فاز قيس سعيد رسميا برئاسة الجمهورية بعد غلق مكاتب الاقتراع، لكن علينا أن نعود يومين إلى الوراء لنتأكد من أنه فاز فعليا عند نهاية المناظرة المتلفزة… الرئاسية التونسية لم تشذ عن القاعدة العالمية فالمناظرة تلعب دورا مهما في الربح والخسارة، وإليكم الدليل: تونس (الشروق) «القروي سيصوت لسعيد» رددها بعض أنصار الثاني ليلة الجمعة الماضي بعد نهاية المناظرة الانتخابية المتلفزة مثلما رددوا العديد من العبارات والشعارات الطريفة والمؤثرة والمدمرة للخصم على شاكلة «لو لم تقرر محكمة التعقيب الإفراج عن نبيل القروي لما سقط في المناظرة»، ومن أين تأتي بالفصاحة كلها وأنا يتوه على فمي التعبير» كما غنتها المطربة نجاة الصغيرة. لا شك أن إعلام التواصل الاجتماعي الموالي لسعيد لعب دورا فعالا في تجميع النقاط من المناظرة لصفه، لكن الصحيح أيضا أن الإعلام الفايسبوكي والورقي والمرئي والمسموع الموالي للقروي لم يجد ما يهاجم به ولا ما يدافع عنه فاكتفى بمحاولات التوضيح في ما يشبه لملمة الجراح. لماذا حصل هذا؟... لأن سعيد بدا في المناظرة على استعداد تام للامتحان فيما ظهر القروي كمن «حضر محور الفقر قبل أن يفاجأ في الامتحان بمحور الدولة» يقول بعض المعلقين الساخرين التابعين لصف سعيد. فرصة الوقت القاتل علينا أن نعود إلى التجربة الأولى من المناظرات الانتخابية المتلفزة في تونس لنكتشف مدى التأثير بالسلب أو بالإيجاب في حظوظ المترشحين. ففي المناظرة المتعلقة بالدور الأول من الرئاسية كان التونسي عموما والناخب خصوصا ينتظر ظهور المترشح وتكلمه ليعرفه ويحكم عليه فكان هذا سببا في القضاء على طموحات العديد من المترشحين لعل أبرزهم بولبيار واللومي والبريكي ومنصور، وفي ارتفاع أسهم قلة ممن جمعوا بين الإلمام والثقة بالنفس والحضور وطلاقة اللسان على شاكلة سعيد وعبو ثم مورو بدرجة أقل. في تلك المناظرة لم يحضر القروي بسبب إيقافه فلم تتأثر حظوظه بل زادت ارتفاعا لأنه بدا للبعض كمن حرم من حقه في المشاركة. حتى خروجه من سجن الإيقاف كان القروي يحافظ على حظوظه كاملة في الفوز بالرئاسية وإن تقدم عليه منافسه نسبيا بسبب العمل الجبار الذي قام به أنصاره على صفحات الفيس بوك. للأمانة أتيحت للقروي فرصة نادرة لقلب موازين القوى في الوقت القاتل والتأكد من الفوز لو تغلب على منافسه في المناظرة التلفزية لكن العكس هو الذي حدث: معركة غير متكافئة مترشح واثق من نفسه ويتكلم عربية قحة بلسان طليق في مقابلة مترشح متلعثم لا يقوى على التعبير ولا على إيصال فكرته ولا حتى على تقديم جملة مفيدة بلهجته الدارجة. الفرق تجاوز المستوى الخطابي إلى الحضور الذهني والجسدي بما أن القروي لاح في صورة المتردد الذي لا يدري إلى أين ينظر ولا إلى ماذا يمد يديه ثم كانت الضربة القاضية في الارتجال من ناحية وفي الإلمام بفن الخطاب الشعبوي من ناحية أخرى. فسعيد عرف متى وكيف يتدخل ليصلح أخطاء منافسه ويحرجه أمام المتابعين، وعرف متى يقزّمه كما فعل ميتيران بشيراك في الانتخابات الرئاسية سنة 1988، واستثمر ببراعة كبيرة مشاعر التونسيين وموقفهم من القضية الفلسطينية عندما سخر من عبارة «التطبيع» وألح على جريمة «الخيانة العظمى»، فيما وجه القروي ضربة خاطئة لنفسه بالحديث عن العجز والمرض ضمن الأسباب الداعية إلى الاستقالة من رئاسة الجمهورية. في الخطاب الشعبوي لجأ القروي إلى اقتراحات لا يفهمها عموم الناخبين مثل ما عبر عنه ب»الديبلوماسية الرقمية» فيما دغدغ سعيد مشاعر الشباب والعاطلين وأصحاب المبادرات الذاتية قبل أن يسمي جهاتهم وأحياءهم السكنية. توسيع الفارق في المناظرات الانتخابية، حدث في الولاياتالمتحدة وفرنسا والعديد من دول العالم الأخرى أن ارتفعت أسهم بعض المترشحين وانهارت أسهم البعض الآخر في ما يشبه قلب موازين القوى أو إسقاط كفة بالتوازي مع رفع الكفة الأخرى. في تونس حدث التأثير ذاته ولكن بطريقة مغايرة وهي الضغط على الكفة المرجحة سلفا والمساهمة في مزيد رفع الأسهم المرتفعة وإسقاط الأسهم المنهارة بطبعها ما يفسر الفارق الشاسع بين القروي وسعيد في نسب الأصوات المتحصل عليها. فالقروي بدأ المناظرة وهو متخلف نسبيا عن منافسه بسبب ما التصق به من تهم وجراء الغلبة الواضحة للإعلام الافتراضي على الإعلام الكلاسيكي وخاصة منه المرئي التلفزي وتجند العديد من الأحزاب بإمكاناتها وتجاربها لخدمة سعيد فضلا عن ربطه بالخط الثوري المضاد للسيستام عكس القروي… تقدم سعيد كان بسيطا لكنه توسع بشكل رهيب خلال المناظرة وبعدها لأن القروي لم يقنع ولم يبدع ولم يظهر في صورة رئيس الجمهورية. الأدهى أنه لم يبد أي نوع من الفطنة ولا البداهة ولا ردة الفعل الإيجابية حتى يحول هزيمته أو تأخره في النتيجة إلى فوز ساحق. لو كان القروي فطنا لوجه لسعيد ضربة قاضية في عد-يد الفرص التي سنحت له مثل فرصة الحديث عن التطبيع وفرصة التطرق إلى الجهاز السري. في الولاياتالمتحدة هناك من استغل نصف الفرصة ليحول تأخره إلى فوز ساحق لهذا ما على القروي إلا أن يلوم نفسه قبل غيره. فن استصغار المنافس لنا في الانتخابات الرئاسية الفرنسية ربيع 1988 خير مثال على استصغار المنافس وحشره في الزاوية والقضاء على حظوظه كما فعل رئيس الجمهورية فرنسوا ميتران بالوزير الأول (حكومة التعايش) جاك شيراك. بدا اليساري الوسطي الطامع في ولاية ثانية فرانسوا ميتران مرتبكا أمام خصمه اليميني شيراك، ما ساعد الأخير على تحقيق العديد من النقاط، لكن ميتران استعاد توازنه واختار أن يخاطب منافسه بعبارة «السيد الوزير الأول» كشكل من أشكال الاستنقاص والاستصغار والتذكير بأنه رئيس الجمهورية والأحق بالبقاء في الرئاسة. ظل ميتران يكرر العبارة حتى ضاق به شيراك ذرعا وأمره أن يكف عن هذا الوصف لأنهما في وضعية المتنافسين على رئاسة الجمهورية وليسا في علاقة الرئيس بالوزير الأول. عندها تدخل ميتران ليقول: «آه أنا آسف، شكرا على التنبيه لقد تعودت طيلة العامين الماضيين على وجودك معي بصفتك الوزير الأول، أنت محق سيدي الوزير الأول». الضربة القاضية جرت في الولاياتالمتحدة سنة 1976 مناظرة بين الجمهوري جيرالد فورد والديمقراطي جيمي كارتر كان التقدم فيها واضحا للأول حتى ارتكب الخطأ القاتل. وحسب العديد من المؤرخين الأمريكان، فإن فورد وعد في المناظرة بالتصدي للاتحاد السوفيتي (سابقا) في حالة فوزه بالرئاسية حتى يمنعه من الهيمنة على أوروبا الشرقية، لكن فطنة كارتر جعلته يتدخل ليؤكد أن هذا الإجراء يضر بالولاياتالمتحدة ويهدد أمنها القومي فاقتنع الناخبون بوجهة نظره وصوتوا له بدل منافسه. لو كان القروي فطنا لاستغل حديث سعيد عن التطبيع ليوجه له ضربة قاضية على الطريقة الأمريكية.