عاجل : هجوم إسرائيلي على أهداف في العمق الإيراني    فرنسا: إصابة فتاتين في عملية طعن أمام مدرسة شرقي البلاد    الأندية المتأهلة إلى نصف نهائي الدوري الأوروبي    سلطنة عمان: ارتفاع عدد الوفيات جراء الطقس السيء إلى 21 حالة    اللجان الدائمة بالبرلمان العربي تناقش جملة من المواضيع تحضيرا للجلسة العامة الثالثة للبرلمان    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    تم جلبها من الموقع الأثري بسبيطلة: عرض قطع أثرية لأول مرّة في متحف الجهة    خلال الثلاثي الأول من 2024 .. ارتفاع عدد المشاريع الاستثمارية المصرّح بها    دعوة إلى مراجعة اليات التمويل    جوهر لعذار يؤكدّ : النادي الصفاقسي يستأنف قرار الرابطة بخصوص الويكلو    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    عاجل/ بعد "أمير كتيبة أجناد الخلافة": القبض على إرهابي ثاني بجبال القصرين    عاجل/ هيئة الدفاع عن الموقوفين السياسيين: اللّيلة تنقضي مدّة الإيقاف التحفّظي    وزير الدّاخليّة يشرف على موكب إحياء الذكرى 68 لعيد قوّات الأمن الدّاخلي    ارتفاع عائدات صادرات زيت الزيتون بنسبة 82.7 بالمائة    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    توزر.. افتتاح الاحتفال الجهوي لشهر التراث بدار الثقافة حامة الجريد    سوسة: الاستعداد لتنظيم الدورة 61 لمهرجان استعراض أوسو    تخصيص حافلة لتأمين النقل إلى معرض الكتاب: توقيت السفرات والتعريفة    أنس جابر خارج دورة شتوتغارت للتنس    طبربة: إيقاف 3 أشخاص يشتبه في ترويجهم لمواد مخدرة في صفوف الشباب والتلاميذ    نقابة الصحفيين التونسيين تُدين الحكم بالسجن في حق بُوغلاب    سيدي بوزيد.. تتويج اعدادية المزونة في الملتقى الجهوي للمسرح    الرصد الجوّي يُحذّر من رياح قويّة    عاجل/ محاولة تلميذ طعن أستاذه داخل القسم: وزارة الطفولة تتدخّل    محمود قصيعة لإدارة مباراة الكأس بين النادي الصفاقسي ومستقبل المرسى    بعد حلقة "الوحش بروماكس": مختار التليلي يواجه القضاء    عاجل : هجوم بسكين على تلميذتين في فرنسا    كأس تونس لكرة القدم: تعيينات حكام مقابلات الدور السادس عشر    حملات توعوية بالمؤسسات التربوية حول الاقتصاد في الماء    جلسة عمل مع وفد من البنك الإفريقي    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    انخفاض متوسط في هطول الأمطار في تونس بنسبة 20 بالمئة في هذه الفترة    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    عاجل/ فاجعة جديدة تهز هذه المنطقة: يحيل زوجته على الانعاش ثم ينتحر..    أبطال أوروبا: تعيينات مواجهات الدور نصف النهائي    عاجل/ تلميذ يطعن أستاذه من خلف أثناء الدرس..    بوركينا فاسو تطرد 3 دبلوماسيين فرنسيين لهذه الأسباب    عاجل : نفاد تذاكر مباراة الترجي وماميلودي صانداونز    هام/ تطوّرات حالة الطقس خلال الأيام القادمة..#خبر_عاجل    الحماية المدنية: 9 حالات وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    زلزال بقوة 6,6 درجات بضرب غربي اليابان    قيس سعيد : ''تونس لن تكون أبدا مقرا ولا معبرا للذين يتوافدون عليها خارج''    في انتظار قانون يحدد المهام والصلاحيات.. غدا أولى جلسات مجلس الجهات والأقاليم    اجتماعات ربيع 2024: الوفد التونسي يلتقي بمجموعة من مسؤولي المؤسسات المالية الدولية    ضربة إسرائيل الانتقامية لايران لن تتم قبل هذا الموعد..    سيدي بوزيد: حجز مواد غذائية من اجل الاحتكار والمضاربة بمعتمدية الرقاب    مصر: رياح الخماسين تجتاح البلاد محملة بالذباب الصحراوي..    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    توزر: المؤسسات الاستشفائية بالجهة تسجّل حالات إسهال معوي فيروسي خلال الفترة الأخيرة (المدير الجهوي للصحة)    الكاف: تلقيح اكثر من 80 بالمائة من الأبقار و25 بالمائة من المجترات ضد الأمراض المعدية (دائرة الإنتاج الحيواني)    "سينما تدور": اطلاق أول تجربة للسينما المتجولة في تونس    وزير الصحة يعاين ظروف سير العمل بالمستشفى الجهوي بباجة    جراحة فريدة في الأردن.. فتحوا رأسه وهو يهاتف عائلته    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع الشيخ راشد الغنوشي
نشر في الفجر نيوز يوم 25 - 12 - 2009

س: بصفتك من قيادات الحركة الإسلامية فى الوطن العربى... كيف تنظر لمستقبل هذه الحركات؟
أحييكم وقراءكم وأهلنا في مصر فالسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مستقبل الحركة الإسلامية من مستقبل الإسلام باعتبار مبرر وجودها خدمة رسالته وأمته، امتدادا لعمل النبوة، التي توقفت سلسلة مبعوثيها ببعثة النبي العربي محمد رسول الله عليه السلام، إلا أن الرسالة لم تتوقف فحاجة البشرية الى توجيهات ربّها حاجة مركوزة في أصل الخلقة، ومعنى ذلك انتقال مهمة التبليغ عن الله وهداية البشرية بإذن ربها الى صراطه المستقيم، من النبي الخاتم الى أمّته وريثة له في الإمتداد بالرسالة الى يوم الدّين. ولقد كان خطاب النبي الى أمته الحاضرة بين يديه والغائبة على صعيد عرفة في آخر حجة له مودعا، واضحا في توريثها الرسالة "فليبلغ الشّاهد منكم الغائب". ولقد استلمت الأمة هذه الوديعة ونهضت بأدائها أفرادا وجماعة كل بحسبه. فكان أول منجزاتها والرّسول عليه السّلام يسجّى قبل أن يوارى مثواه الأخير أن حققت لدولته الإمتداد فبايعت أقرب أصحابه إليه خليفة له، نائبة عن الأمة في إنفاذ الرّسالة، فكان الحرص على ألا يوجد فراغ في هذا الموقع، ذا أولوية على أداء واجب دفن الميّت، وظلّت على امتداد القرون رغم ما حصل من ضروب انحراف تحرص على إقامة الأداة التنفيذية لرسالة الإسلام ألا وهي الحكم. ولأن وجوب إنفاذ رسالة الإسلام منوطة بالأمة باعتبارها المستخلفة عن الله ورسوله في إقامة الدين، فهي صاحبة الشرعية، فهي المسؤولة عن إقامة الحكم ومراقبته وتقويمه إذا إعوج عودا به الى الصراط المستقيم، أي العدل وفق شريعة الله، ولأن هذا المقصد نسبي في تحققه، فالأمة مسؤولة على الإستدراك على الحاكم واستكمال ما قصر فيه عبر جهود علمائها وإقامة ما يكفي من المؤسسات الأهلية لملء الفراغات التي يتركها الحكم، لا سيما إذا كان الحكم شرعيا أي معترفا بالشريعة مصدرا أعلى للحكم والتشريع حتى وإن قصر عن بلوغ الأمثل، وارتكب مظالم ومنكرات، يمكن أن يجبر ذلك من طريق ما يقوم به العلماء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة المؤسسات كالوقف والمدرسة. وظل الأمر كذلك على إمتداد القرون حتى سقوط آخر صورة للحكم الإسلامي 1924
فكانت صدمة كبرى وزلزالا عاتيا فلأوّل مرّة في تاريخ الإسلام تسقط المظلّة الجامعة من فوق الرّؤوس ويتشظى الجسم الإسلامي ، في أعقاب تلك الصدمة ولدت الحركات الإسلامية أي العمل الشعبي المنظّم من منطلق رؤية اسلامية جامعة للإسلام عقيدة وشريعة إقتصادا وأخلاقا دينا ودولة، وإعتبار النضال من أجل إعادة بناء دولته وحضارته جهادا إسلاميا واجبا، فما لبث هذا المنظور للإسلام ولإحيائه أن انداح في أرجاء العالم ولا يزال يمتد ويستقطب إليه أوسع تيارات الإسلام المعاصر دافعا الى أضيق الطريق كل محاولات علمنة الإسلام التي جربت ونجحت مع العقائد الأخرى فتم تهميشها أو احتواؤها وإعادة تركيبها على مقاس الحداثة الغربية بما هي إعلاء شؤون الدنيا على شؤون الدين وتحكيم العقول في النبوات والإنساني في الإلهي. الإسلام وحده من خلال الحركة الإصلاحية أمكن له أن يستوعب الحداثة بشروطه ولخدمته، مهمشا كل التصورات العلمانية الشمولية المتشددة والجماعات القائمة عليها مستفيدا من كل كسب حضاري يتساوق مع شرائعه ومقاصده. لقد حررت الحركة الإصلاحية الإسلامية الإسلام مما التصق به وكبّله وجمّد فعاليته من تراث انحطاطي أغنوصي، فانطلقت آلياته الإجتهادية والجهادية تحريرا للعقول من ربقة الجمود والتقليد وتحريرا لفاعلية المسلم من عقائد الجبر فدبت الحياة في الجسم الإسلامي الخامدإحياء فكريا وأدبيا وفقهيا ففشت الفكرة الإصلاحية وعمت الحركات الجهادية دار الإسلام بما انكسرت معه موجات الإحتلال، وما تبقى منها هو تحت مطارق المجاهدين. واضح اليوم تراجع الفكر العلماني المتطرف وفشله والجماعات القائمة عليه في الحلول محل الإسلام أو تطويعه، أو تحقيق انجاز مما وعدت به على مستوى الحكم فلا تحققت في ظلّها وحدة للعرب، ولا تحرير لفلسطين، ولا ديمقراطية ولا تنمية اقتصادية، وهو ما أعطى مشروعية للتبشير مجددا بالإسلام منقذا تحت شعار الإسلام هو الحل، وما حصل في تركيا خلال زهاء قرن من ضياع جريا وراء سراب تقدم على خطا أوربا واتخاذ الإسلام وأمته ظهريا، شاهد على فشل ذريع للمشروع العلماني مقابل ما حققه في سنوات معدودات أبناء المشروع الإسلامي، عودا إلى قيم الإسلام وارتباطا بأمته. وتمثل حركة حماس في المستوى العربي وكذا حزب الله نموذجا لما يمكن للحل الإسلامي أن ينجزه في مستوى مواجهة العدو في ظل موازين قوة مختلة لصالحه خضعت لها الدول والجماعات. ولا يعني شعار الإسلام هو الحل أن المشروع الإسلامي يمتلك حلولا جاهزة كاملة لكل المعضلات المطروحة على أمتنا وعلى البشرية، ولو كان الإسلام كذلك ما كان صالحا لكل زمان ومكان، ولطوى الزمن حلوله منذ العصر الاول، ولانتفت الحاجة للإجتهاد المتجدد في كل عصر ومصر وحال، ولا يقول بذلك مسلم يمتلك مسكة من عقل وعلم بالإسلام وتراثه، نعم "الإسلام هو الحل" إذا توفرت الشروط، ومنها الايمان والعلم والعمل بعقائده وشرائعه وشعائره وأخلاقياته ومقاصده وتراثه، وكذا العلم بالواقع المراد البحث له في الإسلام عن حلول، هي بالضرورة متوفرة لديه إن لم تكن بالنص الصريح وهي الأقل عددا فمتضمنة في المقاصد. ولو أن أحدا سأل هل في الإسلام حل للأزمة الإقتصادية التي تجتاح العالم بقيادة الفلسفة الراسمالية العلمانية الملحدة التي حولت الحياة بكل جوانبها مجالا لسيطرة حفنة من المرابين عبر شركات عابرة للقارات وظفت في خدمتها الدول والجيوش والإعلام والثقافة والسياسة، ودمرت البيئة؟ لقلنا نعم، بالأكيد في شرائع الإسلام ومقاصده القائمة على العدل واقتسام الرزق بين كل الأحياء حلولا. لو طبقت هذه الآية "والأرض وضعها للأنام " /الرحمن/ "سواء للسائلين " /فصلت/ما احتجنا لمؤتمرات المناخ التي منع الرأسماليون من أن تحد من نهمهم، إلى آيات وأحاديث كثيرة كلّها تؤكد على العدل بين البشر، وأن الله سبحانه خلق هذا الكون بكل خيراته ومدخراته للبشر بل للأحياء جميعا ، وتنهى عن الظلم والإحتكار والإفساد، وتتخذ من قارون وفرعون النّموذج الأفدح للإفساد السياسي والإقتصادي. لو أن جاهلا بالإسلام متهما إياه بالقصور عن حل مشكلات البشرية الإقتصادية مثلا "ألا يعلم من خلق" كلف نفسه عناء مطالعة كتيب صغير للعلامة القرضاوي"مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام"دون حاجة للمطولات، لانزاح عنه هذا الشك، فكثيرا ما يكون الناس أعداء ما جهلوا. إن الإسلام لم ينزل اليوم حتى نرتاب في قدرته على حل مشكلاتنا فقد جربته الأمة، لقرون مديدة وأنتج حضارة زاهرة، أدارت شؤون البشرية لأكثر من ألف سنة. صحيح أنها ليست مثالية فالجنة ليست في الدنيا، حيث العدل نسبي، ولكن التاريخ يثبت أن مجتمعات اسلامية في مراحل تاريخية كثيرة عرفت القضاء على الفقر حتى ما عاد للزكاة من متلقّ، هذا إذا تكاملت حلول الإسلام اندفاعا الى العمل بنيات إيمانية عبادية وقياما لنظام الأسرة المتضامنة وللحكومة العادلة غير النهابة وللمجتمع المدني الناهض المتحرر ولقضاء مستقل وشيوع ثقافة اسلامية تعلي من شأن العمل والإبداع ومخافة الله، وقيام شكل من الوحدة يوفر سوقا واسعة تقوم على الشراكة بين العمل وراس المال وليس على الإستغلال الربوي، ومحافظة على البيئة بدل تدميرها إرضاء لصنم الربح الذي تتعبد عنده الراسمالية، الى جانب نظام دفاعي كفء. وكل ذلك وأكثر في الإسلام. في شرائعه وقيمه ومقاصده حلول لكل مشكلات البشرية إذا توفرت العقول المؤمنة والارادات المصممة، وإذا فشلت تجربة هنا أو هناك بسبب غلو أو قصور أو جهالة عند هذا الشخص أو هذا الحزب أو تلك الدولة، فهي ليست حجّة على الإسلام، فليس في الإسلام كنيسة تحتكر النطق باسمه وإنما الأمة كلها هي المعصومة
وإذا كان المستقبل تجليا متطورا للواقع، ورغم رداءة هذا الواقع الذي صنع على الرّغم من الإسلام وعلى حسابه، السجون والمهاجر مزدحمة بدعاته، فإن المؤكد أن المستقبل بإذن الله للإسلام ودعاته، فعلى صعيد عالم الأفكار وهو مهم في قراءة المستقبل لم يبق في مواجهة الفكرة الإسلامية شيء مما كان يصارعه، وعمل على الحلول محله من شيوعية وليبرالية علمانية متطرفة وقومية منابذة للدين كلها نفقت وقد اختبرت على صعيد الواقع فتضاءلت أحزابها ولم يبق لشرعية دولها من سند غير العنف والظهير الأجنبي والإستظهار حتى بالعدو الإسرائيلي ولو كان الثمن بناء جدار فولاذي لإحكام الخنق على غزة حاملة المشروع الإسلامي والأمة وراءها. ما انتهى اليه المشروع العلماني في مصر من حال مقابل ما غزة الإسلام يجسد حال المشروعين الإسلامي والعلماني ويلقي الضوء على مستقبل كل منهما. صحيح أن المشروع الإسلامي بلا رأس غير الفكرة، وهو ما يورط تياراته الفائرة غضبا على ما يقترفه النظام الدولي وأتباعه في الأمة من كيد وإجرام، فتتورط في أعمال حمقاء، لا تفيد غير العدو، ولكن ذلك لا ينفي أنها هوامش في التيار الإسلامي يضخمها الإعلام ويمدها بالحياة القمع المحلي والدولي. الثابت أن ما يسمّى بالإرهاب يجد منابته الأساسية في البيئات المحرومة من الحرية المحكومة بأنظمة فاسدة مدعومة من الغرب بينما البيئة التركية مثلا لم تصلح منابت له.الثابت أن الحركة كسبت معركة الهوية كسبت معركة الرأي العام، ولذلك يتوقع الجميع أنه كلما توفرت مساحة من حرية التباري بين أنصار الفكرة الإسلامية ومنافستها العلمانية أن الحظوظ الأكبر للفوز إنما هي للفكرة الإسلامية. ومهما ظل الميزان الدولي يحول دون ترجمة ما هو تحت فيما هو فوق فلن يبقى ذلك الى الأبد فالغرب ليس قدرا، هزمنا جناحه الشيوعي وعلى نفس الأرض يختبر اليوم بديله الرأسمالي، المتوحل مع الإسلام وأمته لا يدري كيف يخلص مما اعتاد واستمرأ من تسلط على أمة الإسلام واستغلال، ولا التخلص من الأخطبوط اليهودي الماسك بخناقه والمانع له من إعادة التفكير في مصالحه باستقلال عنه، حتى ولو انتهى الأمر بقبوله مرغما على التعامل مع عالم اسلامي محكوم لا من بيضه المصنوعين على أعينه بل من سوده السكان الأصليين، وهو لا محالة كائن بإذن الله، إذ الغرب في النهاية عقلاني مصلحي، لا سيما وأن الإسلام بصدد تحوله معطى أساسيا في البنية الغربية بما سيجعل صاحب القرار ملزما بأخذ هذا المعطى بعين الإعتبار كلما كان بصدد اتخاذ قرار يخص الإسلام وأمته كما يفعل اليوم كلما كان بصدد اتخاذ قرار ذي علاقة باسرائيل أو باليهود، الأمر الذي أخذ يضيق به ذرعا. ذلك هو المستقبل كما يتبدى لنا والله أعلم.
س : من وجهة نظرك ما التحديات التي تواجه الحركات الإسلامية حاليًّا؟

ج: ماذا تعني بالحركة الإسلامية؟ يندرج تحت هذا المفهوم طيف واسع من الجماعات والشخصيات وحتى الدول، الذين يؤمنون بالإسلام عقيدة وشريعة شعائر وأخلاق دين ودولة، ويعملون بذلك في أنفسهم وفي محيطهم الخاص والعام حتى يسود هذا التصور ويعلو باعتباره كلمة الله الأخيرة ودينه الأمثل وصراطه المستقيم الهادي من اتبعه الى السعادة في الدارين، أوجبه سبحانه على عباده وهداهم بكل الرسل اليه وآخرهم النبي العربي محمد رسول الله عليهم جميعا صلوات الله وسلامه. فكل المنتسبين لهذا التصور والناذرين حياتهم ليسود في أنفسهم ومحيطهم أفرادا وجماعات جزء مما يعرف بالحركة الإسلامية. فما هي التحديات التي تواجه هؤلاء؟ كثيرة ولا شك، لأن أهدافهم جسام أن يغيروا عالما لا يسير في معظمه وفق هذا التصور بين قوى معادية له عن علم أو جهل وبين أخرى لا مبالية به،قوى لا يقتصر نفوذها على بلاد غير منتسبة للإسلام بل يتعداها الى معظم البلاد التي تنتسب اليه جهلا أو نفاقا فتشارك في الكيد له ولدعاته، وهو ما جعل الإسلام يعيش نوعا من اليتم والغربة بعد انهيار الكيان السياسي العقدي الجامع للأمة والناطق باسمها الذاب عنها يستمد من ذلك شرعيته. لقد نجح أعداء الإسلام في الإطاحة بذلك الكيان، فتشظى الإجتماع الإسلامي وتمزق شر ممزق، فتم اختراق الجامعة الإسلامية على كل المستويات وخصوصا في مستوى النخبة التي أمكن لأعداء الإسلام تنشئتها على أيديهم ومكّنوها على قلتها بالقياس لعامة الجماهير المؤمنة من مفاصل ومراكز القوة والنفوذ في عالم الإسلام فهي في واد والجماهير في واد آخر، وهذا هو التحدي الأول :انتاج نخبة اسلامية على كل صعيد، نخبة مؤمنة بالإسلام عقيدة وشريعة ناذرة نفسها لرسالته فكرا وعملا، بما يكفل استعادة الإجماع الغائب في الأمة في مجتمعات الإسلام بين النخبة والجماهير، فتكون القيادة في كل المستويات من الأمة تحمل تصوراتها وهمومها، فتطيعها عن وعي وحب لأنها تطيع نفسها، تطيع خالقها الذي أمرها أن تطيع قيادة منها"وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " وهي اليوم ليست منا بل علينا. إن من أكبر التحديات أمام الحركة الإسلامية انتاج نخبة اسلامية واسعة تغطي كل المجالات على أساس التصور المذكور حاملة لرسالة الإسلام في بسط هذا الوعي برسالته وتعبئة أوسع قطاعات الأمة وتوحيد صفوفها وراء الهدف الاعظم: تحكيم الإسلام في بلاد الإسلام بما يكفل ردم الهوة السحيقة القائمة في معظم بلاد الغسلام بين الدولة والأمة، وبما يحقق أقدارا ومستويات من الوحدة ومن التمثيلية الشعبية والتطبيق الإسلامي باعتبار الإسلام ووحدة أمته إيدولوجية الدولة والأمة. مشكلة الامة الكبرى والأولى اليوم أن الدولة ضد الامة كما ذكر أحد المفكرين. غياب دولة الامة بمعنيين: الدولة التي تحمل فكرتها والتي تمثل إرادتها، فلا تكون قطرية ولا علمانية ولا منافقة بالإسلام تستخدمه بدل تخدمه. يقف في طريق هذا الهدف الكبير ميزان قوة دولي متغلب، بعد أن نجح في هدم آخر كيان تمثيلي للأمة يقف حارسا بأساطيله الضخمة للحؤول دون قيامه مجددا، والامة منذ قرنين وهي تصارعه وتقاومه ولا تستسلم له رغم ميلان ميزان القوة المادية لصالحه ولكن بقوة معنوية تعززها قوى مادية بسيطة أمكن للامة أن تطرد من أرضها جحافل العدو المدججة بأعتى الأسلحة وشبابها المجاهد يطارد بقاياه، ولن يلبث حتى يدحرها بإذن الله . فالحرب قبل كل شيء صراع إيرادات واستعدادات للتضحيات، وإيرادات الأمة واستعداداتها للبذل في تصاعد وعلى الضد من ذلك معنويات العدو.
ومن التحديات الفكرية الداخلية فشو مذاهب التشدد في بعض أوساط الحركة الإسلامية بأثر رد الفعل والفقه البدوي الزاحف من الصحراء على الحقول الخضراء، ينشر التكفير والضيق بالخلاف والتعدد وما ينتج عن ذلك من تمزيق للإجتماع الإسلامي وتحارب أهلي بين المذاهب سنة وشيعة صوفية وسلفية، بما لا تبقى معه فضل طاقة لمحاربة العدو، ولطالما ما حذرنا صاحب الدعوة عليه السلام من تكفير المسلم وقتاله. ومذاهب التشدد منذ الخوارج ما كان له قتال معتبر وإثخان إلا في المسلمين. ومع أن التشدد صوته عال بفعل نفخ أبواق العدو فيه يبقى أقلية وسط التيار الإسلامي الواسع المعبر عن عموم الأمة بكل مذاهبها.
ومن التحديات الداخلية أيضا ضحالة الرؤيا الاستراتيجية العلمية في تحليل الأحداث والصراعات، بما يفسح مجالا واسعا لدى بعض الأوساط للتفسير التآمري والمذهبي الطائفي للأحداث فالعلماني أو الشيعي أو الامريكي أو اليهودي . دائما متآمر ووراء ما يحدث، حتى عندما تكون أسباب الحدث ظاهرة ولا علاقة لأحدهم بها، بما يضعف أو يعدم من النظر العلمي الموضوعي ومن وظيفة العقل في النقد والتمحيص ودور السّنن، ويجعل الفاعل المسلم دائما ضحية الغير، هذا إذا لم يكن الأمر أفدح بما يفسح أمام الرؤى من مجال لتفسير ما يحدث وفي التخطيط للتعامل معه.
وعلى صعيد التحديات السياسية الإستراتيجية يمكن اعتبار التحدي الإسرائيلي وتحالفاته أخطرها على المشروع الإسلامي وعلى مصير الأمة جملة فكل محاولة لتسويغ التعايش معه بدل مقاومته حتى انهائه وتخليص الجسم الإسلامي من سمومه هو التهلكة بعينها باعتبارها تعايشا مع كيان شرعية وجوده قامت ولا تزال على تفسيخ كيان الأمة، فهو عمى استراتيجي وخطيئة شرعية كبرى. بينما مقاومة هذا العدو الإستراتيجي المهدد لكيان الأمة بالتفسخ تمثل وظيفة أساسية من وظائف إحيائها على نحو أنه لو لم يكن هذا التحدي قائما لوجب استحداثه من أجل أداء تلك الوظيفة، بما يستفز قواها ويوحد صفها على اختلاف توجهاتها.
ويبقى التحدي الخلقي الروحي المتصل بجوهر الكيان الانساني والمقوم الأساسي لشخصية المسلم وعليه مدار سعادته في العاجل والآجل، فعلى قدرتحقق المسلم يقيمة التقوى، بمعنى الحضور اللإلهي الحي الفاعل في فكره وشعوره وسلوكه وعلاقاته يكون حظه من الإسلام وتكون منزلته عند الله سبحانه"تلك الجنة نورثها من عبادنا من كان تقيا"
وأخيرا وبالتبعة لكل ما تقدم من تحديات يمكن اعتبار الشورى من أهم التحديات التي تواجه الجماعات الإسلامية والأمة الإسلامية عامة هذا التحدي الذي كان أول الفشل والخلل في حياتها ومنه دخل الوهن والتفتت والضعف كل جوانب حياتها. فكانت صفين البداية حيث كان الحسم فيها للخلاف حول السلطة للسيف وليس للسياسة وشورى المسلمين، مذ ذاك وحتى يومنا هذا لم تنجح أمتنا في إدارة اختلافها راشديا أي من طريق الشورى والسياسة وليس من طريق القوة والغلبة حتى أفضت خشية الفقهاء من تبدد كيان الأمة جراء ما تفجر فيها من فتن بسبب غلبة منطق القوة على منطق السياسة وتعطّل قيمة الشورى، الى اللإقرار بالتغلب أساسا لشرعية الحكم كما سجلته المقالة الشنيعة المأثورة على الفقهاء"من ظهرت شوكته وجبت طاعته" وهو ما ظل يعمل ضعفا في الإجتماع الإسلامي، فساد التقليد في الفقه والجبر في الإعتقاد والصوفية الاساس لسلطة الشيخ في التربية، وكان الإستبداد في الحكم تاج كل ذلك ومغذي استمراريته، بينما أمكن لأهل الضفة الأخرى الغربية أن يعالجوا فكريا وسياسيا أنظمة الإطلاق عندهم بما نقل شرعية الحكم الى شعوبهم عبر آليات متفق عليها تنص عليها دساتير ديمقراطية، ظل المسلمون متجهمين لها الى حين بحكم مصدرها الأجنبي غافلين على شوراهم التي ظلت كسيحة بلا رجلين تمشي عليهما بما أفرغ معناها حتى حصرت في موعظة يلقيها شيخ جريئ على سلطان غشوم حبّذوها في السر، وكان حريا بهم الى اعتبارها حكمة نحن أولى بها ما دام ليس في آلياتها ما يصادم تعاليم ديننا بل ينقلها من النظر الى التطبيق. ومع ما حصل من تطور عام في الفكر السياسي للتيار العريض تيار الوسطية الإسلامية في اتجاه القبول بالنموذج الديمقراطي باعتباره بضاعتنا التي ردت إلينا والدواء الناجع القاطع لدابر علة المسلمين الكبرى الإستبداد، فلا تزال قيم الشورى الديمقراطية في الوسط الإسلامي لم تترسخ بالقدر الكافي في الثقافة الإسلامية نظرا وممارسة وهو ما يفسر تعسّر الإدارة الحضارية لما ينجم من اختلافات هي من طبيعة البشر إن على صعيد الدول الإسلامية أوعلى صعيد الجماعات الإسلامية بسبب عدم التمييز الدقيق بين ثوابت الدّين التي لا يجوز الإختلاف حولها وهي محدودة وواضحة وبين مواطن الإجتهاد والسياسة مما يجوز حوله الإختلاف، الخلط بين المجالين كثيرا ما كان مبررا وسندا إما للتحجر والضيق بالخلاف ومصادرة الرأي أو دافعا الى التمزق والإنشقاق، وما حصل في التجربة السودانية والأفغانية والإيرانية والصومالية والجزائرية والمصرية وغيرها من تمزق للصفوف لدرجة تحارب الإخوان. هو نتيجة من نتائج الفشل في مواجهة تحدي الإختلاف الذي ابتلانا الله سبحانه به " وكذلك جعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون؟" وأمرنا أن نصبر على إدارته شوريا "وأمرهم شورى بينهم"
س : ما الأولويات الرئيسية التي يجب أن تركز عليها الحركات الإسلامية فى الوقت الحالى؟
ج:لقد أصّل شيخنا القرضاوي فقه الأولويات منطلقا من الكتاب والسنة، سواء أكان ذلك في مستوى عقائد الإسلام فهي متفاضلة في الأهمية وعلى رأسها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، أم كانت في مستوى الأركان والواجبات والمحرمات ففيها أولويات. وما من شك في أن تبليغ ذلك الى الناس من أولويات الحركات الإسلامية، بما يحقق صلاح الناس في أنفسهم، عقيدة وعملا، وتأهيلهم ليكونوا مصلحين لمن يليهم من أسرة وجيران وأصحاب. أفرادا وجماعات وإن من أولويات الحركة الإسلامية بعد ذلك مواجهة التحديات المذكورة سالفا.

س : انتم متهمون بالرغبة فى تحويل الوطن العربى الى جزء من دولة الخلافة، وأن برنامجكم الحقيقي هو تطبيق الشريعة تحت شعار "الإسلام هو الحل".. ما ردك؟
ج: تهمة لا نبرأ منها، ليتنا نستطيع ذلك أو حتى شيئا منه. ولكن للأسف ذلك ليس متاحا، فالقوى الدولية التي أسقطت آخر مظلة استظل بها المسلمون، الخلافة العثمانية وفارضة التمزق على الأمة في حوالي ستين دولة هم قائمون على حراسة تلك الشظايا لمنعها من التوحد وحتى التقارب مجددا. نحن على أتم اليقين أن الإسلام وحده هو الحل لمشكلات أمتنا بشرط أن يفهم على حقيقته ويطبق بجد كما طبق لعصور طويلة وإن مع نواقص. انظر فيما سبق
س: بصراحة شديدة كيف تقيم تجربة الحركات الاسلامية التى وصلت للحكم سواء ما حدث فى اليمن او الاردن او العراق وفلسطين والمغرب وتركيا، والسودان، والجزائر واخرها الصومال؟
ج:عموما ليس في هذه التجارب ما هو مشجع وناجح غير التجربة التركية التي لا تعلن أصلا انتسابها للإسلام بفعل القيود العلمانية سواء ما كان منها دستوريا أم ماكان ضغطا من قبل مؤسسات مدنية وعسكرية. ولكن ذلك لا ينفي الصفة الإسلامية عن القائمين عليها فهم أبناء المشروع الإسلامي ومشروعه الحضاري. ربما الإرتباطات التركية الأروبية ساعدت على ولادة ونمو وترسخ ثقافة ومؤسسات ديمقراطية في البلد نسبيا في الأقل. مثل التعددية والانتخابات النزيهة والصحافة الحرة بما حقق التبادل السلمي للسلطة مما لم يتحقق في عموم البلاد العربية ربما بسبب حساسية الموقع وضخامة الثروات ووجود الكيان الصهيوني ، كلها حالت دون ولادة حكومات تعكس ارادة الشعوب. وما حصل في الجزائر وتونس وفي فلسطين وفي مصر من قمع لأي تحول ديمقراطي يعبر عن العائق الغربي للديمقراطية في منطقتنا، المنطقة التي فرضت تجزئتها بما حال والعرب أن تكون لهم دولتهم مثل ما للفرس وللترك.
وفي نطاق التجزئة لم تكن للتجربة السودانية حظوظ كبرى للنجاح فقد نشأت في قطر لم يحقق بعد وحدته الوطنية ممزقا بين أعراق وقبائل وطوائف، بما قلل حظوظه في النجاح حتى الآن وجعله مسرحا للحروب الأهلية وأرضا منخفضة لرياح التدخلات الإقليمية والدولية، والأمر في الصومال أو افغانستان أو العراق أشد تعقيدا فهذه دول تحت الإحتلال المباشر الذي زاد من ضعف بنيتها الداخلية المجتمعية ودفعها الى المزيد من التمزق والتحارب الأهلي.
أما التجارب الأخرى في الأردن أو الجزائر او اليمن فهي تجارب مشاركة في حكم شمولي وسلطة مطلقة للجيش (الجزائر) او للرئيس (اليمن) أو للملك(الأردن) وفي ظل الحكم المطلق يغدو الحديث عن مشاركة في السلطة غير جاد في الحقيقة، بقدر ما هو تبييض وتزيين للواجهة وحتى اسهاما في خداع الناس وتضليلهم بدل توعيتهم بخطر هذه الخدمة وتحريكهم للضغط عليه حتى يخضع لإرادة الناس أو ينسحب غير مأسوف عليه .
س: من وجهة نظرك ما الأسباب التى دعت بعض الحركات الإسلامية للإتجاه للعنف فى التعامل مع قضايا المجتمعات العربية والاسلامية؟
ج: ردا غير متبصر على العنف الرسمي ،عنف النظام الدولي الكائد للمسلمين، وعنف الأنظمة الدائرة في فلكه، الأنظمة التي سدت كل منفذ للتعبير وللتنظيم العلني ،مستبيحة الأموال العامة وحتى الخاصة منتهكة حقوق الناس دماءهم وأعراضهم. ولأن العنف ظاهرة اجتماعية ونفسية مركبة فلا غرو أن تشترك في توليده عوامل أخرى أقل أهمية تتعلق بعالم الأفكار والمعتقدات والقيم التي يحملها المرشح للعمل العنيف ولكن ليس في كل الأحوال بل عندما تتوفر الظروف المجتمعية الملائمة التي ذكرناها، عندها يتفجر العنف بإعتباره ظاهرة عامة، فإذا لم تتوفر تلك الظروف يمكن للعنف أن يوجد ولكن حالات خاصة محدودة، لاتمثل تهديدا سياسيا ومجتمعيا، وهذا ما يفسر لماذا تفشى العنف في مجتمعات بينما ظل في مجتمعات أخرى ظاهرة محدودة متأثرة بالحالة الفكرية والنفسية لمقترفه، وربما تكون لا ذات علاقة مباشرة بالوضع المجتمعي بقدر ما هي مرتبطة بتصور الفاعل لموقعه ودوره بإعتباره مثلا مناضلا في حركة أممية مثل الحركات اليسارية أو الفاشية أو الإسلامية. من هنا نفهم لماذا كان تفشي ظاهرة العنف محدودا في مجتمعات مثل تركيا وماليزيا. بينما كان واسعا في مجتمعات عربية حيث تتوفر أسبابه الإجتماعية والسياسية. وقد يتغيرالأمر بحسب ذلك في المجتمغ الواحد، فالمجتمع الجزائري مثلا لم يعرف ظاهرة العنف إلا عقب الإنقلاب على خيار الشعب وخروج الدبابات تدوس على صناديق الإقتراع. وتفشى ظواهر النهب والقمع. وهي الظواهر المتوفرة في كل المجتمعات العربية بفوارق نسبية، يضاف إليها تفشي رأي عام ناقم على سياسات هذه الدول لتقصيرها الذي يبلغ حد التواطؤ في القضية المركزية للأمة وللعرب خاصة قضية فلسطين. إن الحصار الكارثة الذي يفرض على غزة لدرجة بناء قبر فولاذي حولها من المستبعد جدا أن لا يفجر أمواجا من الغضب الشعبي إن لم يفجر العنف مجددا الذي تفجر في مصرمثلا عقب تضييق الخناق على العمل المدني الذي كانت تقوم به الجماعة الإسلامية وإطلاق العنان لأجهزة القمع في ملاحقتها، وصاحب ذلك تخلي الدولة في كامب ديفد عن القضية الفلسطينية، وما أدى إليه ذلك من اغتيال السادات. إلا أن ما عرفته السياسات المصرية بعده من عودة الى موقف متوازن في هذه المسألة أسهم في محاصرة العنف. وذلك قبل أن يعود في السنوات الأخيرة الى الخضوع للإملاءات الخارجية حرصا منه على تلبية مطالب الأسرة الحاكمة، بما يضع المجتمع أمام خطر التفجر مجددا.
لا شك أن لعالم الأفكار تأثيرا في اندلاع العنف ولكن عزل الأفكار عن الواقع مثالية وجنوح عن الفكر العلمي وهروب من السؤال: من أين تنبع الأفكار؟ ليس لها من مصدر غير أن تنزل من السماء أو تنبع من الأرض . وسواء هذا أم ذاك يبقى السؤال لماذا تظل أفكار تحرض على استخدام القوة في الوصول الى الأهداف مطوية في رفوف الكتب زمنا طويلا ثم فجأة تتحرك؟ لقد بذل منظّروا الحرب ضد الإسلام من اليمين الصهيو محافظ في الولايات المتحدة وأتباعهم حاولوا جاهدين إقامة علاقة ضرورية بين ظاهرة العنف ومفكرين اسلاميين قدامى ومحدثين مثل ابن تيمية وابن عبد الوهاب أو مدارس دينية بلغ حد توجيه التهمة الى التعليم الديني في الباكستان وغيره، وانبنى على ذلك اتهام عام لكل برامج التعليم الإسلامي في بلاد الإسلام فبدأت عملية واسعة لإعادة النظر فيها لإلغائها جملة أو التخفيف منها أو تخليصها مما اعتبروه مواد ملتهبة مسؤولة عن اندلاع العنف مثل مادة الجهاد. ولم يكلف هؤلاء أنفسهم عناء السؤال الذي سيعيدهم الى واقع هم هاربون منه: لماذا ظلت هذه المواد الدينية وكتب هؤلاء المؤلفين المتهمين بأنهم آباء العنف، لماذا ظلت لعهود طويلة تزدحم بها المكتبات وقد تدرس هنا أو هناك دون أن ينسب إليها قط أنها تحولت الى مادة غذائية لحركة جهادية؟ بينما هي تحركت في زمن آخر وتحولت الروح المحرك لحركة جهادية ؟ لا تفسير ولا جواب علميا دون الرجوع الى الواقع وما حصل فيه من تطورات نفضت الغبار عن تلك الأفكار لتلبي طلبا صدر عن الواقع وحاجة من حاجاته. ويوم يتجاوز الواقع بطريقة أو أخرى تلك الحاجات يعود الخمول لتلك الأفكار. إن أفكار المفكرين- هي من منتجات الواقع لتلبي حاجة من حاجاته، فإذا تغيرت معطياته تنسحب من حركة الواقع من التاريخ وتظل مثل عرائس الشمع جامدة حتى تنفخ فيها مطالب واقع مشابه روحا جديدة تهبها الفعالية أو بذرة تنتظر الملائم من الغيث والتربة والمناخ والعناية. ففي الواقع ينبغي البحث عن جواب لهذا السؤال : لماذا نجحت هذه الفكرة في استحداث واقع وفشلت أخرى. هداية الله سبحانه ذاتها لا تثمر إلا أن تلاقي تربة صالحة "إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار"

س: كيف يمكن دمج الحركات الاسلامية بالأنظمة؟
ج- دمج الحركات الإسلامية في مجتمعات غير اسلامية ليس مطلوبا ولا صالحا بل هو كارثة، وهو من أشد الأخطار المتربصة بها، هي أشد عليها من رفض الأنظمة لها واستهدافها بالإقصاء والاستئصال، لأن العقائد لا يفنيها القمع بل هو حري بتأصيلها، مع أنها ما ينبغي أن لا تسعى اليه أو ترغب فيه بل يجب عليها توقيه ما وسعها ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تطلبوا لقاء العدو ولكن إذا لقيتموه فاسألوا الله الثبات" المسلم يألف ويؤلف. والمسلم القوي هو الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم"كما نبه الى ذلك صاحب الدعوة. والدعوة الإسلامية تطلب السلم مع مجتمعها باعتباره الأصل في علاقة المسلم بغير المسلم ، وليس العداوة والحرب، شريطة أن لا يكون الثمن تنازل المسلم عن دينه وكرامته. إن أصحاب العقائد معرّضون للبوار والإندثار إذا هم أخذوا يساومون على مبادئهم رغبة في التأقلم والإندماج في الواقع القائم إذا كان مصادما لمبائهم وقيمهم. تغيير ذلك الواقع وليس الإندماج فيه هدفهم ومبرر وجودهم "كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" خيريّتهم إنما جاءت من رسالتهم التغييرية لواقع فاسد وليس الإندماج فيه. أما إذا كان الواقع صالحا فقد تحقق المطلوب. وجود الحركة الإسلامية مبرره واقع فاسد مطلوب للتغيير فتكون الحركة الإسلامية الأداة ، فإذا اندمجت فيه الإندماج الذي يحولها جزء منه فهو الخسران المبين. يا أهل العلم ياملح البلد ما يصلح البلد إذا الملح فسد؟
ولا يحسبن أحد أن هذا الخطر، خطر إندماج الحركة الإسلامية في واقع فاسد جاءت لتصلحه وانتهى بها الحال جزء منه، أنه خطر موهوم، كلا بل هو أشد خطرا عليها من استهدافها بالإستئصال. والأمثلة كثيرة من حركات التغيير الإسلامية وغير الإسلامية التي انتهى أمرها الى اندماج في واقع طالما بشرت بتغييره وبذلت التضحيات الجسام من أجل ذلك، وإذا بسنن الله في التغيير المضاد تعمل فيها عملها دون انتباه كاف منها للتصدي بإستراتيجية مضادة، إذ الواقع كما يقول علماء الإجتماع يدافع عن نفسه، ولكم حذر القرآن الكريم والسنة النبوية المؤمنين من العودة الى الجاهلية عقائد وأخلاقيات، وهو ما حصل على مر التاريخ. وكم من حركة ثورية يسارية اشتراكية ناضلت لأمد بعيد وبتضحيات جسام، من أجل تقويض الراسمالية وبناء علاقات عادلة، انتهى بها الأمر الى الإندماج في الواقع الراسمالي حتى تحولت سمادا في تربته وخادما مطيعا له. وكم من حزب إسلامي أسسه علماء مثل حزب الإستقلال في المغرب والدستور في تونس انتهى جماعة علمانية، لا تكاد تختلف في شيء عن الأحزاب العلمانية الأصلية. وفي أكثر من تجربة لحزب إسلامي معاصر شارك في نظام للحكم فاسد بقصد إصلاحه، ما لبث الفساد والتنازع عن المغانم أن أنشب أظفارهما في أبنائه وقياداته فتنازعوا ولم يتورعوا حتى عن اضطهاد بعضهم بعضا ليس بأقل مما يفعله العلمانيون .
وإذن فاندماج الحركة الإسلامية في الواقع على إطلاقه، ليس هدفا مشروعا بل هو من أشد الأخطار المتربصة بها بالمعاني التي ذكرنا.
أما إذا كان قصدك من الإندماج في الواقع حسن التفاعل الإيجابي معه وتجنب الصدام ما أمكن أقصد الصدام العنيف، أما ما دون ذلك من مستويات الصدام فكثير منها من مستلزمات حركات التغيير وخصوصا الصدام الفكري وسائر ضروب الصدام المدني، إذا كان القصد من الإندماج تأسيس علاقات وفاق مع مخالفينا تقوم على مواثيق واعتراف متبادل بين الحركات الإسلامية وبقية القوى الأخرى القائمة من نظام سياسي وأحزاب وجماعات، قد تبلغ حد التعاون على ما فيه مصلحة عامة، ودفع للمفاسد، على أي صعيد سواء أكان على صعيد المجتمع أم كان على صعيد الحكم بالمشاركة فيه. فكل ذلك مباح وقد يكون مطلوبا مرغوبا ما دام محققا للمقاصد العامة وللصالح العام وليس فيه تنازل عن مبادئنا وقيمنا، إذ التعدد سنة كونية واجتماعية "ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة" وندر وجود مجتمع خالص لدين واحد أو مذهب واحد، بما يفرض البحث الجاد عن إدارة حضارية للإختلاف بها تتميز المجتمعات المتقدمة عن المتخلفة. ولقد ضرب القائد المعلم صلى الله عليه وسلم مثلا لما يجب أن يكون عليه أهل كل مجتمع من تعاون يجلب المصلحة للجميع ويدرأ عنهم المفاسد، إن حالهم يشبه المرتحلين على سفينة، مصيرهم مشترك، بما يفرض عليهم التعاون على صيانة السفينة من كل خرق وإلا هلكوا جميعا.
س : البعض يرى ان الحركات الإسلامية كانت السبب الرئيسى وراء موجات العنف خلال العشرين عاما الماضية؟
ج:هذا من قبيل ما أدمن عليه سحرة الفرعون لسان حال المستبد من تجريم وإدانة الضحية وتبرئة لساحة الفرعون المسكين المعتدى عليه.
1- لا يختلف النظر الموضوعي للأنظمة العربية في أنها أنظمة مستبدة فاقدة للشرعية الشعبية التي تتقوّم في زمننا بالعملية الإنتخابية الديمقراطية التعددية، فبقدر وجود هذه الآلية واحترام نتائجها في نظام، بمنآى عن كل غش وإقصاء، بقدر ما يكون شرعيا وعادلا مرضيا عنه من قبل الغالبية من شعبه، والعكس بالعكس. وواضح من واقع هذه الأنظمة أنها موزعة بين صنفين : صنف لا يقر بهذه الألية أصلا، أساسا لحكمه، وصنف آخر يقر بها شكلا وينتهك جوهرها. ومعنى ذلك أننا إزاء وطن عربي محكوم بالعنف، بأنظمة بوليسية تصادر أرادتنا وتنتهك كرامتنا وتنهب ثرواتنا وتفرط فيما تبقى من استقلالنا وتستظهر علينا بالظهير الأجنبي، حتى بالصهيوني. وإذن فتهمة العنف متلبّس بها هذا الحاكم العربي، وشعبه- بكل توجهاته- الضحية. ولو أن معارضيه لجؤوا الى وسائل العنف رد فعل على ما هو مسلط عليهم من عنف رسمي، لكان رد فعلهم مفهوما، بصرف النظر عن مشروعيته وجدواه. وهو ما يفرض علينا البحث عن العنف الأصلي الإبتدائي أعني العنف الرسمي لتحميله المسؤولية الأعظم عن العنف الأصلي، قبل أن نتجه بالإدانة الى عنف الضحية رد فعل.
2- ليس التيار الإسلامي وحده هو من إختص دائما بالرد العنيف على عنف الدولة، فقد مارست ذلك معظم تيارات المعارضة إن لم تكن كلها في فترات صعودها وازدهارها، بسبب ما لاقته من صدود وكبت وقمع. مارسه اليساريون تحت شعار العنف الثوري. ومارسه القوميون عبر الإنقلابات وغيرها. وفي الأربعينيات من القرن الماضي كان مألوفا في مصر مثلا أن يكون للأحزاب أجنحة عنيفة حتى اللبرالية منها.
3- ومع ما سلط على التيار الإسلامي من مستويات للعنف غير مسبوقة بسبب أنه المعارضة الأساسية المعتبرة تهديدا للأنظمة الفاسدة، فإن جماعات العنف في الحركة الإسلامية هي أقليات محدودة، لا تمثل تيارها العريض المعروف باعتداله ووسطيته وحرصه على العمل في إطار القوانين حتى وإن تعسفت عليه وحابت خصومه، وهو ما يجعل القضية الحقيقة والعقبة الكؤود في طريق مجتمعاتنا لإكتساب الحرية والكرامة: أهم مقومات النهوض والتطور الحقيقي والإندراج في ركب التحولات الديمقراطية التي اجتاحت العالم عدا الثقب العربي الأسود، لا تتمثل في الحركة الإسلامية وما تمارسه بعض أجنحتها من عنف محدود،غالبا هو رد فعل على العنف الرسمي ، المشكل الحقيقي ليس في عنف الحركة الإسلامية المدعى ولا في عدم اقتناعها المزعوم بالحلول السلمية والديمقراطية، وإنما في أنظمة القمع المدعومة دوليا، من يقنعها بالتواضع والنزول عند حكم الناس. والإحتكام للناس في مجتمعات إسلامية يعني من بين ما يعنيه الإحتكام للإسلام. ويعني المساواة بين الناس ومنع المال أن يكون دولة، واعتبار أمهات الأمور شورى بين الناس، وتوحيد صفوف الأمة وتحرير أرضها من الإحتلال. وكل ذلك مما يكره الحكام وظهيرهم الدولي، ولا سبيل لهم لضمانه دون فرض القهر والكبت على شعوبنا.
4- ثم إن العنف سلاح الأقلية الضعيفة. ولماذا تفكر الحركة الإسلامية في العنف والرأي العام معها، بشهادة كل انتخابات تحمل قدرا من النزاهة، بينما الأقليات من أجل أن تحكم وتستمر في حكمها لا مناص لها من العنف. والوطن العربي اليوم محكوم من طرف أقليات تشبه الأقلية البيضاء الهالكة في جنوب افريقيا لولا أن القوم من جلدتنا الجرباء. وكل ذلك يشهد على أن موطن الداء في أمة العرب هو استبداد الحكام وليس عنف هذه الجماعة أو تلك، فهذا النتيجة وليس السبب.
5- يشهد على ارتباط تفجر العنف في مجتمع بوجود صنوف من المظالم تحكمه، أن ما يسمى بالإرهاب اليوم إنما تفجر وتفشى في مجتمعات محكومة بأنظمة قاهرة اتخذت من الدولة أداة لقمع مواطنيها الأحرار ومن البلاد عامة ملكية خاصة بالأسرة الحاكمة، بينما البلاد التي يقوم فيها الحكم على التراضي بين الحاكم والمحكوم عبر آليات الشورى الديمقراطية المعروفة تعيش أوضاعا طبيعية الصحافة حرة والإنتخابات دورية نزيهة لا يقصى منها طرف بما يحقق التداول السلمي للسلطة، والقضاء مستقل، مثل تركيا وماليزيا وأندونيسيا . هذه البلاد مستقرة، التيار الإسلامي فيها معترف به، سواء أكان معارضا في البرلمان أم مشاركا، مثل هذه البلاد بمنجاة من العنف، وحتى إذا وجد شيء منه يكون هامشيا معزولا والنهب للثروات العامة.
6-الساحات التي كانت مسرحا للعنف الواسع بين الدولة وبين جماعات إسلامية هي التي انحدر فيها الحكم الى دركات خطيرة من المظالم من مثل الإنقلاب على خيار الشعب في الجزائر حيث خرجت الدبابات وسط هتافات علمانية محلية ودولية تسحق صناديق الإقتراع التي شهدت بفوز الإسلاميين. وتم شبيه به في تونس عقب انتخابات 1989 التي فازت فيها حركة النهضة فاستهدفت بالإستئصال. والأمثلة متعددة.
س: هناك اتهامات متكررة لكم باجراء حوارات سرية مع الادارات الامريكية المتعاقبة .. ما مدى صحة هذه الاتهامات؟
ج:كثير من الأنظمة بحكم استعاضتها للشرعية الشعبية بشرعية الدعم الخارجي أمريكيا وصهيونيا واروبيا فإنها غدت مصابة بمرض يشبه الهلوسة والكابوس المقض لمضجعها وكأن الكارثة وشيكة الحصول في كل لحظة وتتمثل في إشاعة هنا أو هناك مهما كانت بعيدة عن التصديق فحواها أن لقاء حصل بين هذا المعارض أو ذاك من معارضيها مع مسؤول أمريكي كبير أوصغير حتى وإن يكن صحفيا، وحتى ولو كان هذا المعارض اسلاميا رغم يقين هذه الأنظمة من أن الود ليس حاصلا بين الإسلاميين عموما وبين السياسة الأمريكية التي يعلم الجميع أنه مصنوعة في مطابخ صهيونية، ترى في الخيار الإسلامي حتى وإن يكن في الصين خطرا عليها سيصب خراجه يوما في القدس. لقد بلغ الخوف المرضي لدى هذه الأنظمة من أي اتصال امريكي أو غربي مع أحد معارضيها حد الهلوسة والإستعداد للبطش بالمعارض المتهم دون دليل، ما حمل بعض الحركات الإسلامية مثل اخوان مصر على مصادرة ذاتية لحق من حقوقهم في الإتصال بأي جهة دبلوماسية في بلدهم باعتبارهم هيئة سياسية على غرار بقية الهيآت السياسية، فطفقوا يكررون أنهم لن يتصلوا بأي بعثة دبلوماسية إلا بحضور ممثل عن الخارجية المصرية ليشهد على براءة هذا الاتصال وخلوّه من أي صفقة لتولية الاخوان على عرش مصر، وذلك إدراكا منهم لحالة الهلوسة التي يعيشها. أذكر أنه لما سافر الشيخ عمر الى الولايات المتحدة كتب رئيس تحرير الأهرام افتتاحية مطولة يتهم فيها الولايات المتحدة بعقد صفقة مع الشيخ عمر لتولية الجماعة الإسلامية ملك مصر. إن اتصال بين الأحزاب وبين البعثات الدبلوماسية المعتمدة في بلدها أمر معتاد وعرف متبع وليس هو بالتهمة. وفيما يخصنا كنا- قبل أن تشن علينا حملات الاستئصال بسبب نجاحنا في الانتخابات- ندعى وزملاؤنا من الهيآت السياسية الى لقاءات مع الدبلوماسيين المعتمدين أو البعثات الزائرة. فما المشكل في ذلك حتى يتحول الى تهمة يتوارى منها المرء ويستتر؟
س: كيف ترى اليات التغيير فى الوطن العربى؟
ج: لاتبدو في هذا الثقب الأسود من العالم فرص كثيرة للتغيير الديمقراطي عبر ما متعارف من الأساليب السلمية المتمثلة في صناديق الإقتراع، وذلك بسبب إحكام الإستبداد قبضته مدعوما بميزان قوة دولي متغلب لا يجد من مصلحته وجود حكومات في هذه المنطقة الحساسة تمثل شعوبها، التعامل مع حكومات منبتة عن شعوبها أيسر إذ تكون عادة طيعة مستجيبة للإملاءات الخارجية لضمان دعمها، وما حصل مع حماس شاهد. صناديق الإقتراع في هذه المنطقة غائبة أصلا أو مفرغة مكفوفة عن جوهر مهمتها تحقيق تداول السلطة وإفراز الشرعية. وهذا ما فتح أبواب العنف سواء عبر الإنقلابات أم من طريق العنف الشعبي، والتجربة أثبتت كارثية كل منهما، الأول لئن نجح في استلام السلطة في معظم بلاد العرب إلا أنه فشل فشلا ذريعا في إدارتها إدارة ديمقراطية أو تحقيق شيء مما وعد من تحرير فلسطين أو التنمية أو توحيد بلاد العرب، بل انتهى الى الضد بالكامل مما وعد :طبّع مع العدو الصهيوني وكرّس التجزئة لدرجة بناء الجدران الفولاذية، وحول الدولة مزرعة لعائلة حاكمة وغدا التوريث في أنظمة جمهورية النموذج المتبع. والجدير بالملاحظة أن فرص التغيير عبر الإنقلاب قد تضاءلت جدا في الثقافة السياسية السائدة اليوم، وهو ما واجهه في موريطانيا انقلاب ولد فال ثم انقلاب خلفه ولد عبدالعزيز.
ولم يكن لمحاولات التغيير من طريق الجماعات المسلحة حظ أسعد بل لم يكن له من نتيجة غير التمكين أكثر للأنظمة الإنقلابية أن ترسخ أقدامها وتحكم قبضتها على رقاب الناس بذريعة حمايتهم من الإرهاب. وكشفت التجربة المتكررة لإستخدام عنف الجماعات ضد الدول عما تتوفر عليه الدولة الحديثة المدعومة دوليا من إمكانات للعنف غير محدودة قادرة على البطش بأي عمل شعبي مسلح.
هل من سبيل للتغيير عبر المشاركة ضمن المساحة الصغيرة التي تفسحها بعض الأنظمة ؟ التجربة كشفت أن المشاركة قي سياق الأنظمة الفردية القائمة لم تجد شيئا في تغيير طبيعتها بنقلها من أنظمة إطلاق وفساد الى أنظمة دستورية إرادة القانون فيها والشعب أعلى من إرادة الحاكم، وهو ما جعل المشاركة في إطار هذه الأنظمة تضفي الشرعية على أنظمة غير شرعية دون أن تدفع خطوة نحو تغيير طبيعتها الفوقية المتسلطة، بل قد تفضي الى التغيير المضاد أي إفساد المشاركين الذين حدثوا أنفسهم بإصلاحها.
هل تكون بذلك سبل التغيير قد أقفلت وقذف بمفتيحها في لجج البحار؟ كلا فالغرب الداعم لهذه الأنظمة ليس الها يقول للشيء كن فيكون بل هم بشر ممن خلق تأتي عليه من القوة وأخرى من الضعف وهو اليوم متورط في أكثر من ساحة من ساحات العالم ولا يدري لنفسه مخرجا بما يحد من قدراته على إسعاف أتباعه، إذا عرفت قوى التغيير كيف تؤزم الأوضاع المتجهة من تلقائها الى التأزم باثر السياسات الخرقاء للأنظمة، وتقديم البدائل المعقولة على صعيد السياسات وعلى صعيد النخب البديلة بتأسيس جبهات تمثل الجماعة الوطنية بكل أطيافها الإسلامية والعلمانية. فإذا جمعت رأيها وصفها على التغيير ونجحت في تحريك الشارع عبر المسيرات والإعتصامات والإضرابات وثبتت على ذلك غير هلعة من موالاة التضحيات في الشارع بدل دفعها بالتقسيط في مسالخ التعذيب، فلن تجد الأنظمة مسوغ لإستصراخ أوليائها في الغرب المشغولين بأنفسهم. والحاكم الذي يفقد سلطته على الشارع لن يرسل اليه أحد بجيش من البوليس لمساعدته. ولم يعد مقبولا في الثقافة السياسية المعاصرة وفي زمن الفضاء المفتوح الضرب بالملآن في الجماهيرالمتظاهرة سلميا النظام الذي يتورط في ذلك يكون قد أجهز على نفسه إذا كان في مواجهة معارضة مصممة على التغيير ودفع ثمنه. غير أن هذا النهج من التغيير هو ما تبقى من سبيل وهو السبيل الي انتهجته كل الشعوب التي أطاحت بدكتاتورياتها خلال العقدين الأخيرين ،هذا الجهاد السلمي يحتاج من بين ما يحتاجه الى ثقافة تؤصّله وتؤسسه على أنه أفضل الجهاد حسب التعبير النبوي والجهاد الكبير بتعبير القرآن الكريم السلمي "وجاهدهم به جهادا كبيرا"هذه الثقافة ضحلة في فكرنا الإسلامي السني الذي لم يعرف غير سبيلين في مواجهة الظلم والطغيان:سبيل الخروج المسلح الذي كانت نتائجه غالبا كارثية بما حمل الفقهاء الى الإنتهاء الى سده وحظره غير مستبقين أمام المسلمين في مواجهة الطغيان غير الصبر والخضوع، حفاظا على وحدة الجماعة وسدا لأبواب الفتنة وذلك مقابل التزام الطاغية باحترام ظواهر الشرع والدفاع عن الثغور، إلا أنه حتى لما تراجع الحاكم عن هذا الإلتزام فخرق قواطع الشريعة واستسلم للأجانب استمر العلماء على منح الشرعية للطغيان. وكان يسعهم أن يبتغوا سبيلا آخر غير سبيل الخروج المهلك أو سبيل الطاعة بلا مقابل حقيقي للأمة، هو سبيل الثورة الشعبية السلمية، وهو السبيل الذي ارتبط في تراث الإسلاميين بالفوضى والهرج والتخريب وتهديد السلم الإجتماعي وذلك ما يفهم من كلمة الثورة في أدبيات أهم مؤسسي الحركة الإسلامية الإمام حسن البنا. لقد انتهت تجربة الإسلاميين في معظم الخط الوسطي العريض الى الإعراض ظهرييا عن سبيل الإنقلاب وسبيل العنف الشعبي غير مستبقين غير سبيل التغيير عبر صناديق الإقتراع، وهذا قد سده وتحكم فيه لدرجة العبث الطغيان، بما جعل المشاركة المحدودة المحسوبة تشبه شهادة الزور تقدمها الحركة الإسلامية للطغيان شاهدة له بشرعية مزورة، وهو ما يعني الإنتهاء الى مأزق، فقد اختارت سبيلا للتغيير سده الطغيان في وجهها، وسدت هي على نفسها طرقا سلكتها أمم أخرى مثل سبيل التغيير عبر الثورة الشعبية وهو ما دعا اليه القانوني الكبير المفكر الإسلامي طارق البشر في مقاله الشهير"أدعوكم الى العصيان المدني" فهل من مجيب؟
- حوار أجراه الصحفي عامر محمود لصحيفة الأحرار المصرية بتاريخ 25 ديسمبر 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.