لم يكن يوم أمس يوما عاديا بمدرسة البطاح من معتمدية فرنانة، فكل الأعين مصوبة نحوكرسي فارغ في القسم، صغار يلوحون بنظراتهم البريئة الى مقعد مهى، اليوم لن يسمعوا ضحكاتها، ولن يروا نطرات عيونها الجميلة والحالمة بغد افضل . مها لم تعد موجودة الا اسما في دفتر المناداة، أوربما في ذاكرة أصحابها ومعلميها، مها القضقاضي ذات ال11 سنة جرفتها مياه السيول في يوم قاتم سيبقى وصمة عار على جبين كل مسؤول تخاذل في اداء مسؤوليته . لم تكن مها الاسم الاول الذي راح ضحية التهميش الذي تعاني منه الجهة، فربما جسر بسيط اوطريق يُعبّد كان سيعني الكثير في حياة اطفال الارياف، لكنهم راحوا ضحية التهميش الممنهج والفساد والسرقة رانيا، أنور، مها ... والقائمة طويلة. مأساة مها لم تكن الاولى أوالاخيرة في ارياف سقطت عمدا من سجل اهتمامات الدولة، ففي شتاء 2013 توفي طفلان (7 و9) سنوات من منطقة الفروحة بني مطير - فرنانة حين جرفتهما المياه . لكن القائمة طويلة وتختزل بين اسطرها اسماء لاطفال راحوا ضحايا الاهمال والتهميش ففي 2 جانفي 2016 رحلت رانيا ضيفلي عندما لم يتحمل جسدها الضعيف المرض ولا لسعات البرد، اما مأساة الطفل أنور بوكحيلي من منطقة بوحلاب فرنانة فهي لا تقل قتامة عن سابقيها، فأنور مات في 9 نوفمبر 2017 من الجوع وهوينتظر لمجة بسيطة تسد رمقه، لكن الموت كان اقرب . نتذكر ايضا مأساة سيف الدين قضقاضي التلميذ بمدرسة الازدهار الجواودة القريبة من مدرسة مهى وأنور و الذي مات في 14 مارس 2018 بسبب مرض الالتهاب الكبدي الفيروسي، ودون ان ننسى أماني القضقاضي التي توفيت بصاعقة رعدية في اكتوبر 2019 وهي عائدة من المدرسة . تعددت طرق الموت، لكن المسؤول عن تواضع البنية التحتية وغياب أبسط المرافق الحياتية للعيش بالمناطق الحدودية النائية يبقى نفسه، وقد اكد نشطاء بالمجتمع المدني بجندوبة وفرع رابطة حقوق الانسان بأن الدولة تتحمل المسؤولية كاملة وهي التي لم توفر الحد من البنية التحتية من طرقات وجسور وسكن اجتماعي . «مانحبّش نغيب ... الامتحانات جاية» بهذه الكلمات ردت مهى على والدتها التي طلبت منها البقاء في المنزل نظرا لبرودة الطقس ...كانت متميزة وجدية وتحلم بالصعود في سلم الحياة والعمل من أجل تحسين ظروف العائلة .لكن كل احلامها ضاعت وانتهت، وهل للفقراء الحق في الحلم في دولة لم تغتصب حقهم في الحياة فقط بل منعتهم من الحلم ...رحلت وتركت اما ملتاعة وابا مريضا... مبروك بن بلقاسم قضقاضي والد مها، اكد ان مجرى المياه يفصل بين منزله والمدرسة ويعرف باسم « شعبة البطاح « وبينما كانت مها تعبره داهمها سيل جارف ويبدوان المياه غلبتها وانزلقت ساقها لتجرفها رغم صراخ اصحابها التلاميذ ومحاولات انقاذها الا أن الموت كان الأسبق .. وتابع بالم وحرقة :لقد عثرت صحبة الجيران عليها جثة هامدة على بعد 300 من مكان سقوطها ... ابنتي ضحية تواضع البنية التحتية بالمنطقة فلوكان هناك جسر صغير ومنشأة مائية يعبر عليها السكان والتلاميذ لما كانت الكارثة . الأم لطيفة قضقاضي وبكثير من الحرقة قالت :فقدت فلذة كبدي لقد كانت لنا صحبة اختها الكبرى التي تدرس باعدادية عين البية فرنانة خير أنيس في الزمان ... كانت تقول انها ستكبر وتعيننا على متطلبات الحياة ... لقد كانت تحلم بأن تخرج العائلة من وضعها الاجتماعي الصعب لكن ذهبت مها إلى خالقها وموتها دين في رقبة المسؤولين الذين لم يفكروا في ما يتهدد سكان الأرياف من خطر كانت رمز الحنان ومتميزة عائلة مها تعيش وضعا اجتماعيا صعبا ومع ذلك كانت وحسب تأكيد صديقتها إسلام قضقاضي عنوانا للعطف والحنان ... كانت وبحكم سكننا بعيدا عن مدرسة البطاح وسكنها هي بجوار المدرسة تقضي وقت الراحة معنا لا تفارقنا خاصة وقت الدراسة بنظام الحصتين صباحية ومسائية فتزودنا بالماء وكل ما تقدر عليه رغم حالتها الاجتماعية الصعبة . ذيابي القضقاضي أكد أن عائلة مها رحمها الله تعيش ظروفا مادية واجتماعية صعبة حيث يعاني الاب من مرض مزمن وتجتهد الام في جمع الحطب لبيعه وتوفير اقل ما يمكن لتعيش العائلة المحتاجة . المعلم بلقاسم الغربي أوضح ان الهالكة والتي درسها خلال موسمين دراسيين ( الثانية والرابعة ) كانت ورغم ظروفها المادية والاجتماعية تتحلى بالانضباط والاجتهاد والمثابرة، وكانت نتائجها متميزة اضافة لرفعة أخلاقها والبشاشة التي لا تفارقها وحبها لأصدقائها بالفصل ولكل تلاميذ مدرسة البطاح واليوم المدرسة تفقد احدى بناتها نتيجة تواضع البنية التحتية بالأرياف النائية رحم الله مهى أطفال المبيتات... مأساة أعمق مأساة تلميذ الارياف لا تقف عند المرحلة الابتدائية بل تتعمق اكثر عندما يمرون الى الاعدادية اوالثانوية وهم الذين سيجبرون على الاقامة بمبيت بعيدا عن اهاليهم لان الدولة الحديثة حرمتهم من طريق يوصلهم الى بيوتهم . هؤلاء التلاميذ يعيشون مأساة أعمق، الحرمان من عطف ودفء العائلة، الحرمان من التدفئة في مناطق معروفة ببرودة طقسها والحرمان من الاتصال بعائلاتهم بل الاكثر قتامة حرمانهم من الهواتف ليتصلوا بعائلاتهم... هذه وضعية الطفولة في عهد الدولة الحديثة، في عهد يضع فيه المسؤول قوانينه ويتخذ قراراته وهوفي مكتبه المريح وسيارته الفارهة ليسلط كل انواع الحرمان على اطفال ابعدتهم الظروف عن احضان امهاتهم . كل الظروف المحيطة بأطفال وتلاميذ الارياف تؤكد انهم خارج دائرة اهتمام المسؤولين، في دولة تدعي انها رائدة في مجال حقوق الطفل، فباي حق يمنع هؤلاء الاطفال من أي وسيلة اتصال بعائلاتهم؟ هذه المعاناة يضاف اليها تواضع البنية التحتية ورداءة الوحدات الصحية وغياب التدفئة ورداءة الاكلة بل الادهى اتلاف ما يجلبه الاطفال الصغار من بيوتهم، وكان يجب توفير مكان لحفظ تلك الاطعمة لا اتلافها . عدد من اولياء تلاميذ المبيتات تذمروا كثيرا من الوضعية التي تهدد مستقبل صغارهم لكن صوتهم لا يسمعه «سيدي المسؤول» وهو الذي لا يحرم ابنه من أي شيء... فهل البقية اطفال من درجة رابعة يذكر ان عدد المدارس الاعدادية بجندوبة هي 33 منها اعداديتين تقنيتين و21 معهد ثانوي، ونجد 31 مبيتا بين اعدادي وثانوي.