الحوار الوطني... عبارة باتت تردّدها كل الألسن وتلهج بها كل الأطراف. وهذا مؤشر خير ودليل وعي بدقة وخطورة المرحلة التي تمر بها بلادنا وما تستوجبه من رصّ للصفوف وتوحيد للكلمة وحشد للإرادات الخيّرة ومدّ للجسور بين كل الفرقاء والفاعلين السياسيين والاجتماعيين. فالحوار لم يعد بمثابة ذلك البذخ الذي يمكن أن نقبل عليه أو نتركه. ولم يعد مجرّد خيار يمكن الإقدام عليه أو تركه والإدبار عنه... بل أصبح ضرورة حياتية ومسألة مستقبل دولة ومصير شعب.. بل إنه أصبح بمثابة مفتاح الإنقاذ الوحيد الذي قد يساعد متى اهتدينا إليه وتوافقنا عليه على حلّ كل الأبواب والقنوات الموصدة.. وعلى رسم خارطة طريق تمكّن البلاد والعباد من العبور إلى شاطئ الأمان ولكن... كل هذا الكلام الجميل والدعوات المنمقة والإرادات المغلّفة في امتداح الحوار ومزاياه سرعان ما تكشف ما وراء الأكمة بمجرد أن يتطرق الحديث إلى آليات الحوار وأطراف الحوار وملفات الحوار ومخرجاته... وما وراء الأكمة مزايدات ومناكفات وتجاذبات وتراشق بالتهم وتشكيك في الأهداف والنوايا. فما وراء الأكمة حديث هو للخَورِ أقرب يوحي لسامعه وكأن القوم مقبلون على صراع محموم وعلى حرب مفتوحة تباح فيها كل الأسلحة (حتى المحرمة دوليا) وتستباح فيها كل القيم والمعاني والمبادئ... والمهم أن يتموقع كل طرف وأن يسجّل نقاطا لحسابه وأن يؤسس لتجيير الحوار المرتقب (إن كتب له أن يرى النور) لصالحه ولصالح فريقه وخندقه ولصالح رؤيته لمآلات الأمور وفق موازين الربح والخسارة الذاتية والضيقة وليس تلك التي تتعلق بالمصلحة العليا للبلاد وتمسّ حاضر ومستقبل شعبها وأمنه القومي وحقوقه المشروعة في «الشغل والحرية والكرامة الوطنية». وبالمحصلة تعيش بلادنا هذه الأيام على وقع مهرجانات خطابية في الإعلام وفي المنابر وفي بيانات الأحزاب والمؤسسات وعلى رأسها مؤسسة رئاسة الجمهورية. وينخرط الجميع في مزادات عبثية تفرّق ولا تجمّع وتشتت الصفوف والنوايا والإرادات ولا تؤسس لتوحيد الرؤى أو على الأقل للتقريب بينها بما يجعل الاتفاق ممكنا ويجعل الحوار مثمرا ويجعل الإنقاذ متاحا. فبعض الأحزاب والأطراف ينخرط في مزايدات تصبّ في خانة الإقصاء وتغييب أطراف أخرى. والبعض ينخرط في مزاد وضع الشروط ورسم الخطوط الحمراء وحتى رئيس الدولة بما هو متاح له من هوامش ومن رصيد سياسي وأخلاقي فبدل أن يسعى ويكابد في سبيل فرض مؤسسة رئاسة الجمهورية كخيمة جامعة لكل التونسيين.. وعوض أن يرتقي ليلعب دور المجمّع انسجاما مع طبيعة دوره كرئيس لكل التونسيين.. ورئيس لكل الأطياف الحزبية بمن يحبهم ويلتقي معهم وبمن يختلف ولا يتقاطع معهم وبمن لا يستسيغهم مزاجه، فإنه آثر أن يتحوّل إلى طرف في تناقض معلن مع أطياف واسعة من شعبه بإعلانه إقصاء عديد الأطياف من الحوار وبحرصه المعلن على دسّ رؤاه وخياراته السياسية المناوئة للأحزاب واللاهثة وراء التنسيقيات في دسم الحوار الوطني... ليطلق بذلك رصاصة الرحمة على الحوار قبل انطلاقه ويحكم على مخرجاته بالفشل الذريع والمدوي حتى قبل اكتمال النصاب لعقده. الحوار الوطني كما تعنيه كلمة وطني هو حوار جامع شامل للجميع مستعص على الإقصاء والانتقائية.. وإلا فقد صفة وطابع الوطنية وبات أحرى أن نسميه حوار أطراف وجهات ولعبة محاور واصطفافات.. وحوار بهذه المواصفات لا آفاق له وسيكون عدم عقده أجدى وأنفع للبلاد من عقده متى كان محكوما عليه بالفشل. فهل هذا حوار.. أم خور وخوار؟ هذا هو لبّ المسألة. عبد الحميد الرياحي