الأمانةُ خلُقٌ مِن أخلاق الأنبياءِ والمرسَلين، وفضيلةٌ من فضائل المؤمنين، عظَّم الله أمرَها ورفَع شأنها، وأعلى قدرَها؛ يقول جلَّ وعلا: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ﴾ [الأحزاب: 72]، ويقول سبحانه في وَصفِ عبادِه المفلحين المؤمنين: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]. والأمانةُ أَمَر الله بحفظِها ورِعايتِها، وفرَض أداءَها والقِيامَ بحقِّها؛ ﴿ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة: 283]، ويقول جلَّ وعلا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، ونبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتَمَنك، ولا تخُنْ مَن خانَك). وفي قصَّة هِرَقل مع أبي سفيان رضي الله عنه قال هِرَقل: "وسألتُك: ماذا يأمركم؟ (أي: النبي صلَّى الله عليه وسلَّم) فزعمتَ أنَّه يأمُر بالصَّلاة، والصِّدق، والعفاف، والوفاءِ بالعهد، وأداء الأمانة، وهذه صِفَة نبيٍّ". وأخبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ أداءَها والقيامَ بها إيمانٌ، وأنَّ تضييعَها والتهاونَ بها وخيانتَها نِفاقٌ وعِصيان؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا إيمانَ لِمَن لا أمانةَ له). وأخبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه يؤتَى يومَ القيامة بجهنَّم والنَّاس في عَرَصات يومِ القيامة حُفاة عُراة غرلاً، في ذلك الموقف العظيم، يؤتى بجهنم تُقاد بسبعين ألف زِمام، مع كلِّ زِمام سبعون ألف مَلَك، فلا يبقى مَلَكٌ مقرَّب، ولا نبيٌّ مرسلٌ إلاَّ جثَا على ركبتيه، ثم يُضرب الصِّراط على متن جهنَّم، وينادي الله جل جلاله بأن يَمُرَّ العبادُ عليه، وعندها تكون دعوة الأنبياء: (اللهم سلِّمْ سلِّم)، فإذا ضُرب الصِّراط على متن جهنم قال - كما في الصحيح -: (قامتِ الأمانة والرَّحم على جنبتي الصِّراط)، أمَّا الأمانة فإنَّها تُكبكب في نار جهنَّم كلَّ مَن خانها، وأمَّا الرَّحم فإنَّها تُزلُّ قَدمَ مَن قطعها وظلمها. إنَّ الأمانة أوَّل ما يفقده النَّاس من دِينهم؛ كما في الحديث: (أوَّلُ ما تَفقِدون مِن دِينكم الأمانة). وقال صلَّى الله عليه وسلَّم وقد سُئل: متى الساعة؟ قال: (إذا ضُيِّعتِ الأمانةُ فانتظرِ السَّاعة). وإنَّ الأمانة التي يتحدَّث عنها القرآن ليستْ هي الودائع - كما يظنُّ كثيرٌ من النَّاس. فالوضوء أمانة، فبإمكانك أن تصلِّيَ مِن غير وضوء، وتقول للنَّاس: إنَّك على وضوء. وبإمكانك أن تتوضَّأ على عجل ولا تحقَّق الطَّهارة، وأنت مؤتَمَن على ذلك. وصلاتك أيُها المسلمُ، أمانة وَكَلَها الله إليك، فهل تأتي مقبلاً على الصَّلاة، أو تأتي متثاقلاً متضايقًا متأفِّفًا؟! والصِّيام أمانة، والصَّدقة أمانة، كلُّها أمانات وَكَلَها الله إليك، وأنت المسؤول عنها، لا أحدَ يعلم بسريرتك، إنَّها أمانةٌ تامَّة موكولة لك، والموعد هو الصِّراط المنصوب على جهنَّم. وأداؤك لعملك الوظيفي هو جزءٌ كبيرٌ من الأمانة التي وُكِلت إليك، تتصرَّف بموجب الصَّلاحيات الموكولة إليك، وهي وإن كان في ظاهرها منفعة، فهي في باطنها حسرة وندامة لِمَن خان هذه الأمانة التي وكلها إليه وليُّ الأمر، ووثق فيه، وإذا به يُحابي فلانًا، ويقدِّم فلانًا، ويؤخِّر عِلانًا؛ يقدِّم هذا لمكانته أو قرابته، ويؤخِّر هذا - رغم استحقاقه - لخلاف شخصي! وإحسان التعامُل مع المراجعين أمانة، فلستَ صاحب فضل عندما تؤدِّي حقَّ احد؛ بل قد أخذت على هذا أجرًا، هوذه أمانةٌ وكَلَها لك وليُّ الأمر، وأنت ممثِلُّه أمام أصحاب الحقوق، فهل تؤدِّي هذه الأمانة؟ أم تنسى الأمانة والثِّقة؟! وما أكثرَ خصومَ مَن لم يبالِ بهذا! . وتربيتُك لأولادك أمانة، وحياتك مع زوجتك أمانة، ومن الخيانة أن تتحدَّث عن أسرارها. وأصدقاؤك وما يُخبرونك به من أسرارهم أمانة. إذا رأيتَ الرَّجل يحفظ الأمانة، ورأيتَه يؤدِّيها مراقبًا الله في ذلك، فاعلمْ أنَّ وراء ذلك قلبًا سليمًا، يخاف الله جلَّ جلاله ويتقِّيه، وأنَّ هذا العبد يعلمُ عِلمَ اليقين أنَّ الله محاسبُهُ وسائِلُه ومجازيه. الخطبة الثانية ان خُلُق الأمانة تنتظم به شؤونُ الحياة كلُّها؛ من عقيدة وعبادة، وأدب ومعاملة، وتكافُل اجتماعي، وسياسة حكيمة رشيدة، وخُلُق حسن كريم. والأمانة بهذا المعنى وهذه الحدود سِرُّ سعادة الأُمم، ويوم كانت أُمَّتُنا من أصدق الشُّعوب والأُمم في حمل هذه الأمانة والوفاء بها كانت أُمَّتُنا خيرَ أمَّة أُخِرجت للنَّاس. سرقتِ امرأةٌ في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة الفتح، ففزع قومُها إلى أسامةَ بن زيد يستشفعونه، قال عروة: فلمَّا كلَّمه أسامة فيها تلوَّن وجهُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: (أتكلِّمني في حدٍّ من حدود الله)، قال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلمَّا كان العشي، قام رسول الله خطيبًا، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: (أمَّا بعد، فإنَّما أهلك النَّاسَ قبلكم أنَّهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ، والذي نفسُ محمَّد بيده، لو أنَّ فاطمة بنتَ محمَّد سرقت لقطعتُ يدها)، ثم أمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بتلك المرأة، فقُطِعت يدُها، فهذه هي أمانةُ الحاكم في تنفيذ الحدود على النَّاس جميعًا. واستدان ابنُ عمر بن الخطَّاب من أبي موسى الأشعريِّ حين كان واليًا على الكوفة أموالاً من خزينة الدَّولة؛ ليتاجرَ بها على أن يردَّها بعد ذلك كاملةً غير منقوصة، واتَّجر ولدُ عمر فربح، فبلغ ذلك عمرَ، فقال له: إنَّك حين اشتريتَ أنقص لك البائعون في الثَّمن؛ لأنَّك ولد أمير المؤمنين، ولمَّا بعتَ زاد لك المشترون في الثَّمن؛ لأنَّك ولد أمير المؤمنين، فلا جَرمَ أنْ كان للمسلمين نصيبٌ فيما ربحتَ، فقاسَمَه نِصفَ الرِّبح، واستردَّ منه القرْض، وعنَّفه على ما فعل، واشتدَّ في العِقاب على أبي موسى؛ لأنَّه أنفق من أموال الدَّولة ما لا يصحُّ أن يقع مثلُه، وهذه أمانةُ الحاكم الذي يسهر على مال الأُمَّة، فلا يحابي فيه صديقًا ولا قريبًا.