابي مثل حركة النهضة (ولو نلاحظ سنجد ان هذا الخزان كان وفيا للحركة) لكي ينقذها في الانتخابات الرئاسية ولكنه استفاد وأفاد الحركة من حالة تشتت اليسار والتقدميين. في الانتخابات الرئاسية في دورها الأول والثاني كانت ثورية بمفهوم العقاب. والشباب لعب دوره التاريخي باعتماد ماكينة قنوات التواصل الاجتماعي ليساهم في ظهور نوع من السلطة الجديدة التي تعبر عن ذواتهم والتي اختزلوها في شخص القائد الذي هو ضد السيستام مثلهم، قريب من معيشهم اليومي، رجل قانون فاهم صلوحياته الدستورية وأكثر من ذلك هو من غير مشروع وفي ذلك رأى الشباب على الأقل انه لا يزيف العقول ولا يبيع الوهم مثل ما فعل سابقوه. مليونان وسبعمائة الف تونسي انتخب قيس سعيد نسبة كبيرة منهم كانوا شبابا وقد قالوا كلمتهم وهم يعبرون عن تلك الذات البشرية التونسية التي تحلم بالعدالة الاقتصادية ومحاسبة الفاسدين والخارجين عن القانون.