تُدرّس مادة الفلسفة في تونس بطريقة تحتاج إلى مراجعة أكيدة، فهي أقرب إلى تاريخ الفلسفة منها إلى الفلسفة.. ولعل التركيز في ماضي الفلسفة أو الموروث الفلسفي العالمي قد حرم أجيالا متعاقبة من التونسيين والتونسيات من الاطلاع على الفلسفة المعاصرة وما وصلته من تقدم.. صحيح أنه من المهم بمكان أن ندرس تطور الفكر الإنساني عبر العصور. لكن، أعتقد أنه من المهم جدا كذلك أن يطلع أبناء تونس وبناتها على ما وصلته الفلسفة أو الفكر الإنساني من تقدم اليوم أيضا. بل إن الإيغال في الماضوية بشكل عام قد حرم نخبنا السياسية على نحو خاص من امتلاك بعض من المعارف والمهارات والخبرات اللازمة لفهم العالم المعاصر ولتحقيق ذات التقدم الذي تعيشه اليوم بعض الشعوب الأخرى.. في واقع الأمر، إن تقدم الغرب لا يقتصر على الجوانب الإنتاجية أو السياسية فحسب. بل هو تقدم فلسفي أيضا، حيث يلعب بعض الفلاسفة المعاصرين دورا أساسيا في تحقيق بعض الدول الغربية لمعدلات تنموية مرتفعة جدا. ومن أبرز الفلاسفة الذين يمكن ذكرهم في هذا السياق الفيلسوفة الأمريكية مارتا ناسبوم والفيلسوف الهندي أمارتيا سن، المتحصل على جائزة نوبل للاقتصاد والأستاذ المحاضر في الجامعات البريطانية والأمريكية. يقترح جزء من هذا التيار الفلسفي المعاصر فكرا فلسفيا يسمى ب "مقاربة الاستطاعات" أو "مقاربة القدرات". وقد اعتمدته بعض الحكومات عبر العالم، مثل الحكومة الأسترالية والحكومة الاسكتلندية، في صياغة برامجها الحكومية والتنموية، وبخاصة تحديد أهدافها الإستراتيجية الكبرى ونوعية الخدمات التي ينبغي توفيرها للمواطنين. لا بل إن هذه المقاربة قد وّجهت وأثّرت في الفكر السياسي والاقتصادي والحقوقي الغربي بشكل غير مسبوق، حيث تم في أكثر من دولة تصميم سياسات رسمية وتنفيذها وتقويمها بالاعتماد على ما تشير إليه هذه الفلسفة. تهدف هذه المقاربة بالأساس إلى تعزيز العدالة الاجتماعية، وذلك من خلال توجيه الجهود الحكومية نحو تنمية ما يستطيع الإنسان أن يفعله أو أن يكون عليه بالفعل من خلال ما يسمّيه أمارتيا سن بالمهام الوظيفية (Functionings) والقدرات / الاستطاعات (Capabilities). وتشير المهام الوظيفية إلى أوضاع الفرد أو المجتمع، أي ما يمكن للفرد أو المجتمع فعله وما هو عليه، مثل اتقان القراءة والكتابة والصحة والتنقل والتحكم في البيئة والتفكير العملي، إلخ. أما الاستطاعات أو القدرات فتمثل باقة من الحريات أو الفرص التي ينبغي أن تتوفر حتى يتمكن الفرد أو المجتمع من تحقيق المهام الوظيفية المشار إليها آنفا. وترى الفيلسوفة الأمريكية مارتا ناسبوم (2011) أن هذه المقاربة الفلسفية تمثّل "نظرية مضادة ضرورية" للرد على المقاربات القائمة على حجم الناتج المحلي الإجمالي أو الموارد أو حتى المقاربات القائمة على حقوق الإنسان. فقياس ثروة الدول من خلال قياس حجم الناتج المحلي الإجمالي قد يخفي خلفه مشاكل كثيرة تخص توزيع الثروة وغياب العدالة بين الفئات الاجتماعية والجهات. وبالفعل كان لهذه الأفكار تأثير بالغ في عمل عدد كبير من المنظمات الدولية مثل برنامج الأممالمتحدة الإنمائي. كما تم تطبيقها في دول كثيرة وفي مجالات مختلفة مثل التعليم (أستراليا على سبيل المثال) والتنمية الاقتصادية، ورعاية الأطفال، وصياغة السياسات الحكومية. على أية حال، إن فهم العصر الذي نعيش فيه والتمكن من تجاوز التحديات التي تولدت عنه لا يمكن أن يتحقق من خلال الاعتماد على أدوات فكرية تجاوزها التاريخ. أعتقد إننا مطالبون أكثر من أي وقت مضى بأن نسعى بشكل جاد إلى بناء فكر بديل في تونس يمكن النخب من مواكبة العصر والقيام بدورها التنموي المطلوب منها لتحقيق أعلى درجات التقدم والازدهار.