ما كان يبدو وكأنه امتحان جدّي واختبار صعب بمناسبة انتخاب رئيس جديد للبرلمان ونائبيه تحوّل في نهاية المطاف الى نجاح باهر للتجربة الديمقراطية التونسية. نعم كانت هناك أجواء مشحونة في بداية الجلسة. وسجلت بعض المظاهر التي كنا نتمنى ألا تعكّر صفو جلسة انتخابية يفترض أن موازين القوى تحت قبّة البرلمان هي المحدّدة فيها. وموازين القوى حدّدها تحالف الكتلتين الأولى والثانية في استنساخ لتجربة توافق عرفتها تونس إثر انتخابات 2014 رغم ما سبقها وما تبعها من تجاذبات ومناكفات وحتى تراشق بالتهم. وسوف يسجل التاريخ للتجربة الديمقراطية التونسية أنها كانت مرّة أخرى رافعة مثالية عبر بواسطتها الجميع الى برّ الأمان. واجتازوا بواسطتها عامل تشظّي المشهد البرلماني الذي أفرزته انتخابات 2019... هذا المشهد الذي طبعته فسيفساء ظاهرة للعين المجرّدة لم تعط أي حزب -وفي طليعتها حزب حركة النهضة الفائز بأكبر عدد من الأصوات- إمكانية فرض اللون والتأثير بمفرده في صياغة المشهد على رأسي السلطتين التشريعية والتنفيذية... وهو ما دفع باتجاه البحث عن التوافقات لاستكمال تركيبة المشهد البرلماني بانتخاب الرئيس ونائبيه. وعند هذه النقطة أصبح بإمكان تونس أن تفاخر بقدرة أبنائها على تغليب منطق التلاقي والحوار لتدوير الزوايا والبحث عما يقرّب المسافات وما يبعد عوامل الفرقة والتصادم حتى يصبح التوافق ممكنا... وهذه أصبحت سنّة حميدة يلوذ بها الفاعلون السياسيون في بلادنا لتجاوز المآزق والمطبّات... وهي السنّة التي جرّبت فصحّت قبل سنوات. ومكّنت بلادنا من الظفر بجائزة نوبل للسلام اعترافا من العالم وتثمينا منه لتجربة الحوار الوطني الذي قاده الرباعي الراعي والذي أفضى الى نزع فتيل أزمة كانت تهدّد بإدخال البلاد في متاهات أزمة كان يمكن أن تعصف باستقرار البلاد وتدخلها في دوّامة يصعب الخروج منها. الآن أثبت التونسيون للعالم أنهم يعتمدون الديمقراطية خيارا لا رجعة فيه وأنه بالاحتكام الى الديمقراطية وآلياتها يمكن تذليل كل الصعاب والعبور بالنموذج الديمقراطي التونسي الى برّ الأمان... والأصل أن تتجه هذه الروح البناءة نحو إرساء توافقات صعبة تمكّن من تشكيل حكومة في أسرع وقت حتى يمكن الانكباب على المشاغل والمشاكل الحقيقية للشعب... وحتى يمكن التعجيل بتوفير مستلزمات الاستجابة لانتظارات الناس بدءا بالضغط على الأسعار وتحسين المقدرة الشرائية للمواطن وانتهاء بحلّ معضلة البطالة مرورا بإعادة عجلة اقتصادنا الى دورانها الطبيعي وانتشال عُملتنا الوطنية من حالة الضعف والهوان التي تردّت فيها. تونس اليوم ليست في حاجة الى المزيد من الكلام والتنظير. وتونس ليست في حاجة الى المزيد من الخطب الرنّانة وكلام المنابر واللّهث وراء الأضواء. تونس في حاجة الى الأفعال وليس الى الأقوال. أفعال تمرّ كلها عبر العمل والإنتاج وعبر إعطاء الأولوية المطلقة لكل ما ينفع الناس وتفضي الى انتشال البلاد والعباد من حافة الهاوية. نعم أصبح لنا مسار ديمقراطي رائد ومتجذّر. والمطلوب الآن أن نردفه بنجاح اقتصادي واجتماعي يفضي الى تحصين هذه التجربة الديمقراطية الفريدة في الوطن العربي من أيّة هزّات أو مطبّات قد نقع فيها ما لم يتخلّص السياسيون من آفة الكلام والجدل وينصرفوا الى الفعل والعمل.