رئيس الدّولة يؤكد على الخيارات الكبرى لمشروع قانون المالية للسنة القادمة    إيران تعلن مقتل قادة عسكريين وعلماء نوويين إثر "الهجوم الإسرائيلي"    إسرائيل تهاجم إيران ودوي انفجارات قوية في العاصمة طهران    قافلة العدالة لفلسطين تجوب أوروبا للضغط على حكوماتها    طقس الجمعة: ارتفاع طفيف في درجات الحرارة    صابة الحبوب في تونس: تجميع2.186 مليون قنطار إلى غاية11 جوان    وصول باخرتين سياحيتين إلى ميناء حلق الوادي تقلّان قرابة 9500 سائح    عاجل: قوات الأمن بسلطات شرق ليبيا توقف سير قافلة الصمود    مع ابقائه رهن الإيقاف.. تأخير محاكمة الصحبي عتيق    السلطات الهندية تكشف حصيلة جديدة لضحايا الطائرة المنكوبة    حجز أكثر من 5 أطنان من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك..    عدم سماع الدعوى في قضية مغني الراب "سامارا" المرفوعة من قبل منظم حفلات    أحمد السقا يتحدث عن طلاقه وموقفه "الغريب" عند دفن سليمان عيد    شارع القناص:فسحة العين والأذن يؤمّنها الهادي السنوسي.. المحرار التلفزي ...«الحوار» تعشق ألعاب النّار... و«الوطنية 2» خارج المدار    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    خطبة الجمعة .. رأس الحكمة مخافة الله    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    جندوبة: المستشفى الجهوي بجندوبة يعلن عن انطلاق عمله بتقنيات جديدة تتيح التذويب المبكّر الجلطات الدماغية عن بعد    هل تعبر "قافلة الصمود" شرق ليبيا نحو مصر: وزير الخارجية الليبي يحسمها.. #خبر_عاجل    لأول مرة في افريقيا: تونس تفتتح قسما لأورام العيون بمستشفى عمومي    عاجل - المرسى : العثور على غسّان التونسي بعد اختفائه المفاجئ    أطفال موهوبون يشاركون في معرض فني يوم السبت 14 جوان بالمرسى لدعم جمعية مرضى داء الأبطن    طرق فعّالة لإزالة بقع الحبر من الملابس البيضاء باستخدام مكونات منزلية    درصاف القنواطي وهدى عفين تمثلان التحكيم التونسي في كأس افريقيا للكبريات لكرة القدم المغرب 2025    ''الميكرووند'': شنيا يسخن فيه وشنيا خطير؟ دليلك الكامل للاستعمال الآمن    يهم الترجي الرياضي: غيابات بالجملة في قائمة تشيلسي الإنقليزي المونديالية    إستعدادا لمونديال كرة اليد: المنتخب الوطني للأواسط ينهزم وديا أمام منتخب الأكابر    نابل: انزلاق حافلة صغيرة يسفر عن إصابة 9 أشخاص بجروح خفيفة    عاجل/ رصد متحوّر كورونا الجديد في هذه الدولة..    كيف نجحت وزارة الصحة في الحد من أخطر موجات التسمم سنة 2024؟    الجزائر حاضرة بقوة في معرض صفاقس الدولي    جندوبة: وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية ياذن بفتح بحث تحقيقي اثر العثور على جثّة طفل باحدى البحيرات الجبلية    تقرير: "دولة صديقة" بالمنطقة حذرت إيران من هجوم إسرائيلي    اتّفاقية تعاون علمي وتكنولوجي بين تونس والصين    دار الثقافة السليمانية تنظم الدورة الثانية من مهرجان "في بلاد الأطفال" من 24 إلى 26 جوان 2025    الدورة الخامسة لمهردجان 'نظرات على الوثائقي' من 19 الى 21 جوان الجاري بمدينة الثقافة    وزير التشغيل الأسبق: قانون منع المناولة في تونس هو موجة ارتباك وعمليات للطرد    نفاد تذاكر مباريات ريال مدريد فى كأس العالم للأندية    تأجيل إضراب معهد صالح عزيز إلى يوم 18 سبتمبر 2025    نابل: مؤشرات سياحية واعدة وعودة الأسواق التقليدية    طفلة تفر من منزل والديها فحول وجهتها طفل واغتصبها !    تونس دون قطارات ليومين..    المنستير: عروض متنوعة في الدورة 13 لمهرجان محمد الحبيب ابراهيم للمسرح ببنبلة من 12 إلى 15 جوان    كأس العالم للأندية: "كاميرا الحكم" لن تعرض الأحداث المثيرة للجدل    لا تفوتها ....معلومات مهمة عن كأس العالم للأندية 2025    إعطاء إشارة الانطلاق لإعداد مخطط التنمية للفترة 2026- 2030 لقطاع التجهيز والإسكان    نبيل معلول يعود للتدريب في الكويت من جديد    ابن تامر حسني بالعناية المشددة ثانية    كأس العالم للأندية : الإنقليزي غريليش خارج قائمة مانشستر سيتي    جريمة مروعة: أب ينهي حياة ابنه طفل ال13 سنة ضربا حتى الموت..!    المنستير: وصول أول رحلة إياب للحجيج الميامين بمطار المنستير الحبيب بورقيبة الدولي    وزارة المالية: قائم الدين العمومي يتجاوز 135 مليار دينار نهاية مارس    قافلة "الصمود" تواصل طريقها نحو معبر رفح وتفاؤل بإمكانية العبور إلى الأراضي المصرية    جندوبة: افتتاح موسم حصاد القمح    موعدنا هذا الأربعاء 11 جوان مع "قمر الفراولة"…    المنستير: مواطن يذبح خروفه فوق السور الأثري يوم العيد...    المخرج علي العبيدي في ذمة الله    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    









رواية "هيباتيا الأخيرة" لأمينة زريق 3\3: ذاكرة مشبعة بالعشق
نشر في الشروق يوم 30 - 05 - 2021

نواصل اليوم نشر الجزء الثالث من هذه الدراسة التي نبه كاتبها يوسف عبد العاطي في جزئها الثاني الى ان الروائية امينة زريق :" أظهرت قُدرة كبيرة على صياغة أحداث رواية تُلامس الواقع بعمق مع استغلال للمعرفة دون تكلّف. و هي ميزات تُحسب لها و للرّواية خاصّة. " ونواصل اليوم نشر الجزء الثالث والأخير من هذه الدراسة :
...و حتّى أكون وفيًّا لأسلوب قراءاتي سأحاول التّوقّف عند الفقرة الأولى و الأخيرة محاولًا من خلال ذلك و بعد المقارنة التّوصّل صحبة القرّاءإلى فكّ الشّفرات الأهم للسّرد الحكائي قصد تلمّس المقاصد و لم لا الأهداف العميقة الّتي دفعت الكاتبة إلى صياغة روايتها بهذا الأسلوب. فقد انطلقت أحداث الرّواية بهذا الخبر الصّادم و المربك، و الّذي كتب بالبنط العريض:
( خمسة أيّام و أربع ساعات و خمس دقائق هي الفترة المتاحة للهجرة اللّامشروطة!، تُفتح خلالها المعابر على إيطاليا و فرنسا و إسبانيا بمقتضى اتّفاق أمميّ و بادرة قامت بها الدّول الثّلاث(فرنسا-إسبانيا- إيطاليا) لاستقبال التّونسيين الرّاغبين في الهجرة...
يمكن خلال هذه الفترة القصيرة قبول المهاجرين دون جواز سفر أو فيزا(تأشيرة) لأنّها ستسند لهم بطاقة هويّة جديدة طالما حلموا بها، كلّما يحتاجونه هو إجراء فحص طبّيّ في البلد المضيف و ألّا يجلبوا معهم أغراضًا من بلدهم. فهم مطالبون بحمل حقيبة ظهر صغيرة لا غير،أمّا التّذاكر فقد غدت متوفّرة بسعر رمزيّ. كان الأمر أغرب من الخيال لكنّه كان أكثر واقعيّة ممّا عاشته البلاد في العشرين سنة الأخيرة بعدثورتها!.) (ص: 7)
و يلاحظ معي القارئ أنّ الكاتبة اختارت عنصر الصّدمة منذ انطلاق الأحداث، و لذلك يزداد عنصر التّشويق و تتزاحم في النّفس أسئلةأسباب الكتابة و غايات الأخبار المعلنة. فهل نحن مقدمون على متابعة أحداث سريالية لواقع ممزّق؟ أم إنّنا سنتابع أضغاث أحلام متناقضةمع الواقع؟ أم إنّ (هيباتيا) شهيدة الفلسفة ترُجّ ثوابتنا و تدفعنا إلى التّسلّح بالمعرفة قصد إدراك غايات الكتابة؟
كلّ هذه الأسئلة رمت بي في مناخات الرّواية الّتي جعلتني ألملم شتات الحاضر و الماضي، قصد إعادة تشكيل الأحداث بصياغة تساعدعلى فكّ شفرات الرّموز المستعملة في الكتابة. و حتّى تتوضّح الصّورة بطريقة أفضل في ذهن القارئ، سأحاول التّوقّف عند بعض الجملالّتي ركّزت على موضوع الهجرة الجماعية للحاكم و المحكوم في هذا الوطن الضّائع أو المهمل بصفة أدقّ. فنقرأ مثلًا:
(كانت تونس في معارك الحكومات المتعاقبة تلفظ أنفاسها الأخيرة. فقد كان الشّعب كلّه حالمًا بالهجرة إلى أن وجدها أمامه تفتح الأبواب على مصراعيها.) (ص: 8)
فنحن لسنا أمام أحداث سريالية، بل إنّ هذه التّفاصيل تحاكي ما نحياه في واقع الأمر. و نقرأ في نفس هذا السّياق: (كأنّ المدينة قد غدت كومة من النّفايات، أكوام الزّبالة الّتي لم يرفعها أعوان البلديّة غطّت الطّرق و الأنهج و الأزقّة.
الصّومعة وحدها بقيت شاهدة على ما مضى.) (ص : 23)
فهل تدفعنا أحداث الرّواية إلى مواجهة واقعنا بمنجزاتنا؟ فواقعنا المزري تعود أسبابه الحقيقية إلى استقالتنا الجماعية من أداء واجباتناو الاكتفاء بالمطالبة بحقوقنا. لنجدها تقول في موقع لاحق:
(...لن يخون شعب بأكمله أرضه و ينحرها أمام مرأى و مسمع كلّ شعوب الأرض. لن تفعلها يا شعب تونس، لا لستم من يبيع بأبخسالأثمان.) (ص:44)
و رغم مرارة العبارات المستعملة في هذه الجمل نلاحظ أنّ السّرد في مجمله حمّل الأسباب إلى غياب مفهوم المواطنة في المطلق دونالوقوع في الخطابة، و هذا يُحسب لصالح الكاتبة.
و الحقيقة أنّ الشّواهد على رقّة التّطرّق إلى هجرة وطن بأكمله عديدة، لذلك سأكتفي بما ذكرته، داعيًا الجميع إلى مطالعة الرّواية للوقوف عند ترانيم الألم الّذي رافق قلم الكاتبة و هي تخطّ مراسم هجرة الوطن الّذي ضيّعناه.
أصل الآن إلى الفقرة الأخيرة في أحداث الرّواية دون اعتبار الجدل الحاصل لتحديد المالك الأصلي للعمل الأدبي. لذلك شعرت أنّ ما جاءفي آخر الفصل الّذي حمل عنوان (العربي، مخّ الهدرة/ البرّاد يغنّي ... نادولي خالي) يُعتبر في حقيقة الأمر خاتمة للأحداث، من وجهةنظري على الأقل. و الأكيد أنّ الأمر سيختلف باختلاف القراءات و التّأويلات و خاصّة تلك الّتي ترى أنّ أهمّ عنصر في الرّواية ما هو في حقيقة الأمر إلّا ذاك التّصادم و الصّراع بين مكوّنات الإبداع الأدبي(كاتب/ قارئ / راوي...) و عندها ستصبح الفقرة الأخيرة غير الّتياخترتها. و لذلك أريد أن أوضّح بأنّ اختياراتي و تأويلاتي تعود أساسًا إلى طبيعة قراءتي، دون الادّعاء بشموليتها أو أسلمها.
تقول الفقرة الّتي رأيت أنّه يجدر بنا مقارنتها بفاتحة الرّواية:
( أغلق العربي المذياع. حاول أن يسترجع ما سمعه:
العربي... أمين البلاد.
أعجبته الجملة الّتي سمعها و لم يجد لها معنى أو تفسيرًا. لكنّه أحسّ أنّ أزرار قميصه الّتي ضاعت منه و كشفت عن صدره النّحيل وشيءٍ من مريوله الدّاخلي الّذي فقد بياضه لشدّة الاهتراء، لا يليق بلقب أمين عام البلاد.
أخذ الخيط الأسود ذاته الّذي رقّع به علم البلاد، و بدأ يُصلح أزرار قميصه، يستلّها من الأكمام ليخيطها أعلى الصّدر...
أن يكون الكمّ بلا أزرار لا يهمّ، أمّا الرّقبة فهذا أمر آخر... مع آخر زرّ أصلحه ... كان الشّاي قد فار عن البرّاد و أخمد النّار فيالكانون!.) (ص: 222).
و أرى أنّ هذه الفقرة جاءت مشحونة بالرّموز و المعاني، لعلّ أيسرها الإشارة إلى خياطة أزرار القميص بذات الخيط الأسود الّذي رقّع بهعلم البلاد... و أرى أنّ هذا المزج كان مُفعمًا بالإيحاءات، مانحًا لنفسي أحقّيّة طرح السّؤال الآتي:( هل انطفأت فينا جذوة الفعل و حماسةالدّفاع عن بناء الوطن المنشود؟) مشيرًا في هذا السّياق إلى أنّ هذا السّؤال كان أحد نتائج مطالعتي لرواية «هيباتيا الأخيرة».
و في الحقيقة فإنّ المواضيع الّتي تطرّقت لها أحداث الرّواية كثيرة و دقيقة الأهداف. من ذلك مثلًا التّركيز على شخصية (للّا حلّومة) و هي قابلة القيروان و غاسلة موتاها. فنقرأ في هذا المجال:
(للّا حلّومة ما زالت تحافظ على رباطة جأشها و لياقة جسمها رغم كلّ المتاعب الّتي مرّت بها طيلة السّبعين سنة أو ما يزيد. فهي قابلةالمدينة الأولى و الأخيرة و هي معلّمة القوابل العربي جميعهنّ، على يديها بكى جلّ رجال القيروان و أعلنوا فرح الحياة المشوب بحزن الانفصال الأوّل و على يديها أيضًا أعطت نساء القيروان الحياة موقنات بأنّ بركات يديها أمر غريب فللّا حليمة تفتح جميع الأبواب. و بنفس تلك اليدين غسّلت للّا حلّومة معظم نساء المدينة و كفّنتهنّ و أودعتهنّ الأمانات. (ص: 64) و لأنّ الكاتبة تحتفظ لنفسها دومًا بحسن توظيف الرّموز نجدها تتحدّث في موقع لاحق فتقول:
( «الخلاص»
كانت كلّ عوالم للّا حلّومة تدور حول الخلاص.
خلاص الرّوح من الرّوح.
خلاص الرّوح من البدن.
و ها هي اليوم تدعو لأجل خلاص البلاد و العباااااد يا ربّي...) (ص : 71)
و يلاحظ معي القارئ حسن توظيف الكاتبة لجميع الرّموز الّتي وفّرتها لها الأحداث، دون الوقوع في الافتعال أو التّصنّع، معلنة من خلال ذلك امتلاكها لأدواتها الفنّيّة و حسن توظيفها لها في بناء إنتاج أدبي قادر على شدّ انتباه القارئ و دفع الباحثين إلى الاهتمام بنصوصها.
و لأنّ هذه الرّواية «هيباتيا الأخيرة» جاءت أحداثها مشحونة بالرّموز و المعاني، أرى أنّه من المفيد الإشارة إلى بعض الجمل الّتي ميّزتهذا العمل. من ذلك مثلًا:
(كان المزوغي الوحيد من بين كلّ أفراد العائلة يعرف قصّة هيباتيا في التّاريخ. كان يُدميه ما ستحصّله هذه الفتاة فوق ظهرها.
كان يرى القلب الممزّق قبل الجسد و يرى الفلسفة المحترقة قبل الدّين و يرى الآلهة الباكية على قارعة الطّريق.) (ص: 68).
و يلاحظ معي القارئ أنّ الشّخصيات السّردية في أغلب أعمال أمينة زريق تحمل عمقًا ثقافيًا و زادًا معرفيًّا محترمًا، لتؤكّد حسناختيارها للشّريحة المجتمعية الّتي تتوجّه إليها بكتاباتها. وكتأكيد على هذا الأمر نقرأ:( ...الرّواية المنفلتة هي الّتي أتاحت الفرصة لهذاالشّعب كي يفرّ.../ لقد فرّوا جماعات و أفرادًا في لمح الخبر.) (ص : 79). كما نقرأ لها:( ...لا أريد أن أضعف إلى حدّ الاعتراف أنّه لا يوجدمشروع يقام على الكراهيّة.) (ص : 80). كما نجدها تسرد علينا حكاية (امرأة/وطن) فتقول: ( ...كانت أمّا حاملا تخرج أولادها من بطنها تباعًا و كلّما لفظت مولودًا، استوى واقفًا و غادر. فتجلس الأمّ تندب حظّها في أبناء بطنها. البلاد كانت تأخذ كلّ يوم شكلًا جديدًا كأنّها تتشكّل من عدم.) (ص: 144). و أرى أنّ أهمّ موقف صادم كان بلا شكّ «تونس للبيع» لتُعلن في ثنايا السّرد:( تونس توتة القلب. اشكون يسلّم فيها)( ص :160).
و في الحقيقة شعرت أنّ هذه الرّواية جاءت مكتظّة بالمواضيع و الإيحاءات و قابلة لتأويلات مختلفة، لكن حسبي في هذه القراءة لفت انتباه القرّاء و الباحثين و الإعلاميين إلى هذا المنجز الأدبي المحترم، و الّذي قد تكون لي عودة إليه في وقت لاحق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.