مذكّرة التفاهم حول الشراكة الشاملة بين تونس والاتحاد الأوروبي والتي تم امضاؤها أول أمس هي عبارة عن اتفاق إطاري يشكّل أرضية صلبة يمكن البناء عليها للتأسيس لنمط جديد من الشراكة بين الجانبين. نمط يعلي قاعدة التكافؤ والندية ويؤمّن المصالح المشتركة للطرفين ويمكن الانطلاق منه لبلورة شراكة جديدة تصلح لأن تكون منوالا جديدا لعلاقات صلبة ومتكافئة بين الدول وبين التجمعات الاقليمية والدولية. مذكّرة التفاهم هذه تنفرد بكونها تستند إلى الندية وإلى تكافؤ الفرص بين الطرفين. فقد ولّى زمن السيد والتابع.. وزمن القوي الذي يذوب فيه الضعيف التابع.. وولّى زمن الاملاءات التي تخترق السيادة الوطنية للدول، بل وتدوس على حرية الشعوب وعلى كرامتها الوطنية تحت عناوين منافقة تدور في مجملها حول «التعاون المثمر والبنّاء» وحول «مدّ الجسور وخدمة المصالح المشتركة».. والتي لا تتعدى في الأخير كونها عناوين مخادعة للمغالطة ولتمرير نزعات الهيمنة في اخراج يوفر لها المقبولية لدى الطرف الضعيف المسلوب الإرادة والقرار والذي ليس أمامه إلا أن يكون تابعا ومسلوب الإرادة. كما تنفرد هذه الاتفاقية بكونها تستند إلى مفهوم السيادة الوطنية بل وترتقي به لتجعل منه الأساس لعملية الشراكة برمتها والجسر الذي يمكن بواسطته المرور بعلاقات الطرفين إلى الأفق الرحبة التي تبني تعاونا متكافئا وعلاقات تخدم مصالح كل الأطراف. وقد بيّن رئيس الدولة في الكلمة التي ألقاها اثر توقيع مذكرة التفاهم أن بلادنا وان كانت لا تملك صواريخ عابرة للقارات وهي أصلا لا تريدها، فإن سيادتها عابرة للقارات والمحيطات وبأنها غير مستعدة للتفريط بها مهما كان الثمن وغير مستعدة لإرتهانها مهما كانت المغريات. وبذلك يكون قد وضع النقاط على الحروف وبيّن للطرف الأوروبي أن زمن التبعية والاملاءات قد ولّى إلى غير رجعة.. وأن شح الموارد والصعوبات الظرفية التي يمر بها اقتصادنا لن تكون أبدا مسوّغا للتفريط في سيادتنا الوطنية ولارتهان قرارنا الوطني. وانطلاقا من هذه الثوابت، وعلى قاعدة هذه الأسس دعا رئيس الدولة الطرف الأوروبي إلى الانخراط الفوري في ديناميكية تفضي في أقرب الآجال إلى إبرام جملة من الاتفاقيات الملزمة التي تنظم علاقات الطرفين في كل القضايا والملفات المطروحة.. والتي تمثل هواجس للطرفين سواء تعلق الأمر بالهجرة غير الانسانية ولعمليات التهجير التي تديرها عصابات وشبكات اجرامية عابرة للحدود.. أو لمختلف مجالات التعاون الاقتصادية والاجتماعية العلمية والتكنولوجية وصولا إلى تحقيق تفاهم أفضل يمكّن من حلّ معضلات التنمية في الدول الفقيرة بما يوفر لشبابها سبل العيش الكريم ويفضي في الأخير إلى تثبيتها في بلدانها ويجفّف منابع الهجرة ويردع كل نوازع المغامرة وركوب المجهول بحثا عن فرصة عمل دونها البحر وعن سبل لعيش كريم دونه الموت.. إن هذا المنطق الشفاف الذي طرح به رئيس الدولة مسألة الشراكة الشاملة مع الجانب الأوروبي ودعوته إلى اتفاقات ملزمة تعطيها المضامين الملموسة التي تنقلها من مستوى الشعار والفكرة إلى دنيا الواقع والممارسة.. هذه الرؤية تدعونا دون إبطاء إلى التداعي إلى حوار وطني بنّاء يجمع الكفاءات والخبرات الوطنية والمختصين والجامعيين بغية بلورة تصور شامل لمضامين الشراكة وجعلها تلامس كل الجوانب التي تخدم المصلحة الوطنية. وبلادنا تملك من الخبرات ومن الكفاءات ما هو قادر على استشراف مضامين واقعية وملموسة لشراكة متكافئة في كل الملفات والقضايا المطروحة.. وفي هذا الصدد فإن لقاء رئيس الدولة قبل فترة بثلة من الخبراء الاقتصاديين ومن الجامعيين لتبادل الآراء حول الوضع الاقتصادي الصعب وسبل الخروج منه يشكل سابقة يمكن البناء عليها والاستفادة منها لبلورة رؤية استراتيجية شاملة لعلاقاتنا مع الاتحاد الأوروبي في هذه المرحلة المفصلية وقبيل المضي في اعداد الاتفاقيات الملزمة التي ستكون ولا شك إطارا تتحرك فيه علاقاتنا بالاتحاد الأوروبي لعشرات السنين القادمة.. والمنطق السليم يقتضي توفير حاضنة وطنية لهذا الاتفاق الاستراتيجي الذي يهمّ أجيال تونس حاضرا ومستقبلا. عبد الحميد الرياحي