مع صدور نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، يبدو أن فرنسا باتت في مأزق سياسي شائك، نظرا لما أفرزته هذه الجولة من "زلزال" سياسي جديد بفوز اليسار وحلول الائتلاف الرئاسي ثانيا واليمين المتطرّف ثالثا. على عكس كل التوقّعات التي رشّحت فوز اليمين المتطرّف بعد أدائه القوي في الجولة الأولى، فإن التنازلات الكبيرة التي قدّمها اليسار، وضعته في المرتبة الأولى وفي سدّة الحكم. وبالتالي فإن اليسار الذي لملم شتاته بطريقة فريدة غير مسبوقة، هو الفائز الأكبر رغم عدم حصوله على الأغلبية، بينما كان الخاسر الأكبر هو ماكرون وتحالفه واليمين المتطرّف الذي تلقّى "صفعة" قويّة وذهبت أحلامه في الحكم أدراج الرياح. المشكل العميق والشائك الآن، هو عدم حصول أي طرف على أغلبية مريحة تخوّل له تشكيل حكومة، وفي ظلّ التناقضات الكبيرة بين الأطراف الثلاثة، فإن التوصّل الى عملية تشكيل حكومة جديدة ستكون مرهقة جدا. وبات يرافق الجولة الثانية للانتخابات التشريعية الفرنسية سيل من الأسئلة المتعلقة بشكل البرلمان الجديد ومكوّناته وكيف سيكون المشهد السياسي بعد هذا "الزلزال"، وهل فعلا دخلت فرنسا في أزمة معقّدة. فمن جهة فشل اليمين المتطرّف في الحصول على أغلبية مطلقة، كما كان متوقّعا وفقا لنتائج الجولة الأولى، والأمر ذاته بالنسبة لتجمّع اليسار ومعسكر الرئيس ماكرون الذين فشلوا في الفوز بأغلبية مطلقة. ويثير عدم حصول أي حزب على الأغلبية المطلقة مخاوف من حالة انسداد سياسي في البلاد وتشكل مشهد سياسي غير قابل للحكم، ما قد يدفع إلى عقد تحالفات على مضض لتمرير بعض القوانين. فمن جهة لا يتّفق تجمّع اليسار بقيادة ميلونشون مع سياسيات ائتلاف الرئيس ماكرون خاصة في ما يتعلّق بالحد الأدنى للأجور ، وسن التقاعد و الاعتراف بدولة فلسطين وغيرها من القضايا الشائكة. من جهة أخرى لا يتّفق لا تجمّع اليسار ولا ائتلاف الرئيس مع خيارات وسياسات اليمين المتطرّف خاصة في ما يتعلّق بالهجرة، وتبدو التحالفات بينهما صعبة المنال نظرا لتعنّت اليمين المتطرّف. هناك خياران لا ثالث لهما مهما كان الطرفان اللذان سيشكّلان الحكومة الجديدة، الأول هو التنازل ونعني تنازل كل طرفين ينويان الحكم معا، أو التعايش كما وقع خلال حقبة الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك سنة 1997. أما الخيار الثالث فهو مستبعد الى حد ما ، ونعني هنا حل البرلمان، حيث لا يتيح الدستور الفرنسي للرئيس ايمانويل ماكرون حل البرلمان الجديد إلا بعد مرور سنة، وبالتالي فإن الذهاب في هذا الخيار سيجلب أزمات كبيرة لفرنسا. بين التنازل والتعايش ستكون فرنسا مجبرة على ضرورة منع حالة انسداد قد تدخل البلاد في دوامة لا مخرج منها، في ظلّ وضع داخلي وأوروبي ودولي حرج مليء بالتحديات الجيوسياسية. الأكيد أن ما يجري من تغيير سياسي كبير في فرنسا، هو ناقوس جديد بعد ما جرى في بريطانيا وما قد يحصل في دول أخرى مؤثرة مثل أمريكا، وهو إيذان بأن العالم يتغيّر سريعا وأن عالم القطب الواحد يمرّ بمنعرج خطير قد يهوي به الى الهاوية. بدرالدّين السّيّاري