تحتفل تونس كسائر الأمّة الاسلامية الليلة بليلة القدر المباركة التي هي خير من ألف شهر. فقد قال المولى عز وجل في كتابه العزيز: «إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزّل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر». وقد يتداول البعض في ما بينهم مفاهيم ومعتقدات خاطئة ومغلوطة حول هذه الليلة المباركة التي شرفها المولى عز وجل عن كل الايام، كأن يعلّق غفران ذنوبه على هذه الليلة ولا يطبّق ما جاء في القرآن والسنة كشروط اساسية لمحو الذنوب. إن ليلة القدر فيها من العظمة ما لا يعدّ أو يوصف، حيث حيى فيها الرب عبده الانسان، فكان من الواجب عليه ان يطلب العبد الى سيده الهداية الى سبل السلام والى الورع والتقوى، فمن دونها يصبح هذا العبد عرضة لعواصف السقوط والانحراف والضياع الابدي، ويكون كما الجسد الفاقد المناعة، فما أن يدخله الداء حتى ينتشر في اوصاله ويقضي عليه. كذلك الانسان لابد له من الطلب الى الله بأن يزوده بالتقوى واليقين وأن يتزوّد بهما، فهما خير زاد وخير لبوس ودرع وحصن. إن الانسان ينبغي عليه ان يعرف بأن الله سبحانه وتعالى اذ يأمره وينهاه، إنما لحبّه له وحنوه عليه. وهذا الحب لابد وأن يقابل بحب متقابل، ولو كلّف ذلك تضحية وصبرا. فمهما يبذل الانسان في هذه الدنيا من تضحية فهو لا يعدو كونه قد ضحّى برخيص في مقابل الوعد الذي قطعه الله سبحانه على نفسه بأن ينصر من ينصره وان الجنة قد أعدت للمتقين. إن الناس مدعوون في هذه الليلة بشكل مباشر الى التعمق والتدبر والتبصر في حكمة وجود الانسان وسر خلقته اساسا. فليحاول الواحد منا في هذه المناسبة الجليلة ان يكون ايمانه بالمفاهيم الدينية ايمانا مستقرا عميقا، لا ايمانا مستودعا سطحيا. وهذا الايمان لا يستقر في قلب المرء ما لم يتبصر موقعه في الدنيا ومن الدنيا، ومالم يتعرف او يحاول التعرّف الى الدار الاخرة، فهي خلقت من اجل الانسان وبارادته... اذ لو لم ينتخب الناس او بعضهم طريق السعادة لما خلقت الجنة، ولو لم ينتخب الباقون الذنوب لما خلق الله النار. وعن ليلة ا لقدر روي ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعا أصحابه فسألهم عن ليلة القدر فاجمعوا انها في العشر الاواخر من رمضان، فقال ابن عباس لعمر: اني لاعلم اي ليلة القدر هي، فقال عمر: وأي ليلة هي؟ فقال: سابعة تمضي او سابعة تبقى، من العشر الاواخر، فقال عمر: من أين علمت ذلك؟ قال ابن عباس: خلق الله سبع سموات وسبع ارضين وسبعة أيام، وان الشهر يدور على سبع، وخلق الانسان من سبع، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، والطواف بالبيت سبع، ورمي الجمار سبع، فقال عمر: لقد فطنت لامر ما فطنا له. وسميت ليلة القدر بهذا الاسم لأن الله تعالى يقدر فيها الارزاق والاعمار وكل شيء في العالم، قال تعالى: «فيها يفرق كل امر حكيم»، وسميت كذلك لعظم قدرها وشرفها، ولأنها تكسب من احياها قدرا عظيما لم يكن له قبل ذلك وتزيده شرفا عند الله تعالى، ولأن العمل في هذه الليلة له قدر عظيم. وقد خص الله سبحانه وتعالى امة الاسلام بهذه الليلة المباركة، وأخفاها عنهم رحمة بهم، حتى يزيدوا في طاعته بانتظارهم لها وترقبهم في العشر الاواخر من رمضان. وليلة القدر لها علامات تعرف بها، قال رسول الله ص : إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة، وكأن فيها قمرا ساطعا، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولا حر، وإن أمارتها ان الشمس صبيحتها تخرج مستوية، ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل للشيطان ان يخرج معها يومئذ «النسائي». وفي هذه الليلة يكثر نزول الملائكة الى الارض، ويكثر فيها نزول الرحمات والعمل فيها خير من عمل ألف شهر، وصيامها وقيامها خير من عبادة ألف شهر.وليلة القدر سلام حتى مطلع الفجر، لذلك احرص على أن أجد واجتهد لكي أنال بركة هذه الليلة، فأنا اعلم انه لن ينال كسلان او غافل ثوابها وبكرتها، وأن الذي يراقب الله فيقوم ليله ويصوم نهاره، ويتلو القرآن آناء الليل واطراف النهار ويعتكف في مسجد الله يسبحه ويستغفره ويدعوه، ويرجو رحمته ويخشى عذابه، هو الذي سيفوز بهذه الليلة وبركتها، قال رسول الله ص: «من قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه. وفي هذه الليلة أدعو ربي قائلا: «اللهم انك عفو تحب العفو فاعف عني» لما روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله... إن وافقت ليلة القدر فماذا ادعو؟ فقال ص لها: قولي: اللهم انك عفو تحب العفو فاعف عني» الترمذي والنسائي. فينبغي علينا جميعا ان لا ندع فرصة هذه الليلة العظيمة التي يستجاب فيها الدعاء تفوتنا، بل نحييها بالصلاة والقيام والدعاء لانفسنا ولأهلنا وللمسلمين في كل مكان.