الوضع الصحي للفنان ''الهادي بن عمر'' محل متابعة من القنصلية العامة لتونس بمرسليا    النظر في الإجراءات العاجلة والفورية لتأمين جسر بنزرت محور جلسة بوزارة النقل    ارتفاع حصيلة شهداء قطاع غزة إلى أكثر من 34 ألفا    النادي البنزرتي وقوافل قفصة يتأهلان إلى الدور الثمن النهائي لكاس تونس    حالة الطقس خلال نهاية الأسبوع    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    تونس - ايطاليا: دعم بقيمة 50 مليون اورو للميزانة العامة للدولة    حامة الجريد: سرقة قطع أثرية من موقع يرجع إلى الفترة الرومانية    طبرقة: توافد 200 شخص للترويج للوجهة التونسية    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    عاجل/ انتخاب عماد الدربالي رئيسا لمجلس الجهات والأقاليم    عاجل/ كشف هوية الرجل الذي هدّد بتفجير القنصلية الايرانية في باريس    انتخاب عماد الدربالي رئيسا للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    الترجي الرياضي: يجب التصدي للمندسين والمخربين في مواجهة صن داونز    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 5 آخرين في حادث مرور    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    مضاعفا سيولته مرتين: البنك العربي لتونس يطور ناتجه البنكي الى 357 مليون دينار    عاجل/ مفتّش عنه يختطف طفلة من أمام روضة بهذه الجهة    كأس تونس لكرة السلة: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ربع النهائي    انزلاق حافلة سياحية في برج السدرية: التفاصيل    القصرين: تلميذ يطعن زميليْه في حافلة للنقل المدرسي    وزارة التربية تقرر إرجاع المبالغ المقتطعة من أجور أساتذة على خلفية هذا الاحتجاج ّ    نقابة الثانوي: وزيرة التربية تعهدت بإنتداب الأساتذة النواب.    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    عاجل: زلزال يضرب تركيا    تفاصيل القبض على 3 إرهابيين خطيرين بجبال القصرين    مستجدات الوضع الصحي للأستاذ الذي تعرض للطعن على يد تلميذه..    وزارة الفلاحة: رغم تسجيل عجز مائي.. وضعية السدود أفضل من العام الفارط    عاجل/ بعد تأكيد اسرائيل استهدافها أصفهان: هكذا ردت لايران..    توزر: ضبط مروج مخدرات من ذوي السوابق العدلية    كميّات الأمطار المسجلة بعدد من مناطق البلاد    عاجل/ وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما..    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    بطولة برشلونة للتنس: اليوناني تسيتسيباس يتأهل للدور ربع النهائي    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    قيس سعيد يُشرف على افتتاح الدورة 38 لمعرض الكتاب    الاحتلال يعتقل الأكاديمية نادرة شلهوب من القدس    المصور الفلسطيني معتز عزايزة يتصدر لائحة أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم لسنة 2024    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الجمعة 19 افريل 2024    المنستير: ضبط شخص عمد إلى زراعة '' الماريخوانا '' للاتجار فيها    القيروان: هذا ما جاء في إعترافات التلميذ الذي حاول طعن أستاذه    تجهيز كلية العلوم بهذه المعدات بدعم من البنك الألماني للتنمية    طيران الإمارات تعلق إنجاز إجراءات السفر للرحلات عبر دبي..    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    جوهر لعذار يؤكدّ : النادي الصفاقسي يستأنف قرار الرابطة بخصوص الويكلو    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    محمود قصيعة لإدارة مباراة الكأس بين النادي الصفاقسي ومستقبل المرسى    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    "سينما تدور": اطلاق أول تجربة للسينما المتجولة في تونس    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكلي في فلسفة أبي يعرب المرزوقي ... : بقلم محمد شيدوقة
نشر في الحوار نت يوم 10 - 05 - 2010


الكلي في فلسفة أبي يعرب المرزوقي
تحرير الإمكان من أجل استئناف التمكين
محمد شيدوقة

24/04/2010
توطئة:
إن مفكّرا من منزلة أبي يعرب المرزوقي، له انجازات عديدة تكشف عن أهميته، وتشير بإلحاح إلى ضرورة دراسة مشروعه الفكري الضخم، ومن هذه الانجازات نجد مثلا: منهجه في التقاط مفهوم الكلي الذي صاغته الفلسفة اليونانيّة مع وبعد سقراط، والذي مثل تحولا جذريّا في نشاط العقل ومعرفته بالأشياء وبالعالم، كما نجد تحليله لمفهوم الأفلاطونيّة المحدثة الذي تجاوز به المدى اليوناني الهلنستي نحو المدى العربي الوسيط والغربي الوسيط والحديث وخاصة منه الجرماني، لتصبح الأفلاطونيّة المحدثة أفلاطونيات محدثة، مما يعكس فهما بالغ العمق لبنية الفكر الفلسفي العام الثابتة، فهذا الفكر -كما يرى أبو يعرب المرزوقي- يتميّز بشيء من التعالي على التغيّر التاريخي بسبب تضمنه للوحدة الشكليّة في بنى العقل الإنساني المجرّدة، وبسبب العموميّة المجرّدة التي يتصف بها، وهذا ما يجعله بعيدا عن التغيرات. هذان المفهومان كان لهما أثرهما في تلقيه للفكر الفلسفي اليوناني وللفكر الفلسفي العربي.
ومن إنجازات هذا الفيلسوف ترجمته لأعمال جليلة من الفكر العالمي الفرنسي منه والألماني خاصة، إيمانا منه بأن الحيّ من كل حضارة لابد أن نكون على صلة به لأنه على صلة بنا في وجه من الوجوه. وعكست ترجمته قدرة اللغة العربيّة على التعبير عن أكثر المجالات تجريدا (الفلسفة). فلقد ذهب صاحبنا باللغة العربيّة إلى حقول ظنناها لفترة عاجزة عن طرق أبوابها فضلا عن ولوجها، فكم من مفكر (من أمثال محمّد عابد الجابري) جاهد من أجل التأكيد على أن لغة الصحراء - العربيّة- والرمال والطبيعة المحسوسة لا تصلح أداة للمسك بعالم الفكر المجرّد. وهناك أيضا محاولته الرائعة والمعارضة للسائد من أجل تأويل ابن تيمية وابن خلدون ومن قبلهما الغزالي، فقد أظهرت جهدا نسقيّا فريدا يستحقّ كل اهتمام، ففي كل ما كتب أسس فيلسوفنا لطريقة فريدة سلكها في علاقته بأرسطو وعموما اليونان، وبالإسلام عموما وخاصة القرآن، وبالفكر الفلسفي الغربي وخاصة المنسوب منه إلى الألمان، فجاء بفكر، الوجدان فيه والفرقان صنوان. وليس من نافلة القول التأكيد على منعطفه منذ العقد الأول من هذا القرن (القرن الحادي و العشرين) نحو تفسير القرآن، الذي منه استلهم رسالته الفكريّة، وأرجئ التعليق على هذا الجهد التفسيري إلى خاتمة هذا العمل.
هذه المحطات الكبرى من رحلة المرزوقي العلميّة والفكريّة، أعتبرها عناوين للمقبل من الدراسات التي نسعى إلى إنجازها ووجهتنا فيها نصوغها في سؤالين كبيرين.
1) فيم يفكّر أبو يعرب المرزوقي؟
2) كيف يفكّر أبو يعرب المرزوقي؟
ونخلص من هذه التوطئة إلى جوهر الدراسة فنضع بين يدي القارئ أهم المسائل التي نريد معالجتها.
- أمّا المقدمة فالحديث فيها سيكون حول لماذا الاهتمام بالكليّ من قبل أبي يعرب؟
- بعد ذلك نمهّد للدراسة بالتفاتة معجميّة نرصد فيها بعض معاني الكلي.
- ثمّ نشير إلى أهميّة هذه المسألة وأبعادها، بحسب ما ورد في عنوانيْ مقدمة كتاب "تجلّيات الفلسفة العربية"
- إثر ذلك نتوجّه إلى تحليل أبي يعرب المرزوقي للظرف التاريخي المحدد للأنساق الكلاميّة والفلسفيّة الأولى في الفكر العربي، بوصفها مناسبة يشرح فيها فيلسوفنا سبب تأخّر ظهور الفلسفة في المجال الحضاري العربي، والفلسفة بالذات لأنها الحقل المعرفي الناظر في مشكلة الكليّ.
- وفي خاتمة هذا العمل، نقفز من العنوان الأوّل إلى العنوان الثالث من الباب الأول للكتاب سالف الذكر، لنشرح رؤية أبي يعرب المرزوقي للظرف البنيوي المحدد للمنزلة الجديدة للكليّ أي أننا سنعمل -بإذن الله- على توضيح قراءة صاحبنا للإسلام عموما وللقرآن باعتبارهما المؤسسين للوضع الوجودي والمعرفي الاسمي للكلي، فهو يتحدث عن الإسلام (الدين)، باعتباره حنيفية محدثة، مثلت الإطار البنيوي للثورة على واقعيّة الكلي الطبيعيّة في الفلسفة، وواقعيّة الكلي الشريعيّة في الدين (المزيف طبعا). فالإسلام (النص)، هو المؤسّس الفعلي للاجتهاد النظري والعملي، بنفي واقعيّة الكلي الشريعيّ وتنسيبه، ونفي واقعيّة الكلي الطبيعي وتنسيبه: فالقرآن يعتبر الطبيعة والشريعة آيتين إلآهيتين، وأن المعرفة النظرية والمعرفة الشرعيّة ليستا إلا اجتهادا لفهمهما.
I. المقدمة: من أجل استئناف الإبداع:
يمكن اعتبار هذا العنوان جوابا على سؤال: لماذا الاهتمام بالكليّ عند أبي يعرب المرزوقي؟ وسنعتمد في تحريره على كتابين هما "آفاق النهضة العربية ومستقبل الإنسان في مهبّ العولمة" (دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت سنة 1999)، و"تحديات وفرص" (دار الفرقد دمشق سنة 2008)، هذا إلى جانب ما نستوحيه من كتاب "تجليات الفلسفة العربيّة"، (دار الفكر المعاصر بيروت، ودار الفكر دمشق سنة 2001)، وهو محور هذه الدراسة بجزئيها.
ومن الكتاب الأول نعتمد المقال الأول من الباب الأوّل، ومن الكتاب الثاني نعتمد الحوار السادس، وجملة ما جاء فيهما نلخصه بشيء من التصرف على النحو التالي: إن الفكر العربي المعاصر -الديني منه والفلسفي- يعيش أزمة تكاد تذهب بالبقيّة الباقية من حيويّة حضارته، بسبب اقتصار جهد المنظرين على فعل التوفيق بين الميّت من آثار الآخر: الأهليّ منه والأجنبي، والاكتفاء بالمحاكاة والتكرار والتّرديد، وهذا سائد في النظر سواده في العمل. إن أزمة هذا الفكر تتلخص في تبنّيه للوضعيّة النظريّة والعمليّة وهذا عين الانسداد في الأفق.
يرى أبو يعرب المرزوقي أنّ الملهيات النظريّة خاصّة حالت دون الأمّة وتفرّغها للمهام الجوهريّة للنهضة، والمقصود بالملهيات النظريّة: دخول النخبة المثقفة طرقا مسدودة في التفكير وهي تطلب النهضة. والطرق المسدودة معلمها الأساسي عند صاحبنا وضع شروط مغلوطة للنهضة من قبل هذه النخبة القيّمة على القيم في الأمّة، والتي في سلوكها التحديثي تعيّنت أزمة القيم. ويتخذ فيلسوفنا من أطروحة العودة إلى ابن رشد والمعتزلة التي نادى بها الكثير من زعماء النهضة العربيّة الحديثة (ومنهم محمد عبده) مثالا عن الطرق المسدودة التي دخلها الفكر العربي المعاصر.
إنّ اعتبار المعتزلة وابن رشد مصدرين جدّيين للفكر العربي المعاصر، والقول بإمكانيّة استلهام خاصيّة لحظتنا التاريخيّة منهما هو موطن النقد هنا، والمشكل كما يراه فيلسوفنا ليس في قيمة الفكر الوسيط الإسلامي الكلامي منه (المعتزلة) والفلسفي (ابن رشد)، ولكن في الوظيفة المطلوب منه القيام بها والمسندة لهما من مريدي النهضة، الذين يعتبرون الماضي الأهلي أساس حاضر الغرب وهذا يعني أن التحديث اليوم شرطه ما سلف.
وبكلّ سلاسة منطقيّة يفنّد أبو يعرب المرزوقي هذا الزعم ويبطل مثل هذه الدعوى: فهو في البداية لا يسلّم بأن الحداثة الغربيّة قامت على تبنّي التراث العربي (وسنعود إلى بيان الدليل في عمل لاحق إن شاء الله)، وإن سلمنا بهذا الزعم فهل ما صلح للغرب في العصور الوسطى، هو صالح لنا اليوم؟ !
ثمّ إنّ إشكالية ابن رشد التي عالجها في "فصل المقال" والتي هام بها المتوهمون ليست بالأهميّة التي يظنونها: فلا الشريعة نحتكم إليها في جل واقعنا ولا تفكيرا فلسفيّا عميقا نخطط على ضوئه لحياتنا، فماذا يعني التوفيق بين غائبين. إن مثل هذا التعامل مع الحاضر (بأداة وسيطة)، جعلنا نحيي قضايا الجدود وحروبهم ونهمل قضايا عصرنا الجوهريّة، فأصبحنا نحيا مشاكل لا نفكّر فيها ونفكّر في مشاكل لا نحياها. ومع التقدم في التاريخ، وخلال وجود ما يسمّى بدولة الاستقلال أو الدولة الوطنيّة، نجد هذه النخبة قد استقطبتها الأطراف السياسيّة المتصارعة وأصبحت القيم شعارات توظف في هذا النزاع ولم تعد مطلوبة لذاتها واقتصر فعل العقل على تبنّي الجاهز من إنتاج الغير (أهليا كان أو أجنبيا).
إن الصراع السياسي استنزف طاقات المجتمع العربي الحديث، وضاق أمام النخبة المثقّفة الأفق، وانحصر التاريخ في الحاصل الغربي أو الإسلامي الوسيط، فاختزل الفعل الحضاري في المحاكاة وامتنع تجريب ما سواهما من الممكن الذي هو غيرهما ولأن الغرب كما تصوّره المتواكلون يتنافى مع الحاصل الأهلي فقد دخلت النخبة الفكريّة حربا أهليّة ذهبت -أو كادت- بما تبقى من حيويّة هذه الأمّة.
ألغيت إذن جهة الإمكان وسيطرت الوضعيّة العمليّة والنظريّة على العقل العملي والنظري أي إن المعطى الطبيعي لم يعد هو الملهم للعقل النظري في الرياضيات والمنطق فقد أصبحت العلوم النظريّة، ومنها هذين العلمين جثثا ميّتة. كما لم يعد المعطى الشريعي والعمراني هما الملهمان للعقل العملي في السياسة والتاريخ (ونفس حالة العلوم الأولى يمكن سحبها على العلوم العمليّة ومنها هذين العلمين).
في هذا المستوى من المعالجة تتوضّح معالم المقاربة عند أبي يعرب المرزوقي لينتقل بعدها إلى البديل، أي إلى العلاج بعد أن دقّ التشخيص. إنّ الإبداع عند صاحبنا لا يحصل بمجرّد الاختيار بين الحاصل من إنتاج الغير، بل لابدّ من توسيع جهة الإمكان والإيمان بأنّه في الإمكان تجاوز ما كان. وأصل هذا التجاوز الإيمان بأن الكلي بما هو متعال لا يمكن استنفاذه في المتعيّن من الفعل الحضاري، وعنوان هذا التجاوز، أن يفتح الناشطون عندنا، كل حسب مجاله، فتحا يصبح بموجبه محددا للقبلة فيه، عندها يصح وصفه بالمبدع. والفتح يكون:
1- في النظر:
اعتبار النظريات التي توضع في مجال علوم الطبيعة، محاولات عقليّة إدراكيّة، تتغيّر صياغتها الرياضيّة والمنطقيّة كلما تغيرت ظروف ومعطيات اللقاء مع الطبيعة، وهذا التغيّر يحصل بفعل تطوّر الجهاز التقني والجهاز التصوري.
2- في العمل:
اعتبار السياسة أو النظريات السياسيّة محاولات عقليّة تحصل عند اللقاء بالشريعة.
إن الفتح أو الإبداع من شروطه:
1- في النظر: الإبقاء على المسافة الفاصلة بين لاتناهي الوجود الطبيعي وتناهي علمنا به.
2- في العمل: الإبقاء على المسافة الفاصلة بين لاتناهي الوجود الشريعي، وتناهي علمنا وعملنا به.
إن أبا يعرب المرزوقي يدعو إلى تجنّب الوهم وخلاصته: ظن الطبيعة والشريعة أمرين متناهيين قابلين للعلم النهائي، فنحن لا نعلم من الوجود إلا ما نبدعه للتعبير عن تجربتنا معه، وهنا نأتي إلى خاتمة المطاف وبيت القصيد.
فليس الكلي إلا أداة لتناول التجربة الخاصة مع السيلان الوجودي الطبيعي منه (كلي نظري)، والعمراني (كليّ عملي). فالكليّ (العقل) هو أثر من آثار اللقاء الرمزي مع الطبيعة، واللقاء المدني أو السياسي مع الشريعة. والمفترض فيه، أن يكون نتيجة لجهد علمي تجريبي ذاتي تنشئه الذات لتختبر تجربتها مع التاريخ ومع الطبيعة. لكن المنظّرين عندنا جلّهم أساؤوا التصرف مع هذا الكليّ (العقل)، عندما أرادوا تعميم ماهو جزئي من التعبيرات، فأصبحت الآثار النظريّة والعمليّة للآخر نماذج نكتفي بمحاكاتها وكأنها حلول نهائيّة. إنّ المعادلة: السلف = تقدم / الغرب=تقدم تعوق الحركة. فلكل تجربة عقلها (كلّيها) وسوء تصرف منظرينا يختزله المرزوقي في ظنّهم العقل الخاص هو العقل الكليّ فكان النوم على وهم امتلاك الحقيقة ليصبح الوجود مبتورا ومنحصرا في عادة إنسان وثقافة ما، في عهد من عهودها، كما قال أبو يعرب في خاتمة كتابه "نقد الميتافيزيقيا".
ليست الكليات إلا ذرائع تصوريّة، والإبداع هو حركة الفكر المستمرّة للملاءمة بين الكليات (الذرائع) وبين المعطيات (الوقائع) بمراجعة الأولى على ضوء الثانية ليحصل التطور وليس العكس فيكون العقم. بمثل هذه المراجعة نتحرر من التصوّر الخاطئ: تصوّر الحاصل من الماضي الأهلي والحاصل الغربي نموذجين وحيدين للوجود (النظري و العملي) الحضاري. إن عدم تنزيل الكلي منزلته التي يستحق، هو الذي حمل المرزوقي على بذل مثل هذا الجهد في كتابه "تجليات الفلسفة العربيّة"، فالكتاب أصله إعادة النظر في منزلة الكلي.
إنّ الكليّ هو المؤسسة الأهم للانتقال الثقافي، وهو يمثّل في أطروحة أبي يعرب المرزوقي -المبشّرة ببنية معرفيّة جديدة- مجالا خصبا للتأسيس المستقل لإمكان حضاري جديد، وهذا سبب كاف للإسراع بالاهتمام بفكر هذا الفيلسوف وقراءة مشروعه. فمن منظور معرفي يعتبر الكليّ الموضع الممتاز لتراكم الرأسمال الرمزي إنه المؤسسة الأهم لإستراتيجيّة استئناف الشهود الحضاري للأمة.
II- مفهوم الكلي:
في بداية هذا العمل، نقوم بالتفاتة معجمية سريعة وميسرة، تمكننا - فيما أظن - من مصاحبة هذا الفيلسوف خلال معالجته المتشعبة لهذه المسألة. فالكلي عنده، من المعلوم من المنطق والفلسفة بالضرورة، لهذا لم يعمل صاحبنا على شرحه في كتابه "تجليات الفلسفة العربية"، ولكني أرى مثل هذه الالتفاتة ضرورية إذا أردنا مشاركته الأرض التي يقف عليها. وأغتنم هذه الفرصة لأنبّه القارئ إلى ميزة منهجية عند فيلسوفنا: فهو عندما يعالج مسألة ما، فإنه يمسك بها في إحدى مفاصلها التي تبدو واضحة وبسيطة، ثم يظل يقلّب الأمر على كل وجوهه بصبر وأناة وطول نفس، ليخرج بعد ذلك شيئا جديدا لم نكن نظنه بتلك الخطورة والأهمية، وهذا ما سنضرب له مثالا خلال هذا العمل.
فمما ورد في "موسوعة مصطلحات فخر الدين الرازي" لسميح دغيم:
الكلي: إذا ذكر اللفظ وفهم معناه، وكان هذا المعنى غير مانع من وقوع الشركة فيه، فهو كلي، وإذا كان اللفظ هو نفس تصور معناه، ومانعا للشركة فيه، فهو جزئي. إذن، إذا لم يكن المفهوم من المعنى مشتركا فيه، فهو جزئي، لأنه ببديهة يمنع أن يكون هذا الشخص هو نفس غيره، والعكس من هذا كلي.
فالجزئي، هو ما يمتنع تصور نفس معناه على أكثر من واحد، كقولنا محمد الحبيب المرزوقي مع تعيين جنسية الشخص، وتاريخ ميلاده، فما يفهم يستحيل وقوع الشركة فيه، ووصفنا إياه بأنه فيلسوف، فهو معنى يمكن إلحاقه بغيره (وسنؤجل الحديث عن الكلي: هل هو صفة أم ذات إلى حين).
والكلي في المنطق، يكون جنسا، إذا أطلق على كثيرين مختلفين في الماهية، مثل قولنا كائن، فهو يشمل الحيوان والنبات والإنسان، وهي تختلف في الماهية. ويكون نوعا، إذا أطلق على كثيرين مختلفين في العدد، مثل حيوان، فهو يجمع الحيوان والإنسان، وهما يختلفان في النوع. والكلي يختلف في معناه عن الكل،فالكل هو الموجود في الأعيان، وهو يُعدّ بأجزائه، وكل جزء داخل في قوامه، أما الكلي فلا يُعدّ بأجزائه، فالكل يتقوم بأجزائه، أما الكلي فهو المقوِّم لجزئياته، ويكون جزءا من قوامها.
إن الكل تركيب للأجزاء، فهو صورة لها، فهو المحمول على أشياء كثيرة، فتصير واحدة بالعدد، أما الكلي فهو ما يحمل على كثيرين، ليصبحوا واحدا بالنوع، فهو المشترك بين كثيرين.
ومما ورد في "موسوعة مصطلحات ابن رشد" لجيرار جيهامي: إن الكلي يتأسس على المشترك بين الأشياء، وليس على تركيبها، فالكلي في هذه الناحية، بحث في الشبه، فالأجزاء فيه تتوحد على نحو شبيه، وهذا الشبه ليس شرطا في توحيد أجزاء الكل. فالكلي هو إعطاء معنى واحدا لأشياء كثيرة. بهذا المعنى، يصبح الكلي حُكما يؤسسه العقل من خلال تكرار الأشخاص على الحس، فبعد التكرار يرصد العقل وجه الشبه بين هذه الأشياء، فيجتمع منه (التكرار) فيه (العقل) الأمر الكلي (المعنى). فالكلي هو علم بالجزئيات على نحو كلي، يفعله الذهن فيها عندما يستخرج الطبيعة الواحدة التي انقسمت في هذه الجزئيات، فعندما يدرك العقل الطبيعة المتشابهة بين الجزئيات، يحصل عنده العلم بالكلي. إن العقل، عندما يجرد هذه الطبيعة المتشابهة بين الجزئيات من الجزئيات ويلاحظ اشتراكها فيها، حكم عليها (الطبيعة) بأنها كلي. ومما هو متعارف عليه بين المناطقة والفلاسفة (منذ أرسطو)، أن هذه الطبيعة المشتركة، ليست بالضرورة جوهر الشيء بل هي جزء منه (الشيء)، وقد تكون عرضية فيه، ولكنها تصبح كلية بذاتها متى وُجدت هي نفسها في كثيرين، فهي ( الطبيعة المشتركة ) جزئية بالعرض، كلية بالذات، فالكلي منها يستمد طابعه من فعل العقل، الذي يتمثل في الانتقاء والعزل ثم الجمع. فالعقل ينتقي من كلّ كلٍّ جزءا منه، ويعزله عن بقية أجزاء ذلك الكل، ليجمعه مع أجزاء أخرى تشبهه (من خلال إضفاء المعنى المشترك بينها)، ضمن تصنيف وجودي جديد.
إن عملية التجريد هذه وإعادة التصنيف، هي التي تسمح لنا بإضفاء الوحدة على ما ننتقيه، ونطلق عليه اسم أو صفة الكلي أو الكلية، لأن الأصل في كل جزء من هذه الأجزاء الموحدة من جديد أنه جزء من كل متعين آخر.
وباختصار، فإن الوحدة التي نضفيها على ما وقع انتقاؤه، تمكننا من أن نطلق عليه صفة الكلي. فالكلي هنا إذن، مصدره الذات، (كلي طبيعي) وليس الموضوع المدرك، ومثاله: صفة الفيلسوف، فهي جزء (صفة) متوفر عند كثيرين، وهي في نفس الوقت جزء من كل هو الإنسان، وهي ليست من مقوماته المشتركة بين كل الناس، بل بين مجموعة محددة، فهي عرض متوفر عند البعض، فإذا رصدنا من كان - من الناس - متوفرا على هذا العَرَض وجمعناهم على هذا الأساس، أمكن الاعتماد عليه ( هذا العرض ) لصنع وحدة تصنيفية جديدة لهذا الجمع، وتطلق عليهم صفة أو اسم الفلاسفة، فيصبح الفيلسوف كلي جوهري في التصنيف الجديد.
فالكلي معقول تابع للموجود متأخر عنه وهو أمر يحصله الذهن من جزئيات باعتباره المشترك بينهما فيصيّره معنى واحدا يجمعهما.
هذا المعنى، ينقلنا إلى الحديث عن الكلي في امتداداته الفلسفية والدينية، فنخرج به من مجرد التعريف المعجمي القريب، إلى بعض أهم معانيه التي اكتسبها بفعل التوظيف الفلسفي والديني، حيث أصبحت مسألة الكلي وعلاقته بالجزئي مجال لبلورة رؤى مختلفة عن العالم، وعن علاقة الطبيعة (الجزئي) بما بعد الطبيعة (الكلي). ونخوض هذه المسألة بإيجاز حتى لا نخرج عن مطلوب هذا العمل.
في قراءة عاجلة لكتاب "تجليات الفلسفة العربية" لصاحبه أبو يعرب المرزوقي نستنتج أن مسألة الكلي، أصبحت مجالا خصبا، يعلن الفكر الديني والفكر الفلسفي من خلاله عن رؤيتهما في المسك بالوجود، وقد اختار فيلسوفنا هذه الإشكالية، ليبرز من خلالها ميزة الفكر العربي الوسيط، الفلسفي منه والديني، والتي - حسب صاحبنا - لا يمكن إرجاعها إلى يونان بحال من الأحوال (وهذه مكرمة تحسب لهذا الرجل وأمثاله): فالسائد في الدراسات الفلسفية المعاصرة - أهلية كانت أم أجنبية - أن الفلسفة العربية الوسيطة فرع لا يكاد يختلف في شيء عن الأصل (اليوناني).
إن الكلي - باعتباره رؤية للعالم - هو ما يجعل المشتت في الوجود موحدا، فهو منطق للربط والتنظيم، والربط مقوم فعل التفلسف وهو جوهر فعل التدين. فالفلسفة، عقل، والعقل من معانيه الربط، والدين عقد والعقد من معانيه الربط. إن العقل، إذا رصد المشترك بين العناصر المشتتة والمتكررة على حواسنا، استطاع إحداث هذا الربط، وبالتالي يصبح الوجود معقولا (مفهوما)، هنا يتأسس الكلي. فإمكانية الكلية تعني أن يُوجِدَ الفهم (الفكر) وجوده، والأمر كما هو مشاع في الفلسفة الوجودية والظاهراتية، فإن الموجودات توجد مستقلة عن وعينا سواء فكرنا فيها او لم نتوجه إليها بفكرنا فهي توجد كما هي في استقلال عن خبرتنا (بالمعنى العلمي (المختبر) وبالمعنى الهيغلي (الخبرة الحياتية))، فإذا طلبنا معرفتها وفكرنا فيها تكشفت لنا طبيعتها (وهو ما يمكن اعتباره حقيقة مؤقتة)، وباختصار، فإن الكلي هو الوجود الذي أوجده تفكيرنا، وإرادة المسك به هي جوهر عملية تفسيره.إن مسألة الكلي كانت المجال الأمثل الذي احتضن الرؤية الفلسفية والرؤية الدينية للعالم، وحول هذا المستوى من الوجود - الوجود الفكري - الموسوم بالكلية نشأ جدل واسع في الفلسفة وفي الفكر الديني وبينهما.
إن المسك بالوجود، تعبير نختصر به الجهد الفلسفي، والجهد الفكري الديني المختلفان عن الجهد العلمي في تفسير الوجود، فالكلي في التوظيف الفلسفي والديني هو إرادة ردّ الكثرة من الظواهر إلى الوحدة، وتلك هي ملكة العقل وفعل الفهم، فالعقل يلاحظ تنوع الظواهر الكونية، فيصنفها أجناسا وأنواعا، وهذا من معاني الكلي، بعد ذلك يمتد التفكير الديني والفلسفي إلى غايتهما العليا، فترد هذه الظواهر إلى مبدإ واحد تُختصر فيه القوى والأسباب المحدثة لها: إنه الله في الفكر الديني والمحرك الذي لا يتحرك في الفكر الفلسفي (والمعنى ليس واحدا). فالأمر في بدايته إدراك للمحسوسات، بعد ذلك يصبح تصورات ومفاهيم، وهنا يُصنع الكلي (ونشدد على فعل الصنع فهو جوهر الإسمية عند أبي يعرب المرزوقي). ضمن هذا الصراع، صراع المسك بالوجود، تصبح الفلسفة بوعي منها أو دون وعي دينا، فهي تنشد اليقين، واليقين دين، كما يصبح التفكير الديني بوعي منه أو دون وعي فلسفة، فهو يبحث عن عقلنة أطروحاته، والعقلانية فلسفة، (وهذا كلام أنقله حرفيا عن أستاذي أبي يعرب المرزوقي فكثيرا ما ينبهني إلى هذه الطبيعة الكامنة في الفكرين الديني والفلسفي، والتي تكشف عن زيف ما يدعيه المتكلمون باسمهما).
وباختصار شديد يمكن القول إن الكلي لا يصبح ممكنا إلا إذا خضع الوجود إلى غِلِّ الماهية في المفهوم، والمثلية في الإدراك، والتماثل في الحكم، بمثل هذا، نمسح الوجود وننسّقه ونؤسس للعقل.
ما سلف ذكره، يمكن اعتباره تنقيحا للمناط، فالمراد منه التأكيد على أن مسألة الكلي كانت قضية مفجرة لأهم الأنساق الفلسفية قديما وحديثا، فمنزلة الكلي، مسألة استدعت واستوعبت جهد جهابذة الفكر، وهي السؤال الحضاري الأخطر (الأهم)، فعلى ضوئه تحددت حركة العلم وطبيعة فعل العقل، وهذا ما سنعمل على توضيحه الآن.
III- أهمية مسألة الكلي وأبعادها:
يستغلّ أبو يعرب المقدّمة ليتدرّج بقارئه نحو صلب الموضوع، فيذكّره بأهميّة مسألة الكلي و أبعادها و إطارها الحضاري الذي سيكون مسرح العمل، فهو منذ البداية، يعلن أنه لن يتخذ من المقارنة بين الفلسفة الغربية و الفلسفة العربية الإسلاميّة الوسيطتين منهجا لبيان مميزات المعالجة الأخيرة لهذه المسألة، رغم أهميّة هذه الخطوة عندي لأنها - حسب رأيي – ستكون قراءة نوعيّة للفلسفة الغربيّة، فهي صادرة عن خبير، وهو، و إن لم يخطو هذه الخطوة، فإنه عَمَد إلى مقارنة أتصوّرها أهم في بيان هذه المميزات، فكانت بين فكرين (الفلسفي و الديني) من نفس المجال، (العربي الإسلامي) قبالة الأصل الذي نشأت فيه هذه المسألة (الفلسفة اليونانيّة).
لقد اهتم المرزوقي بمعالجة هذين الفكرين لمسألة الكلي، في صلتهما بمرجعهما: اليوناني بالنسبة للفكر الفلسفي، و القرآني بالنسبة للفكر الديني، و في صلتهما ببعضهما، و هذا ما ضاعف صعوبات المعالجة، وعواصة الطرح، رغم إرادة التدرّج التي أكدنا عليها. و نقصد بالصعوبات، ناتج التشاجر بين الفلسفة و الدين، في مقاربتهما لمسألة الكلي، فهذا التشاجر، يضاعف الصعوبات أمام الفكر الديني والفكر الفلسفي، فبعد أن كان الفكر الديني يواجه صعوبات تأويل النص الديني وعلومه، فإنه سيواجه الآن - وبفعل اختيارات المرزوقي - صعوبات طبيعية وعلميّة، بحكم تواصله و صراعه مع الفلسفة، كذلك الشأن بالنسبة للفلسفة، فبعد أن كانت تواجه صعوبات تحليل و تقييم الطبيعة و علومها، فإنها ستواجه الآن - و بفعل اختيارات المرزوقي- صعوبات دينية و تأويليّة و تاريخيّة، بحكم تواصلها و صراعها مع الدين، و الأصل، أن الأمر كان كذلك منذ البداية، كما نبّه إلى ذلك فيلسوفنا في كتابه "إصلاح العقل العربي" في العنصر الثاني من الفصل الأول للقسم الأول، عندما تحدث عن الحضور الاعتراضي للفكر الديني في الأنساق الفلسفية، و عن الحضور الاعتراضي للفكر الفلسفي في الأنساق الدينية، فقد كان كل منهما بالنسبة للآخر القسيم والخصيم ( والقسيم أخي القارئ كمصطلح منطقي برع فيلسوفنا في اختياره عنوانا لطبيعة العلاقة بين الفكرين و لست في حاجة إلى الإشارة بقدرة أبي يعرب العجيبة في اختيار مصطلحاته فهو من القلّة المقدّرة في السّرد).
و مما ورد في مقدمة الكتاب، أن الكلي المنطقي الذي اخترعه أرسطو، مثل محور اهتمام التفكير العلمي في النظر و في العمل، فدوْره أساسي في إرادة تعقيل الطبيعة و إرادة تعقيل الشريعة، و المسألة، بدأت مع سقراط، عندما نبّه إلى وجود عالم آخر غير عالم المحسوسات: إنه عالم الأفكار. فالعالم المحسوس متغيّر و غير ثابت، و إدراكه لا يولّد معرفة حقيقيّة و يقينيّة، أما عالم الأفكار فهو عالم الكليات الثابتة، و اليقين في العلم بها. هذه الإشارة الحاسمة و العميقة من سقراط، تولّى شرحها تلميذه المباشر أفلاطون و من بعده أرسطو ( و منها تأسست فلسفتهما)، وتعمّق الجدال حولها بين أقطاب من فلسفة يونان، وهم السفسطائيون والموقف الأفلاطوني والموقف الأرسطي، فكل منهم أسند منزلة للكلي تختلف عن الآخر.
والسؤال عن منزلة الكلي (وهو عنوان كتاب المرزوقي في طبعته التونسيّة)، هو سؤال عن طبيعة الكلي من ناحية و علاقته بالجزئي، و عن الأصل في الوجود، هل هو للكلي أم للجزئي؟ ومن ناحية أخرى، هو سؤال عن استعمالاته المعرفيّة. وممّا يمكن اعتباره مقدمة لمنزلة الكلي نطرحه في الأسئلة التالية: فمن حيث طبيعة الكلي، فالصياغة تأتي كالتالي: هل الكلي ذات (شيء) أم صفة؟ ومن حيث المرتبة، هل الكلي- نظريا كان (الماهية) أو عمليّا (القيم) - في علاقة مع الأشياء أو هو مفارق لها؟ وهل الوجود الحقيقي و الأصلي للكلي أم للجزئي؟ هذا عن سؤال المنزلة، أمّا عن سؤال الاستعمالات المعرفية، فالإشارة عند فيلسوفنا واضحة، فهو يؤسس للوجود و للمعرفة، فأهميته من هذه الناحية، أنه ينوب الأشياء الجزئيّة في العبارة، فهو صورة ذهنيّة تمثل شيئا متضمّنا في ما صدقها، فالكلي في العبارة يسدّ مسدّ الشيء، كما تسدّ الإشارة مسدّ المشار إليه. بمثل هذا المعنى، أصبح للكلي دور كبير في إرادة تعقيل المعطى الطبيعي، و إرادة تعقيل المعطى الشريعي، فالبحث عن ماهية الأشياء و قيمتها أصبح المهماز للتفكير الفلسفي في تلك الفترة، والصراع بين الفلسفة السفسطائية (للكلي وجود محسوس خارج الذهن)، و بين المنزلة الأفلاطونية (للكلي وجود مثالي خارج الذهن)، توسطه موقف أرسطي جامع بين الاثنين (الكلي له وجود عام في الذهن وهو خاص إذا تعين). ضمن هذه الفاتحة للكتاب، يشير أبو يعرب المرزوقي إلى عواصة هذا الموقف و تأثيره في العلم، و خلاصتها كما فهمنا: إن العرضي عند أرسطو يمكن أن يكون جوهريا، فالمعلوم منطقيا، أن الجوهر هو ما يحصل به أو منه قوام الشيء، لكن أرسطو قال بجوهر ثان للأعراض، أي أننا يمكن أن نقتطع من موجودات مختلفة أجزاء منها عرضية فيها، ثم نجمع بين هذه الأجزاء المقتطعة على أساس صفة رابطة بينها، ونضفي عليها وحدة تُكسبها معقوليتها، و ما نضفيه على الكلي عند أرسطو، فيكون جنسا أو نوعا، وهذا معنى قول المرزوقي في الصفحة 15-16 من الكتاب "الأجناس و الأنواع ...جواهر و إن كانت جوهريتها تلك دون جوهرية الأعيان..."، هنا يظهر وجود جديد غير الوجود المحسوس، إنه عالم الكليات أو المعقول، وتظهر معه أعقد الإشكاليات المحركة للفكر الفلسفي و الفكر الديني: إنه عالم ثالث، يزعم مخترعه أنه قادر من خلاله على تحديد حقيقة الشيء، وهذا ما يرفضه الفكر الديني، فكان الجدال وكان الصراع و لا يزالان.
نصل الآن إلى الجدّة التي يطلبها أبو يعرب وينسبها إلى الفكر العربي بفرعيه الديني والفلسفي، و بوصولنا إلى هذه النقطة نستطيع أن نعيّن حيّز ثورة أبي يعرب الفكرية، و ذلك من خلال كتابه "تجليات الفلسفة العربية" و ما يتقاطع معه من بقيّة مؤلفاته في الاهتمام، والبداية مع مقدمة الكتاب.
في المقدمة، حدّد أبو يعرب أبعاد مسألة الكلي و أهميتها. والمطلب العام عنده ، والذي يشير إليه من قريب أحيانا ومن بعيد أحيانا أخرى، يتمثل في تحديد المدى الوجودي للمعرفة العقليّة، بإخراج الكليّ من الوضع الوجودي إلى الوضع الإجرائي و الأمر كالتالي: فلقد نبّه صاحبنا، إلى العلاقة بين الوضع الوجودي للكلي، وبين الوضع المعرفي للعقل، والمقصود بالوضع الوجودي، الاعتبارات المسندة إلى الكلي: هل هو مبدأ وجودي وبالتالي يصبح العقل مثالا معرفيا؟ أم هو صيرورة تتكوّن، فيصبح العقل مجرّد وسيلة؟ إنّ القول بواقعيّة الكلي يعني أنّ للأشياء ماهية و قيمة موجودة خارج الذهن في عالم المثل، أو هي مودعة في باطن العالم المحسوس، محايثة له، وهذا يعني أنّ الطبيعة لها حقيقة موجودة ويمكن إدراكها، فيوجد حسب الرؤية الواقعيّة داخل كلّ شيء صانع يصوّر المادة حسب مثال، فالطبيعة هنا تكفي لتفسير ذاتها ولا نحتاج إلى القول بوجود إله أو أي عامل خارجي، لتفسير ما يحدث فيها، وهذا يؤدي بنا إلى القول بالضرورة، أي بالعلاقة السببيّة و الحتميّة بين الظواهر. و إدراك الأسباب أو إدراك الضرورة، يعني الاعتراف بأن للشيء طبيعة ثابتة فيه، فالمعرفة بالطبيعة إذن ممكنة، متى سلمنا بالعلاقة الضرورية أو بالحتميّة، و هذا معنى الطبيعة تفسّر ذاتها.
إن الفلسفة اليونانيّة عندما قالت بالطبائع، فإنها بذلك تتصوّر الوجود على حسب المعقول، وما لم تألفه من الوجود قدّرت استحالته (حسب تعبير أبي يعرب في كتاب "نقد الميتافيزيقا"). فالمقدمة لخصت لنا النتيجة التي وصلت إليها الفلسفة اليونانيّة في أحد تتويجاتها (ونقصد بذلك الأفلاطونيّة المحدثة الهلنسيّة): فقد قالت بواقعيّة الكليّ، أي إن ماهية الأشياء وقيمتها، موجودة هناك خارج الذهن، و يمكن إدراكها، و إمكانيّة إدراك الكلي، تعني إمكان مطابقة الموجود للمعلوم، و نكون بذلك قد سلمنا بالوحدة المباشرة بين العلم و موضوعه، وهذا يعني إخضاع نظام الوجود إلى النظام العقلي المنطقي. إن المرزوقي - ومن خلال علمه بخصوصية الرؤية القرآنيّة للوجود، ومن خلال إطلاعه على أقرب الأعمال الفكريّة إليها مثل الغزالي... - رفض و بشدّة هذا الموقف، مبينا نتائجه الوخيمة (ودائما في المقدمة): فالقول بماهية موجودة خارج الذهن، يعني تكريس للانفعال في المعرفة بدلا من الفعل، فكما هو معلوم، فإن العقل في أعمق نشاطاته يسعى إلى تعقيل الطبيعة، وتعقيل المعطى الشريعي، فإذا سلّم بوجود ماهيّة ثابتة للطبيعة وخارجة عنه، فهذا يعني أنه سيكون منفعلا بها، أي أن العقل سيكتفي بدراسة الحاصل من العلم حول الشيء، ولا جهد له في هذه الدراسة إلاّ التعلم و الشرح، وهذا يكون في النشاط النظري للعقل كالرياضيات والمنطق، والنشاط العملي كالسياسة والتاريخ، وهذه الصفة (صفة التعلّم والشرح) هي الغالبة على الجهد الفكري الفلسفي في المجال العربي، (حسب الكثير من الدارسين)، والمرزوقي بخلاف المشاع (ففي العنوان الثاني للمقدمة)، أشار وبوضوح إلى خصوصيّة الطرح الفكري العربي الديني منه والفلسفي، وهذه أحد الأسباب التي جعلته يختار مسألة الكلي موضوعا لأطروحة الدكتوراه، فهي الموضوع الأهم الذي خالفت فيه السنّة الفكريّة العربيّة والإسلاميّة، السنة الفكريّة اليونانيّة، وهذه الخصوصيّة تتمثّل في القول بالعقل الوسيلة، لا العقل الغاية، أي القول بالاسميّة بدلا من الواقعيّة، وهذا منتهى المطاف مع ابن تيميّة وابن خلدون، وقبل ذلك ودونه محطات عديدة نرصد أهم ملامحها في هذا العمل و ما سيأتي بعده إن شاء الله.
إنّ التميز الذي رصده أبو يعرب المرزوقي، تمثل في تغيير السنّة الفكريّة العربيّة موضوع درسها، فهو (الموضوع) في الفلسفة اليونانيّة طبائع الأشياء، أما في الفكر العربي - الديني منه والفلسفي - فهو مجريات الأمور (بلغة أبي يعرب المرزوقي في "نقد الميتافيزيقا"). إنّ هذا التصور الحنيفي الجديد لموضوع المعرفة، وضع حدّا للمدى الوجودي للعقل، أي للمجالات الممكن أن يخوض فيها. ويستنبط فيلسوفنا هذه الميزة من خلال الجهد المبذول من طرف الغزالي مثلا و غيره، (و الذي يؤكد على الفارق بين نظام الضرورة العقليّة (الرياضيات و المنطق) و بين نظام الوجود)، فما يصيغه العقل من قوانين، ليس بالضرورة دالا تماما على حقيقة مسار الطبيعة، و إلا جمد العلم، والمسألة مستفيضة في مناقشة قضيّة السببيّة: فالمعرفة نظام إجرائي يؤسسه العقل بعد النظر في الطبيعة، ومهما بلغ من الدقّة فلا يمكن أن نخضع له نظام الطبيعة، فهذا تساو بين الإدراك وموضوع الإدراك وفي ذلك تجميد للعلم، وللفعل الحضاري ككل، ولهذا التصور أصوله عند صاحبنا نجمل بعضا منها كالتالي: يرفض أبو يعرب المرزوقي التقدم الحضاري الذي حُصر في صورة وحيدة، وذلك من منطلق التمييز بين المثالي وتعيناته، فالتقليد يحصر المثال المتعالي في الحاصل الأهلي أو الأجنبي، ومثل هذا التصور يؤسس للوثنية الحضارية وللشرك، والمقصود بالشرك (كما جاء في كتابه "أزمة الحضارة العربية المترددة") اعتبار إحدى تعينات المثال مستوفيا لمطلق المثال، فلا بد إذا لتجنب هذا الشرك من مسافة فاصلة بين ممكن المثال اللامتناهي وحاصل الواقع المتناهي، هذا لمن أراد الحياة.
إن العالم -كما قال المرزوقي مستندا إلى بعض السلف مثل الغزالي- متقدم على العقل في الوجود، وليس للعقل إلا أن يضيف عليه النظام، فهو ليس علّة وجود الأشياء و إنما هو سبيل انتظام حركتها، من أجل المعرفة بها المعرفة النسبيّة. إن أبا يعرب يرصد بدايات التحول في الفكر العربي - الديني منه والفلسفي - فيتحدث بداية عن تغيّر في موضوع المعرفة، فهو ليس طبيعة الأشياء كما قلنا، ولكن مجرى الأمور، أي الطبيعة كما نلتقي بها وكما هي صيرورتها في الحس، فالنظام المعرفي إذن ليس نظام طبيعي و إنما إجرائي، بعد ذلك وفي الهامش رقم (1) من الصفحة 32 خاصّة من كتاب "تجليات الفلسفة العربيّة"، يشير المرزوقي إلى أحد أهمّ أسباب هذا التحول، ويتمثل في النقلة التي حدثت في شروط قيام الكلي: فالمعرفة بهذا الكلي لم تعد معرفة بشروطه الموضوعية وإنما بشروطه الذاتيّة، وهذا ما عبّر عنه المرزوقي في موضع آخر بالإرادة (في كتاب "إصلاح العقل")، وهذه مواصلة لنفس الفكرة التي سبق شرحها مع إضافة: فالمرزوقي في حديثه عن أهميّة مسألة الكليّ، أراد أن يحدّد الشيء الذي حدث في الفكر العربي- الديني منه والفلسفي- والذي جعله يتميز عن الفكر الفلسفي اليوناني، إنه وباختصار تغيير الشرط الوجودي للمعرفة، Le changement de la condition anthologique du savoir و المقصود بذلك، أن الفكر الديني الإسلامي خاصة (وفي العصر الوسيط طبعا) رفض القول بالضرورة أي بالعلاقة الضرورية بين الأسباب في الطبيعة، لأن القول بالضرورة يجعل الطبيعة مصدرا لتفسير ذاتها، وهذا هو أصل القول بالطبائع، أي أن الطبيعة لها حقيقة في ذاتها و يمكن معرفتها، وهذا من معاني واقعيّة الكلي.
إن القول بالحتميّة كشرط في المعرفة، يتناقض مع خصوصيّة الرؤية القرآنيّة التي رصدها المرزوقي في قوله تعالى «و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء»، بمثل هذا التميّز نكون قد أخرجنا الكلي (أي الماهية و القيم) من التصوّر الوجودي إلى التصور الإجرائي، وإخراجه هذا - حسب ما أفهم من أطروحات فيلسوفنا- الجوهر فيه، تطوير المعرفة النظريّة و المعرفة العمليّة، فلم يعد موضوع النظر حقيقة الطبيعة و إنما موضوعه المعطى الطبيعي كما صيغ رياضيّا، ولم يعد موضوع العمل حقيقة الشريعة و إنما موضوعه المعطى الشريعي كما صيغ سياسيّا. إنّنا بمثل هذا، نقرّ بأن الكلي أو الفكر لم يعد ممثلا للحقيقة ولم تعد هناك وحدة مباشرة بين العلم و موضوعه، وأن العقل لم يعد مجرّد ضامن علمي للميتافيزيقيّ، لتحوله إلى مجرّد مردد للجاهز من المعرفة، أي إنه يكتفي ببناء علم وجودي مدعّم للعقيدة (ميتافيزيقا). هنا يتعيّن حيّز الثورة المنهجيّة لأبي يعرب المرزوقي، فهو يقرأ موضوعه –الفكر العربي الديني و الفلسفي- انطلاقا من اهتمامات هذا الفكر ذاته، والخاصّة به، وليس باعتباره مضافا إلى غيره، أي لا يقرؤه على ضوء اهتمامات خارجة عنه كما يفعل الكثير، فيتسطح الاهتمام و يقتصر على البحث في الاستعارة، ويسود منطق التأثير والتأثر الذي لا يصل بالقارئ إلى الأسباب العميقة لحركة الفكر. و مثل هذا النوع من القراءة سمح للمرزوقي بدراسة النظام الذاتي للثقافة العربية الإسلاميّة، والذي تجده يرسم أهم ملامحه في بقيّة كتابه، وأولى المعالم نجدها في ما عنونه ب"ظرفيّات تشكّل النظر..." و "بنية الأفلاطونيّة المحدثة العربيّة" خاصة و "بنية الحنيفية المحدثة العربية" و تلك تمام العناوين الخمسة.
IV- تنظيم الوجود المعرفي للأمة ( إعادة النظر في العلم الناظر للكلي):
منذ الفصل الأوّل من الباب الأول من الكتاب:"تجليات الفلسفة العربية" تلوح لنا أولى معالم ثورة أبي يعرب الفلسفية، و المُعيّن لحيّز ثورة هذا الفيلسوف، و من مجليات نباهته تفسيره لتأخر ظهور الفلسفة في الحضارة العربية الإسلامية. و لك أخي القارئ خلاصة رأيه في المسألة، والتبليغ منه، و منّي نادرا. في البداية، يشير أبو يعرب إلى طبيعة القضايا التي نشأت بسببها المدارس الفكريّة في الفترة الأولى من التاريخ الإسلامي، فقد غلب عليها النشاط العقلي النظري، و إن كان للقضايا العمليّة حضورها في عمليّة التأسيس، لكنها سرعان ما غيرت وجهتها نحو القضايا النظريّة، فمنزلة الكلي (حقائق الأشياء و قيمتها)، ارتبطت بظروف الإنتاج الرمزي للنماذج التفسيرية والتأويليّة للطبيعة وللشريعة، و ضمن هذه البداية و إلى آخر الفصل، يتتبّع المرزوقي تكوّن التسييج العلمي في الحضارة العربية الإسلاميّة كمعطى متقدّم على وضع الأنساق الدينية، باعتبارها ما بعد علوم الشريعة، و الأنساق الفلسفية باعتبارها ما بعد علوم الطبيعة، وهو بذلك ينفي التفسير السياسي الساذج لنشأة هذه الأنساق.
إن أبا يعرب المرزوقي، يؤمن أن الواقع السياسي - و إن كان دافعا لتكوّن الأنساق الفكريّة الدينيّة منها و الفلسفية - ليس مصدرا معرفيّا لهذه الأنساق، فبادئ الرأي فيها (الأنساق) و إن حرّكته العوامل السياسية، فموطنه الراعي له و المطوّر هو النسيج العلمي (النقلي منه والعقلي)، و بكل وضوح، فإن تطوّر المذهب الفكري للأحزاب السياسية يعود إلى الفعاليّة الثقافيّة بالأساس، و الراجح عند فيلسوفنا أن الصراع السياسي بين الأحزاب، و البحث عن حلول لعاجل المشكلات، لا يمنح هذه الأحزاب فرصة البحث و التفكير النظري العميق، بل تكتفي بالبادي من الرأي (و فرق كما يقول أبو يعرب بين من يتخذ مواقف فكرية – وهي الصفة الغالبة على مفكرينا اليوم و للأسف- و بين من يفكر و ينتج نظريات). أمّا و أن هذه الأحزاب قد تطوّر فهمها للمدونة الإسلامية (قرآن و سنة)، لتصبح صاحبة فلسفة في اللاهوت النظري (كلام) و في اللاهوت العملي (تصوّف)، فهذا يعود بالأساس إلى النضج النظري، الذي أصبحت معه هذه الأحزاب قادرة على إنتاج نظريّة في الكلي، عليها يتأسّس العلم النظري و العملي. (و المقصود بالعلم النظري و العملي، أن العلوم بعد فترة من التطور و التقعيد تعود على موضوعاتها و مواقفها بالنقد، فتحصر العناصر و القضايا، و تربط بينها منطقيّا، لتصبح بذلك نسقا قادرا على فهم العناصر المفردة على نحو كلي)، و النضج النظري من معانيه تجاوز الفهم العلمي الجزئي للظاهرة، إلى الفهم الفلسفي الكلي، إنّها قدرة على تحديد ماهية الأشياء، و الماهية ليست ما ندركه بالحواس مباشرة، وإنما هي عمليّة تجريدية نتحوّل فيها من المحسوس إلى صورته: أي إلى المعقول، فالماهية هي المعقول من المحسوس، وهذه العملية -التعقيل- عمليّة معقدة، تمكنّنا من إنتاج عالم آخر هو عالم الفكر، وهذه من المسائل المفصليّة التي ينبه المرزوقي إلى خطورتها، و أحسبها من الدوافع لاختياره لها موضوعا لأطروحاته. فالكلي كما نبّه إلى أهميته هذا الفيلسوف هو منهج، أو قل هو نظريّة، ملخصها أن العامل المحدد في الطبيعة هو الكليات، و أنّ تتطوّر العالم -كما جاء في كتاب "من وجهة نظر منطقيّة" لويلارد فإن أورمان كواين هو قصّة نشاط هذه الكليات، وَ ِمنْ صُنْعِها، وحتى لا نهمل ما نحن بصدد تحليله، نعود إلى مسألة النضج النظري عند المذاهب الفكريّة، و في نفس الفصل من كتاب "تجليات الفلسفة العربيّة" يواصل أبو يعرب الحديث و بكل دقّة، عن اختلاف وضع العقل الوجودي و المعرفي في الثقافة العربيّة الإسلاميّة، عن وضعه في الفلسفة اليونانيّة، وانطلق في هذا الحديث من وصف عميق للهيأة التي تواجدت عليها علوم النقل و علوم العقل، باعتبارهما النسيج العلمي المؤلف للفكر العربي.
في سعيه لبناء علوم النقل، و المرور من المضمون الفاقد للشكل إلى المضمون المشكّل، (المنسق) وجد الفكر العربي في العقل اليوناني الفلسفي وسيلة مساعدة على تحقيق هذه الغاية، ومن هنا نفذ العقل اليوناني، و أصبح أحد عناصر الفعاليّة الثقافيّة العربيّة، باعتباره وسيلة مساعدة على تنسيق علوم النقل تنسيقا علميا يحصر مسائلها و يربط بينها منطقيّا. و لكثافة اللجوء إلى هذا العقل من أجل تحقيق هذا التنظيم، سجّل المنطق والفلسفة اليونانيّة عموما حضورا واسعا، أصبح العقل بموجبه غاية في حد ذاته، أي أنه (العقل اليوناني) أصبح مرجعا لقسم من النشاط الفكري العربي، هو الأفلاطونيّة المحدثة العربيّة، و هذا التوسع في المدى الوجودي للعقل، حيث أصبح مرجعا فيما بعد الطبيعة، أحرج الفكر الديني. و لمزيد التفصيل في هذه المسألة نقول: لقد اتخذت علوم النقل والفكر الديني عموما من المنطق اليوناني خاصة، و الفلسفة اليونانيّة، وسيلة لتنظيم مسائلها، كما اتخذت منهما وسيلة للدفاع عن قضايا العقيدة، لكن كثرة اللجوء إليهما حوّلت العقل من مجرّد وسيلة إلى غاية مطلوبة لذاتها، وهذا معنى توسع المدى المعرفي و الوجودي للكلي، أو للعقل في الحضارة العربيّة الإسلاميّة في قرونها الأولى، وهذه العلاقة الوظيفيّة كانت متبادلة بين المابعدين الفلسفي و الديني: فالفكر الديني كان يوظف الفلسفة لتجاوز الإحراجات الناجمة عن بعض حلوله الفكرية كذلك الفكر الفلسفي كان يوظف الدين لتجاوز الإحراجات الناجمة عن بعض حلوله الفكريّة، إن اللقاء الصدام بين الفكرين، هو الذي عبّر عنه فيلسوفنا في كتاب "إصلاح العقل" ب"الحضور الاعتراضي" للفكر الديني في النسق الفلسفي، و للفكر الفلسفي في النسق الكلامي، ففي العنوان الثاني من الفصل الأول من القسم الأول لكتاب "إصلاح العقل"، تحدث أبو يعرب المرزوقي عن تدخل الفلسفة في الدين، و تدخل الدين في الفلسفة، بفعل القضايا المشتركة بينهما، و الناتجة عن إضفاء طابع المضمون النقلي على الشكل العقلي و الشكل العقلي على المضمون النقلي، وإليك أخي القارئ الأمر باختصار.
إن اللقاء الصدام بين الفكرين، حدث بفعل التشكّل العقلي للمضمونات النقليّة، حيث استعانت علوم النقل بالمنطق خاصة، لإضفاء العلميّة على المضمون النقلي، كما حدث هذا الصدام بفعل التشكّل النقلي للمضمونات العقليّة، حيث استعانت علوم العقل، بالشكل الديني(الوحي والإلهام) لإضفاء الشرعية والقدسية على المضمون العقلي، فخلال حركيّة تعقيل النقلي وتنقيل العقلي تقاطعت الاهتمامات بين الفكرين فكان اللقاء و كان الصدام. إن عمليّة استيعاب علوم العقل كالرياضيات والمنطق و ما بعدها المؤسس لها (الفلسفة) صيّر الفلسفة واقعا فكريّا له فعالية في المجال العربي الإسلامي، حيث طرحت نفسها بديلا تأسيسيّا (للنظر و العمل) عن علم الكلام، و من ورائه المدونة الإسلامية (القرآن و السنة)، و لأن الفلسفة العربية، وجدت نفسها أمام رؤية دينيّة إسلامية مناقضة تماما لرؤية مرجعيتها (الفلسفة اليونانيّة) اضطرت إلى المهادنة إن صحّ التعبير، تلاؤما مع المحيط، فأخذت من علم الكلام ما به تتلاءم مع الدين في بعض أطروحاتها، رفعا للحرج، الذي مصدره الحل الفلسفي اليوناني، كما أخذ علم الكلام من الفلسفة ما به يتلاءم مع العقل و العقلانيّة، رفعا للحرج الذي مصدره بعض المذاهب الدينيّة، و مثاله: إن الفيلسوف العربي إذا ساير المرجع اليوناني و قال بالطبائع أو بالضرورة الطبيعية، فهذا يعني استغناء الطبيعة عن الله، فالمعلوم أن الضرورة هي المسيطرة على عالم الطبيعة، فالعلاقة بين الأسباب والمسببات حتميّة، و في هذا تغييب للإرادة الإلهية، وهذا حرج يرفعه الفيلسوف العربي عن نفسه فيلجأ إلى الرؤية الدينية، و يقول بالتدخل الإلهي في الطبيعة، قطعا للتسلسل الضروري للطبائع، فالطبيعة لا تفعل بذاتها، وإنما فيها من إرادة الله ما ينسب الحرية لفعله. هذا عن تدخل الدين في الفلسفة، أما عن تدخل الفلسفة في الدين، فمن الأمثلة الواردة في كتاب صاحبنا نجد ما خلاصته: إن الفكر الديني - في بعض مذاهبه - رفض القول بالطبائع أي بالعلاقة الضرورية بين الأسباب و المسببات، من أجل إثبات حريّة الفعل الإلهي المطلقة، في الطبيعة و في الشريعة، و هذا ما ينفي كل إرادة للإنسان أمام المعطى الطبيعي و المعطى الشريعي، و هذا يوقعنا في حرج القول بالجبر المطلق. ورفعا لهذا الحرج، لجأ الفكر الديني للحل الفلسفي القائل بالطبائع، أي بالعلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات، ففي ذلك حدّ من الحرية المطلقة للفعل الإلهي، ومنح بعض منها -الحرية- لبعض خلقه -الإنسان- (المعتزلة). هذه إشارة سريعة عن توظيف الدين للفلسفي، و توظيف الفلسفة للديني، وهذا التوظيف، هو عنوان المرحلة الرابعة من مراحل تاريخ علاقة الفكرين الديني و الفلسفي ببعضهما. إن الفكر الفلسفي حسب فيلسوفنا، يتأسس على تصوّر للكلي مختلفا عن التصور الديني، فمن خصائص الكلي في الفكر الفلسفي اليوناني، أنه ذو طبيعة ما بعديّة: فهو مثال معرفي، يؤسس لنظام معرفي منغلق، أي إن ما نصل إليه من نظريات (مثلا وأفكار) حول الوجود، يصبح بديلا عن الوجود في المعرفة به(الوجود)، حيث يطابق المعلوم الموجود، وما لم يُفهم من الوجود - حسب هذه الرؤية الواقعيّة – نقدّر استحالته ولا معقوليته. فالعقل هو المعقول، ومعنى ذلك، أن تصبح المعرفة بالوجود نظرا فيما وضع حوله من نظريات، ونكتفي بشرحها وتعلّمها، فتحل النظرية محل الطبيعة في المعرفة بالطبيعة، والأصل في المعرفة أنّها تقوم على التجربة المباشرة مع الطبيعة، فمن خلالها - التجربة – نعدّل وباستمرار في النظريّة لتتلاءم مع الواقع (وليس العكس كما هو في الرؤية الواقعيّة، حيث نجبر الواقع على التلاؤم مع النظرية، فيتجمّد الواقع وتتجمّد النظرية) وعكس هذا نجده في الحنيفية المحدثة، فتصبح علوم النقل إفراز لرؤية في الكلي تقول بالعقل العاقل فما نضعه من نظريات، هو عقل إجرائي ومعرفة ذريعيّة، قابلة للتعديل، وكما سلف الذكر، فالعقل لا يعلل الوجود ولا يعكس نظامه، لأن الوجود سابق في الوجود للعقل وهو ( العقل ) أمامه يكتفي بإضفاء النظام عليه. ومرّة أخرى أقول – بحسب ما أفهم عن أبي يعرب – الكلي، هو انتقال الوجود من كونه مجرد معطى طبيعي أو شريعي، إلى مرموز قابل للوصف وللنظر وللعمل، وهذا هو فعل الرياضيات والسياسة، بحيث نتمكن بعد ذلك من التعامل معه فلسفيا ودينيا. فالكلي هو الوجود الطبيعي معلوما ومنسقا، وهو أيضا الوجود الشريعي معلوما ومنسقا، الأول كلي نظري، والثاني كلي عملي، فالوجود هو القائم طبيعيّا وشريعيّا، والمرموز من الوجود هو ما أصبح معلوما من الطبيعي ومنسقا، وما أصبح معمولا من الشريعي ومنسقا، وفي هذا تمييز للمتعالي من الحقيقة، على المتعيّن. فالكلي، هو درجة من درجات تعيّن الحقيقة، ونقصد بذلك تعينها الذهني: (المعقول).
V- أبو يعرب واستئناف القول الفلسفي (من أجل عصر وسيط إسلامي جديد):
ونصل الآن، أخي القارئ، إلى العنصر الأخير من هذا العمل، فالقول بإجرائية العقل وبالمعرفة الذريعيّة، هو تحول من الكلي الغائي الواقعي، والعقل المثال، إلى الكلي الوسيلي الاسمي، وهذا التحول يجد شروط إمكانه في الفعالية الثقافية الدينية الإسلامية، وهذا معنى حديث المرزوقي عن بنية الحنيفية المحدثة، فهو يتحدث عنها باعتبارها شرط إمكان هذا التحول، كيف ذلك؟
سنتجاوز حديث المرزوقي عن بنية الأفلاطونية المحدثة، وإن كان مفيدا هنا، وسنقصر الحديث على تحليله العميق لبنية الحنيفية المحدثة، باعتبارها شرط إمكان التحول في مسألة الشرط الوجودي للمعرفة (من العقل المعقول إلى العقل العاقل أو من الكلي الواقعي إلى الكلي الاسمي...).
سنتحدث إذن، عن خطورة الإسلام و القرآن كحدث ثقافي فكري، أكسب الفلسفة خاصة والحضارة العربيّة الإسلاميّة عموما خصوصيتها.
إنّ القراءة العميقة لمسألة الكلّي، كما يطرحها أبو يعرب، والتي سنعود إليها في الجزء الثاني من هذا العمل، تمكننا من اكتشاف حقيقة منهجيّة تخترق أطروحاته، وخلاصتها: فك الارتباط بين الطريقة والحقيقة، فالمنهج، رياضيّا كان أو منطقيّا ... مهما كانت درجة العلميّة فيه والدقّة والصرامة، فهذا لا يعني أبدا إطلاقيّة المعرفة الناتجة عنه، فالشيء في ذاته، أو الحقيقة، أمران لا يعلمهما الإنسان، إنّما هو يضع من الكليات ما يقرّب منهما، فالكلّي درجة متقدمة -على المحسوس- في المعرفة بالشيء، وفي تعيّن الحقيقة، وهو (الكلي) إمكان فلسفي أو ديني، من جملة إمكانات أخرى، ونستطيع القول إن الكلي درجة وسطى (عالم ثالث) بين المتعالي اللانهائي وبين المحسوس.
ويأتي حديث المرزوقي عن بنية الحنيفية المحدثة، ليؤكد هذا المعنى، فهو يتحدث عنها باعتبارها شرط إمكان التحول في الوضع الوجودي والمعرفي للعقل. (وأنبّه القارئ الكريم أن حديثي عن بنية الحنيفية المحدثة سيتوجّه (بالأساس) إلى الإسلام الدين لأن أبا يعرب أحيانا يقصد بالحنيفية المحدثة الدين الإسلامي في مصدريه القرآن والسنة وأحيانا يقصد بها التصورات الكلاميّة والصوفية عن الإسلام). إنّ حديث أبي يعرب، عن القرآن والإسلام والمذاهب الكلاميّة والصوفية الناشئة عن قراءته، هو حديث عن الظرف الحضاري والثقافي الخاص، المحيط والحاضن للنشاط الفلسفي العربي، فهو بمثابة العلّة التي جعلت من هذه الفلسفة ما كانت عليه، ويشير فيلسوفنا في الفصل III من الباب I من الكتاب، إلى التشابه والاختلاف بين الوضعيتين الحضاريتين الحاضنتين للنشاط الفلسفي، اليوناني منه والعربي (في صورته الأفلاطونية المحدثة) وهو وجه التشابه بين الجهتين في البداية على الأقل: فالأفلاطونيّة المحدثة الهلنستيّة، باعتبارها محاولة للنهوض بالفكر الفلسفي اليوناني الأصيل هي عودة إلى أرسطو وأفلاطون، باعتبارهما الصورة النهائية للقول الفلسفي، أو النموذج المثال، فما قبله آل إليه وما بعده يصدر منه، فهي عودة إلى نصوصهما للتوفيق بينهما، في أهم مسألة فرقت بينهما، وهي مسألة الكلي (وجوهرها علاقة الماهية بالوجود)، وكان هذا المنطق حاكم للحركيّة فيها، ومقارنة بهذا الجهد الفلسفي اليوناني، كيف تأسس الجهد الفلسفي في المجال العربي الإسلامي؟ فهو ظرف أكسب هذا الجهد خصوصيته، في التعامل مع مرجعه اليوناني، حيث تراوحت حركته لفترة بين حديه: (أفلاطون وأرسطو)، ثم أمكنه - بشيء من النضج - تجاوزهما إلى النصوص السابقة عنهما، وبتأثير من الظرف الحنيفي المحدث، تمكن الجهد الفلسفي العربي - خاصة مع ابن تيميّة وابن خلدون - من تفجير المرجعيّة اليونانيّة. في هذه المسألة بالذات (التجاوز من الواقعيّة نحو الاسميّة) وإن كان لهذا الجهد سلفا (الغزاليّ خاصة)، فالجهد الفلسفي المؤسس للاسميّة ومن قبله الممهّد لها عاد إلى النظر والعمل، كناشطين تاريخيين، بقطع النظر عن الكلي الواقعي المؤسس لهما، فكان الانفجار (والمصطلح لفيلسوفنا وسنعمل على توضيح دلالته في حينه)، وكانت الحيويّة. فماذا في الظرف العربي الإسلامي، من خصوصيّة، أكسبت الفلسفة العربيّة ميزتها (ويمكن القول إن الحنيفية المحدثة أكسبت الفكر الفلسفي الإنساني حيويته لأنه كان يتكلم العربية في تلك الفقرة).
إن الظرف العربي المشغول (المصطبغ) بالإسلام في قرونه الأولى، يشبه الظرف اليوناني السابق لأفلاطون وأرسطو، فكلاهما خال من الأنساق الفكريّة المسيطرة: أي انعدام السلطة الروحيّة، فلا وجود لعقل ماهية، فالعقل -كما يريد أن يؤكد المرزوقي حسب فهمه للدين- هو جزء من إرادة الإنسان، وهو ليس كل المعرفة «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» والقرآن في حدّ ذاته ومن طبيعته، يرفض الرضوخ لنظام معرفي لم يفصّل من أجله (وبالتالي لا مجال لفهمه على ضوء ما انتهت إليه صورة العقل عند اليونان خاصة). إن الحنيفيّة المحدثة، أكدت على نجاعة التجربة في المعرفة بالطبيعة مثلا، لِتَحُدَّ من سيطرة المنطق اليوناني، فتعقيل الطبيعة (الكلي النظري)، لا يقوم بأي حال، مقام الطبيعة، في إرادة العلم بها، فالكلي وظيفته إجرائيّة. إن الفكر الديني الإسلامي الأوّل، قَابَلَ التطرف المنطقي الفلسفي اليوناني، بالتطرف التجريبي، وهذا ما مهّد لوضع جديد للعقل (الكلي) في الحنيفية المحدثة، يقوم على اعتباره جزءا من إرادة الإنسان (ولمصطلح الإرادة بعد فلسفي عميق جدا عند صاحبنا سنعمل على درسه في الجزء الثاني من هذا العمل إن شاء الله). ويؤكد أبو يعرب أن العودة إلى التجربة في عمليّة المعرفة، وبناء الكلي، ميزة في القرآن وفي الإسلام، غيّرت خطة العقل في المعرفة بالطبيعة وبالشريعة. أيضا فالإنسان يتصل بالمعطى الطبيعي، وبالمعطى الشريعي، ومن خلالهما يؤسّس لتجربته العلميّة الفلسفية، والدينيّة الصوفيّة، وخلاصة هذه التجربة، أنه يُسْتَخْرَجُ من هذين المعطيين بنيتهما فتكون المعرفة، وهي جهد لا يمكنه استنفاذ موضوعه (الوقائع)، فالطبيعة في الرؤية الإسلاميّة معطى متجدد أو هي إرادة إلهية حرّة، وعلى العقل أن يعدّ كشفا خاصا بها دائما، لأن إرادة الله -وهي علمه- لا يمكن الإحاطة بها، «ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء» وحريّة الإرادة الإلهيّة، لا تعني عدم انتظام الطبيعة، وبالتالي عجز في إدراك قوانينها، وإنما هي رفض للقول بالضرورة وبالطبيعة الطابعة، وتأكيد للقول بالعادة والوعد الإلهي، بتثبيت سننه في الخلق، كما ورد عند الغزالي برواية المرزوقي. وصَوْنًا للفلسفة، فالمعرفة بالطبيعة قائمة على الجدل الدائم، بين الجهاز المادي (التقني) وبين الجهاز التصوّري، وأي تغيير أو تطوّر في الأوّل، يعني تغيير أو تتطوّر في الثاني، كما فهمنا عن فيلسوفنا في كتابه «صونا للفلسفة وللدين» (وهو من الكتب التي توقفك على خصوبة فكره وعمقه). وبمثل هذه الإشارة، يريد أبو يعرب المرزوقي، إخراج الفكر الفلسفي وأهله، والفكر الديني وأهله من كسل الواقعيّة، إلى نشاط الاسميّة، لأن القول بالكلي الواقعي، انتهى بالتنظير الفلسفي إلى مجرّد التوفيق بين الأنساق الجاهزة، ويبدع فيلسوفنا عندما يقول في كتابه «تحديات وفرص» ط1 2008 نشر دار الفرقد. «إنّ الموفّق لا يفكّر بل يلفق ...» وقبلها يقول «والموقف التوفيقي ليس فكرا أصلا لاقتصاره على الجمع بين الجثث...». تلك هي أحد أسرار اهتمام المرزوقي بالكلي، فهو مطلب يتعالى على المتقابلات، التي تحوج المفكر إلى الموقف التوفيقي، وكما يقول أبو يعرب «إذا طلبت الكلي استغنيت عن التوفيق بين الأجزاء المتنافية...»، فمن أراد الإبداع فعليه تجاوز الأنساق إلى ما قبلها (وهذا ما آمنت به الفلسفة الغربية الحديثة)، وأعمق ما في هذا الجهد ما كان منه عودة إلى الموضوعات عريّة عن كلّ تنسيق، إنّها عمليّة التجاوز بالعودة بمصطلح أبي يعرب، وهي بنية فكريّة شملت كل الأفلاطونيات المحدثة الهلنسيّة منها والعربية والألمانيّة ... لكن لها خصوصيتها في اللحظة العربيّة الإسلاميّة، وهذه الخصوصيّة تمثلها مفارقات الدين الإسلامي: فهو دين الفطرة السابقة في وجودها، عن النسقين الدينيين المحرفين، التوراتي والإنجيلي، والعودة إليها (الفطرة)، تصحيح منه لهما على ضوئها، باعتبارها هي هو، وهو دين أيضا يبني الإيمان على الاستدلال (لا الإعجاز)، فالوحي خُتِمَ ولم يبقى إلا الاجتهاد.
إن الفكر الديني كما أراده القرآن، حدث في ظرف انعدمت فيه الدولة الرمزيّة، وهذا يعني انعدام معوقات العودة إلى الفطرة، التي كان يدعو إليها، والخلاصة، أن من مميزات الظرف الحنيفي المحدث، تَوَافُقُ دعوة القرآن إلى التخلص من النسقين الدينيين (التوراتي و الإنجيلي) المحرفين، عودة منه إلى الفطرة، مع الظرف الخالي من الدولة الرمزيّة كعائق أمام هذه الفطرة: فكانت عودة إلى العدم، والشروع الجديد في العلم والعمل الطليقين من كل تحكم، لكن هذا الخلو لم يكن تاما ودائما، فعندما سعى الفكر الديني إلى صياغة رؤيته الخاصة في الطبيعة والتاريخ بالاعتماد على مرجعيّته الخاصة (قرآن وسنة) فإن هذا المسعى لم ينج من الدوران في فلك الخصيم لقوّة جاذبيّته والخصم نقصد به، النسق الفلسفي الأفلاطوني المحدث، والنسق الديني التوراتي المحدث، فقد شاركا الفكر الديني رقعته الجغرافية ووجوده الثقافي، إلى حد جعلاه يغترب فيهما في البداية خاصة، والمنجي من هذا الاغتراب، أن مرجعيّة الفكر الديني الإسلامي (القرآن)، اعتبرت التوراة والإنجيل الموجودين محرفين، وهذا أكسبه رؤية مستقلّة عن حديه، تتوافق معهما أو تختلف بحسب توافقهما واختلافهما مع القرآن المعيار، وهذه الاستقلالية، صاحبها نقد لهما، مصدره إصلاح القرآن للتحريف فيهما بالعودة إلى الفطرة، ومن مدعمات هذه الرؤية، أن القرآن دعا العقل إلى التأمل في الخلق، وأمره أن يعرض علومه ونظرياته على المعطى الطبيعي والشريعي، فيقرأهما بها (العلوم) ويختبرها بهما (الطبيعة والشريعة)، واحتراق أحدهما بالآخر هو الضامن لخلوهما من الدّجل، وتلك هي الاسميّة الرافضة لكسل الواقعيّة.
وفي فترة متقدمة استعان الفكر الديني الإسلامي بالفكر الفلسفي اليوناني -كما سلف الذكر- في رده على التوراتيّة المحدثة (النسقين الدينيين التوراتي والإنجيلي المجمدين والمحرفين)، فكان أن نفذ منه إليه، ولأن الفكر الفلسفي، أصبح بعد ذلك من مكونات الفكر الديني، فقد تلازم نقد الأنساق الدينيّة في عمليّة التجاوز بالعودة الإسلاميّة مع نقد الأنساق الفلسفيّة.
إن نقد القرآن للتوراة والإنجيل المحرفين مثلا، هو عودة إلى الدين الفطرة، باعتباره ظاهرة إنسانيّة، لا تقتصر على شعب مختار، وهو أيضا، عودة إلى المعطى الطبيعي والشريعي، باعتبارهما فعلان إلهيان، فالعالم والتاريخ آيتا الحكمة الإلهيّة، فيهما تكمن الحقيقة الكونية والحقيقة الشرعيّة، وهما متعاليان، بحيث يبقى الكلي الذي ينشئه الإنسان درجة من درجات تعيناتهما، دون أن يكون هو هما. و في خاتمة هذا المعنى نقول إن الاجتهاد في العلم بالطبيعة، والاجتهاد في العلم بالشريعة، جاءا صريحين في القرآن وهذا ما يجعله (العلم) غنيّا عن كلّ إطلاق يكون سببا في واقعيّة الكلي.
فالكلي، أداة رمزيّة، نعتمدها في لقائنا مع المعطى الطبيعي والمعطى الشريعي، إننا لا نتعامل مباشرة مع هذين المعطيين، وإنما يحصل ذلك من خلال مرجعيّة في النظر (الماهيّة)، ومرجعيّة في العمل (القيم)، وتبقى العلوم النظريّة كالرياضيات والمنطق، السبيل المعبّر عن الكلي النظري والعلوم العمليّة، كالسياسة والتاريخ، السبيل المعبّر عن الكلي العملي، فالكلي تصوّر ذهني، يصاغ في قوالب نظريّة وعمليّة، والموقف منه والاعتبار الوجودي والمعرفي الذي نسنده إليه، عامل حاسم في العلم، نشأة ومسيرة، وهذا مبررّ جديد إلى جانب المبررات السابقة، يجعل من الكلي قضيّة الفلسفة الأولى لمن أراد الإبداع ومجانبتها والتقليل من أهميتها مجانية للحكمة.
VI- الخاتمة: كيف يُعرب أبو يعرب؟
أشير في آخر التحليل، إلى أنني فضلت الحديث عن فكر أبي يعرب المرزوقي، بعيدا عن كل مقارنة (لكن هذا لا ينفي عندي أهمية هذا المنهج)، والأصل في هذا الاختيار، محاولة الإطلاع على ظاهر قول الرجل في ما يطرح من قضايا، أما من طلب العمق، فإنه واجد السجال في كل فصل، ولست أبالغ إن قلت في كل فقرة. فالكتابة عند المرزوقي، مبطنة بالنقد - دحضا أو تأييدا - (للأهلي من الفكر أو الأجنبي)، فقراءة السطور لا تغني حسب رأيي عن قراءة ما بينها وقد تكون أهم، فصاحبنا يخوض حوارا عميقا وجديا وشاقا - إلا عليه - مع كبار المؤسسين من الفلاسفة والمفكرين مثل أرسطو وأفلاطون وأفلوطين والفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن تيمية وابن خلدون وديكارت وهيجل وهيوسرل وهيدغر، واجتماعهم في ذهن هذا الفيلسوف، أمر لا نكاد نجد له مثيلا، وهو مع كل ذلك قارئ لكتاب الله ، وأظنه آت فيه بما لم تأت به الأوائل.
بعد ذلك أقول و بالله أستعين، أخي القارئ، إن كنت قارئا لأفلاطون و أرسطو أو عنهما، وإن كنت مطلعا على مقالات فلاسفة الإسلام، مثل الفارابي و ابن سينا و الغزالي و ابن تيمية وابن خلدون ... و إن كنت عارفا و لو معرفة سطحية بأطروحات أقطاب الفكر الغربي الحديث، مثل ديكارت ولايبنتز و هيغل وشيلر و شيلينغ و هوسرل... فالأكيد أنك ستشعر بالجدب المعرفي الفلسفي، الذي يعيشه الفكر العربي الفلسفي المعاصر، فأنت تطوف بين الأسماء والأطروحات و المشاريع، فلن تجد من يلفت انتباهك بله أن يفرض عليك احترامه (بالمعنى المعرفي لا الأخلاقي)، وهذا شعور يظل يصاحبك كلما انتهيت من قراءة كتاب أو مشروع، ولن يخرجك من هذا الشعور و من شبه اليأس هذا، إلا قلّة نادرة جدّا من مفكرينا المعاصرين، و في مسائل ضيقة ومحدودة، مثل عبد الله العروي في جزء قليل مما كتب، و إمام عبد الفتاح في ترجمته لهيغل، و عبد الرحمان بدوي في بعض اهتمامه، هذا في مجال الفكر الفلسفي. كذلك أخي القارئ، إن كنت قارئا للقرآن، و مطلعا على أعمال الدارسين له و للمدونة الإسلامية عموما، تفسيرا أو فقها أو كلاما... مثل الأشعري و الباقلاني و الفخر الرازي و من قبلهم واصل ابن عطاء، أو بعض أتباع مذهبه الممكنين له، مثل العلاف و القاضي عبد الجبار و غيرهم مثل الشافعي في مجاله، إن كنت قارئا لهم أو عنهم، فالأكيد أنك ستشعر بالجدب المعرفي الذي يعيشه الفكر العربي الديني المعاصر، فأمام هذا السيل الهائل من الإنتاج، فإنك لن تجد من يلفت علمه اهتمامك بله أن يفرض عليك احترامه (بالمعنى المعرفي)، إلا القليل النادر و النادر جدا، و إن أبدعوا ففي مسائل جزئية جدّا، و لا يصح أن تصفهم بأنهم أصحاب رؤية. هذا شعور يكاد يتحوّل إلى مسلّمة لا يمكن تكذيبها، ومن الذين استطاعوا أن يخففوا من وطأة هذا الشعور، الفيلسوف و المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي، فهو في الفكر الفلسفي كما في الفكر الديني، اسم لن تستطيع أن تمرّ عليه مرّ الكرام، قد أبدو متعصّبا جدّا، و قد يكون هذا مجرّد كلام إنشائيّ لا يتضمن الخبر اليقين، و لكن كل من كابد فكر هذا الرجل الفلسفي منه والديني، سيشعر أنني لم أخرج عن قول الحقيقة و لو قيد أنملة.
إنّ أبا يعرب المرزوقي، بقدر ما تميّز بالدقّة العلميّة و العمق في التحليل، فإنه فيلسوف جريء، فهو في المجال الثقافي العربي المعاصر، يكاد يكون الوحيد إن لم يكن كذلك، الذي اعتبر الفكر الديني والفكر الفلسفي يصدران عن نفس المشكاة، فهما واحد، وهو لا يدعو إلى التوفيق بينهما – كما أراد ذلك بعض السلف من الفلاسفة خاصة – لأنهما عنده واحد، فقط الاختلاف في طريقة العلاج وأولوياته: فالفكر الديني، بتوجه إلى الشريعة ومنها إلى الطبيعة، والفكر الفلسفي، يتوجه من الطبيعة إلى الشريعة، وهذا الاختلاف لا يقتضي تنازعهما و صراعهما كما هو سائد، وهذه جرءة دونها جرءة اينشتاين في مخالفته لنيوتن. إن ذهن المثقف العربي المعاصر، تفتّح منذ قواعد الدراسة المبكرة على أن الفلسفة و الدين، عدوان لدودان، و لا مجال للتقارب بينهما، والمقولات المترددة في هذا الشأن أكثر من أن تحصى، و لا أظنني في حاجة إلى التذكير بها، وقد تجد لهذه الدعوى صدى في الفكر الغربي، (الوسيط منه و المعاصر خاصة) مثل هيغل و غيره، أما في المجال الثقافي العربي الإسلامي فالأمر لا يحتاج حتى إلى التفكير.
جاء المرزوقي و أقام الدعوى من جديد فكانت بحق ثورة لامست أعمق ما في ذهن المثقف العربي، وهذا من معسّرات استيعاب فكره، و كما قلت عنه سابقا فقد جاء بشيء أغفلناه. كذلك إذا اعتبرنا النهوض الحضاري، مهمّة يتقاسمها الجميع، كل حسب موقعه، فإنّ النهوض الثقافي عامة و الفكري خاصة، يعتبر على رأس الأولويات في هذه المهمّة، و ضمنها يصنف مشروع أبي يعرب المرزوقي. فمن خصائص فكر هذا الرجل الحضارية، جمعه بين مطلب الإصلاح و مطلب التحرر، وهو ما استحال على الكثيرين قبله، والتاريخ الإسلامي العربي الحديث، يعتبر دليلا واضحا على استحالة الجمع بين هذين المطلبين (التحرر والإصلاح)، أي إنه من الصعب أن تتحرر الأمة من الاستعمار ثمّ تترك لإرادتها في بناء مستقبلها، كما أنه من الصعب أن يحصل التقدم والرفاه في استقلال عن الغرب، والمؤسف في حالتنا العربية، أننا كثيرا ما نعيش الأسوأ ضمن هذه البدائل، فتكون التبعية و لا يحصل التقدم، ويحاول البعض الانغلاق عبثا، فلا حريّة حقق بل الاستبداد السالب لكلّ إرادة.
لن أشغل نفسي بتحليل الوضع السياسي و الاقتصادي القائم الآن، فتلك مهمة لها أهلها ولست منهم، وإنما هي لفتة أردت أن أشير من خلالها إلى بعض مميزات المعالجة الفكرية الفلسفية العميقة لأبي يعرب، وبعض كتاباته تبيّن قدرته العجيبة على فكّ خيوط طبيعة الأزمة التي تعاني منها الأمة، أو لنقل معظمها، ويمكن اعتبار رؤيته الفلسفية خاصّة و الفكريّة عموما، نواة مشروع إنقاذي، يسير على خطى العظماء في التاريخ. إن الجمع بين الإصلاح و التحرر، معادلة بيّنت كلّ التجارب الإصلاحيّة الواقعة – و لا أتحدّث على النظريات الإصلاحيّة – صعوبة وأحيانا استحالة تحقيقها، وطبيعة الكلام في الخاتمة، لا يسمح بتفصيل رؤية المرزوقي في حلّ هذه المعادلة، و لكن هذا لا يمنع من التقديم و لو بإيجاز للشرط الأساسي لتوفرها في كتاباته، و أن نذكّر بعناوين بعض هذه الكتابات القائمة دليلا على ما نقول، أمّا الشرط الأساسي فهو التفكير الحر، فهو خير من ينبّه الأمّة لمهامها الرئيسية في النهضة، وهو أفضل مرشّح لوضع أسسها، وغياب مثل هذا التفكير هو من أكبر أدواء وضعنا.
إن الحياد المطلق، و عدم الانحياز السياسي، مطلب ساذج قياسا على سذاجة من يعتبر العلم الحقيقي يتمثل في السعي إلى تخليص المعرفة من مؤثرات التحيز و دواعيه. فكما من السذاجة، ظن الموضوعية العلمية في نفي الذاتية بإطلاق، فكذلك من السذاجة، ظن الحياد العملي في نفي الذاتية بإطلاق. لكن، كما أن فضالة الذات العالمة في علمها، لا تنفي الصدق في قولها، فإن فضالة الذات العاملة في عملها، لا تنفي عنها الإخلاص في عملها، فالصدق و الإخلاص، بالمعنى الذي حاولت توضيحه، هما سر إبداع هذا الفيلسوف (و فضالة الذات مصطلح اقتبسه حرفيا من عند المرزوقي في مقدمة كتابه "صونا للفلسفة و الدين")، والفكرة كلها مستوحاة منه، وأختم الحديث عن صفتي الإصلاح والتحرر في كتابات صاحبنا، بالإشارة إلى بعض العناوين الدالة مباشرة عليها: نجد مثلا كتاب "شروط نهضة العرب والمسلمين" ط.1 دار الفكر المعاصر، دار الفكر2001، خاصة المقالة2 من الباب 1. وكتاب "الوعي العربي بقضايا الأمة" ط1 دار الفرقة 2007. وكتاب "آفاق النهضة العربية" ط1 دار الطليعة 1991. ودراسة "الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات"، وخاصة هذه الدراسة الأخيرة، التي أنجزها المرزوقي بطلب من منظمي ندوة القاهرة، حول فتح الله كولن، والتي تمت تحت رعاية الجامعة العربية، ففي هذه الدراسة كما في غيرها أبدع المرزوقي في فك رموز المعادلة التي سبق ذكرها: كيف يتم الإصلاح دون سلب للإرادة و الوقوع في الاندراج الحضاري؟
ولمزيد توضيح الجواب عن السؤال الفاتح للخاتمة: (كيف يُعرب أبو يعرب؟)، أختصر بعض ما أسلكه مع فكر هذا الفيلسوف شكلا و مضمونا: فكثرة اللقاءات التي عقدتها مع تلامذة هذا الفيلسوف - وكلهم من القائمين على الدرس الفلسفي - وما دار بيني و بينهم من جدال ونقاش حول فكره و دروسه في الجامعة التونسية، جعلتني أقف على عدّة معان، أذكر منها ما يخدم الجواب المطلوب. فالجميع متشبعون بدروسه حول أرسطو، أو غيره من قضايا الفلسفة العامة و الخاصة، فإذا انتقل الحديث عن المرزوقي في الشعر المطلق أو "الوعي العربي بقضايا الأمة" أو "صونا للفلسفة والدين"أو تفسيره للقرآن، فإنك لن تجد نفس التشبع في التحليل و الحماسة في القول، فنكتفي بالسطحي من التحليل، أو بعض النقد، الذي يعبر من خلاله صاحبه عن عدم رضاه بالمنهج الجديد الذي اتبعه المرزوقي، فهو عنده، يكون أفضل لو بقي متمسكا بالركن الأرسطي اليوناني. هذه إذن خلاصة معرفة قديمة بالمرزوقي، و أقصد بقديمة، قديمة في الزمان، أي لم يتابعوا إنتاجه الجديد. وعندما أتحدث مع من عرف المرزوقي الآن، (خاصة من خلال موقع www.alfalsafa.com)، فإنّك تجد معرفة مغايرة للأولى، فهم يقرؤون لمثقف متنوع الاهتمامات، صاحب قلم سيّال (دون إخلال بعمق الفكرة)، ورؤيته لقضايا عصره وللدين خاصة طريفة، ويخاطب القوم بلغات لم تعهد أمثاله في مجاله عارفين بها. والخلاصة في كل هذا، أن العارفين بالمرزوقي، جلهم من هذا الصنف أو ذاك: فالأوّل لا يعرف إبداعه في الفكر الديني، و الثاني لا يعرف إبداعه في الفلسفة اليونانية، وخاصة أرسطو، ومن هذه الخلاصة نستخرج الجواب، وهو أن أبا يعرب يكون أوضح عندما تقرؤه كلّه.
و يمكن اختصار الإطار الحضاري لجهده العلمي، كما يقول هو، في فك خيوط طبيعة الأزمة التي تعاني منها الأمّة، بصورة تجعله قادرا على تقديم مشروع للإنقاذ. فرغم أن أبا يعرب ينفي عن نفسه الوصول إلى هذه النتيجة، - فهي من عمل الأنبياء و النبوة ختمت - و لكن هذا لا ينفي بذل الجهد والمحاولة من أجل الإصلاح، و هذا الإصلاح يبدأ بحسن التصرف في الممتلكات الثقافية للأمّة، وهي من أثمن ما تملك، وكتاب "منزلة الكلي" أو "تجليات الفلسفة العربية" يعتبر العنوان الأبرز المجسّد لهذه الحقيقة، حقيقة حسن التصرف في ممتلكات الأمّة، فهو في هذا الإطار، يدرس أحد أهم الجوانب التي عبرت الحضارة العربية الإسلامية عن نفسها من خلاله: إنه الجانب العلمي والمعرفي عموما. فلكل أمّة قيم، هي أصل قيامها المادي و المعنوي، و أبو يعرب ينظر في هذه القيم، و يتوزّع اهتمامه بها على مختلف كتاباته، و فيما يخص ما نحن بصدد دراسته - وهو كتاب "تجليات الفلسفة العربية" - فإن اهتمام المرزوقي موجّه إلى القيم الوجودية، مجسدة في الفلسفة والدين، وهذا النوع من القيم، يفهمك أكثر من غيره الوحدة أو البنية المحرّكة لمختلف تجليات الحضارة العربية الإسلامية، فالمعلوم أن الأمّة – أَيُّ أمّة – وهي تبني حضارتها، فإنها تودعها أعمالا تقوم مقام الرموز الدالة عليها جزئيّا أو كليّا، و هذه المظاهر ( التجليات ) قد تكون ماديّة مثل سور الصين و برج إيفل و قصر الحمراء، و قد يشار إليها من خلال اللباس، أو ...و قد تكون معنويّة، يشار إليها بكتاب أو فلسفة أو تيار أدبي، و هذه التجليات، مشتتة لا رابط بينها.
إن كتاب "تجليات الفلسفة العربية"، يتوجّه بالتحليل إلى هذه البنية المحركة، أو هذا الرابط، فهو إذن يكسبك القدرة على فهم ما يبدو مشتتا: فأي علاقة بين القرآن و الإبداع الشعري عند المتنبي؟ أو بين محمد بن موسى الخوارزمي و أبو حامد الغزالي، و بين نجاح صلاح الدين الأيوبي في رد هجمات الصليبيين؟ أو انتصار المظفر قطز على المغول في عين جالوت؟ إنه الكلي. لقد اختار المرزوقي تجليات عظيمة للحضارة العربية الإسلامية، تمثلت في المعرفة النظرية و العمليّة، و من خلال مقولة الكلي استطاع رصد الخيط الناظم لما يبدو مشتتا في هذا المجال، و هذا ما وضحه سالف التحليل. إن رصد هذا الفيلسوف لحركة الفكر، مكنه من التفطن إلى حركة الاستقبال والرفض التي مارستها الحضارة العربية الإسلامية تجاه الآخر و حيال نفسها، وضمن هذه النقطة بالذات (نقطة الكشف عن سرّ حركية الأفكار و الاستقبال أو الرفض لها في الحضارة العربية الإسلامية)، نكون قد وقفنا على طابع الفرادة و الجدّة عند أبي يعرب المرزوقي، و أدركنا أحد أهم أسرار تنوع الإنتاج المعرفي لهذا الفيلسوف: إنه يريد أن يعلّم قارئه، كسر الاحتكار المعرفي - التفسيري منه والتأويلي - المهيمن على الدرس العلمي في الجامعات والكتب، والذي ( الاحتكار ) يكاد يكون أحد أسباب موت الإبداع.
إن تنوع الإنتاج المعرفي عند فيلسوفنا، يدل و بوضوح، عن خطّة بديلة في التفكير يجب أن تسود، فإلى متى مثلا، تظل النفس أو الوعي، موضوعا حكرا على الفيلسوف، و إلى متى يظل موضوع الحجّ أو صلاة الجنازة حكرا على الفقيه. إن أبا يعرب، يقطع مع مثل هذه السُّنَّةِ بعلم يفوق أحيانا علم زاعمي الاختصاص، وهو و إن كان لا يرفض البحث الفقهي في الحج، فإنه يرفض اعتباره الوحيد أو الأكفأ في بيان أبعاد هذه العبادة، و هنا أرجو من القارئ الكريم أن يسمح بوقفة قصيرة تكون خاتمة المطاف، نبيّن من خلالها بعض ما أجملناه في هذه المسألة الأخيرة. ففي دراسة له بعنوان "منافع الحج الثقافية: من خلال دلالة العودة إلى إبراهيم عليه السلام"، و في المسألة الثانية "المسألة المنهجية"، يتساءل المرزوقي فيقول: "ما دور الحج في حياة المسلمين الذوقيّة والرزقيّة والنظرية والعملية و الوجودية، ثمّ ما دور حياتهم بنفس تلك المستويات في الحج؟" (بتصرف)، واعتبر المرزوقي، الجواب عن هذا السؤال مطلوب الدراسة، فإذا قرأت الجواب، فإنّك ستقف على فهم عميق للدين تكاد لا تجد له مثيلا، و من جملة ما يلفت انتباهك في جواب المرزوقي، أن الحج عبادة أكبر من أن نكتفي بدراستها فقهيا، و نزعم بعد ذلك أننا فهمنا أبعاد الحج، فالمرزوقي يشعرك أنه لو اجتمعت كل علوم الملّة في شرح هذه العبادة و بيان أبعادها، لما كان ذلك كافيا، فالإنسان جسدا و عقلا و روحا و مالا و سياسة و اجتماعا و تقاليد... يُقْبل على هذه العبادة، و ينصهر لفترة مع الزمان و المكان اللذان تتم فيهما وخلالهما هذه العبادة، فأي علم تحتاجه لبيان شمولية هذه العبادة و شمولية التفاعل معها؟ نكتفي بهذا السؤال، لنؤكد عدم كفاية الاختصاص الواحد في دراسة ظاهرة مثل ظاهرة الحج أوغيرها، وعدم كفاية الاختصاص الواحد في دراسة الظاهرة، قاعدة مطلوبة، حتى مع الظواهر البسيطة، فما بالك إذا تعلق الأمر بالقرآن، من هذا المنطلق أفسّر توجّه المرزوقي نحو تفسير القرآن. وبحكم عامل الثقة بيني و بينه (وهذا يشرفني كثيرا)، فقد أمدني بنموذجين للتفسير (سورة هود و الآية 1 من بسورة النساء) وكم كان ذهولي شديد عندما قرأت هذين النموذجين، و بعد هذا الذهول ألخص رأيي فيما قرأت في الكلمات التالية.
إن تفسير أبا يعرب المرزوقي للقرآن، سوف يدخلنا دورة تنجيمية معنويّة جديدة و عميقة جدّا، فالله جلّ جلاله قال "لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه..." سورة القيامة آية 16 – 17 – 18 . و مما ورد في تفسير هذه الآية، أنها تضمنت أدبا أوصى به الله رسوله عند تلقيه الوحي، و خلاصته: أن لا يبادر فيقرأ ما لم يُقرأ عليه و هذا تضمنه قوله تعالى "و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه" سورة طه آية 114، والآية بعد ذلك، تخبر الرسول أنه لن يفوتك شيئ من الوحي حتى تحتاج إلى أن تتعجل قراءته، ثم يوصيه بعد ذلك أن يقرأ بعد تمام الوحي، والآية، تخبر الرسول بأن الله سيتولى بيانه كما تولى جمعه، إذن، فالرسول أُمر بالإنصات حتى يتم الوحي، لأنه كان يحرك به لسانه مخافة أن ينساه وحرصا منه على حفظه، ولكن الله أمره أن ينصت ليحفظه في الذهن، ثم يبينه للناس بلسانه. فالرسول كان الأداة الأولى للوحي التي سخرها الله لحفظ القرآن جمعا و بيانا، و هذه الآية نجد معناها في أختها التي قال الله فيها: "إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون".
والله بحكمته، أبدع الكثير من الأسباب لحفظ القرآن جمعا و بيانا: أما الجمع، فقد شاءت حكمة الله أن تتم المهمة في عهد أعظم أجيال المسلمين (جيل الصحابة)، و قد قاموا بالمهمة على أحسن وجه، ثم استمر الحفظ له في الصدور و السطور إلى يوم الناس هذا، و سيظل بإذن الله إلى يوم القيامة. وكما سخر الله من خلقه من يحفظه جمعا و تدوينا، فقد سخر من خلقه من يحفظه بيانا وتفسيرا، و أسأل الله، أن يكون المرزوقي إحدى حلقات سلسلة الحفظة المبيّنين - ودون أن أزكي على الله أحدا- فإني أرى في أبي يعرب المرزوقي، أحد الذين سيجري الله على أيديهم فتحا جديدا في بيان القرآن، فهو تفسير، يؤسس لدورة تنجيمية معنوية جديدة، وبحسب ما أفهم عن هذا الرجل، فإني أستطيع القول، إن أبا يعرب المرزوقي، يرحل بقارئه رحلتين عظيمتين وعميقتين: رحلة أولى يريدك فيها أن تكتشف ماذا وضع الله في الطبيعة، وجهده الفلسفي في جزء منه يرنو إلى هذا الهدف، وبعد هذه الرحلة الشاقة، يأخذك من خلال تفسيره، لتكتشف معه ماذا وضع الله في الشريعة، و حولهما تدندن علوم النقل وعلوم العقل، و يأتي الكلي النظري سبيلا إلى الطبيعة، ويأتي الكلي العملي سبيلا إلى الشريعة.
وبعد مستقر الرحلة، و عذابها المثمر، فإنك ستكتشف أن فكر أبا يعرب المرزوقي يعكس طورا جديدا ضمن مسيرة الحضارة العربية الإسلامية، ولو كتب لفكر هذا الرجل، أن يُقرأ و يُنشر على نطاق أوسع مما هو عليه اليوم، فإن الثقافة العربية الإسلامية ستسري فيها روح جديدة.
وبكل ثقة أقول: إن كل من يقرأ فكر أبا يعرب المرزوقي، ويتبحرّ فيه، فالنتيجة عنده ستكون كالتالي: إن معرفتنا بالقرآن خاصة، والتراث الإسلامي عموما، قبل قراءة المرزوقي، لن تكون هي نفسها بعد قراءته. إنه خلاصة نقية لسلسلة من النوابغ في مجاله صالحة، وبذرة طيبة لأجيال قادمة، إنّه روح العصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.