في مبادرة تعد الاولى من نوعها شهدت نقابة الصحافيين المصريين ندوة موسعة حول الهوية الثقافية العربية لتونس في باكورة فعاليات جديدة للنقابة المصرية لاستضافة الدول العربية الاخرى وإقامة حوار عربي فعال لشحذ الجهود العربية وتوحيدها في مواجهة التدخلات الخارجية التي تترصد الهوية الثقافية العربية في ظل الظروف والاوضاع الراهنة التي تمر بها المنطقة. وأكد المشاركون في الندوة من التونسيين وقبلهم المصريون ان الهوية الثقافية العربية لتونس لا جدال فيها سواء على المستوى الفكري أو الحضاري وأن عروبتها لم تطرح أبدا على مرّ تاريخها ضمن ثنائية ولم توضع أبدا موضع ميزان وكانت في مجملها التزاما ومقاومة وتصديا ومحافظة على هذه الهوية، وأوضحوا ان تونس منذ الفتح الاسلامي وهي حاملة لمشعل العروبة كما أن بيان السابع من نوفمبر 1987 أكد هذه الهوية والانتماء العربي، مشيرين الى أن عملية المصالحة مع الهوية العربية التي تمت منذ عشرية ونصف مست مظاهر تعريب الادارة ومدّ الايادي نحو الشرق العربي في إطار وجدان شعبي وسيكولوجيا جمعية تعيش في أحضان عربية لم تفارقها أبدا. شارك في الندوة التي ألقت فيها المحاضرة الرئيسية الزميلة فاطمة الكراي عن «الشروق» وأدارها رفعت رشاد رئيس اللجنة الثقافية بنقابة الصحفيين المصريين وبدر الدين أدهم الكاتب الصحفي بجريدة الاخبار المصرية وبحضور السفير التونسي بالقاهرة السيد صلاح الدين الجمالي والسفير المصري بتونس السيد مهدي فتح الله وبرعاية مباشرة من جلال عارف نقيب الصحفيين المصريين، كما شارك في تنظيمها مكتب الوكالة التونسية للاتصال الخارجي بالقاهرة! معادلة مستمرة وفي محاضرتها الشاملة أكدت الاعلامية فاطمة الكراي ان السؤال عن عروبة تونس وعن عنوان هويتها الثقافية لم يطرح فكريا أو حضاريا أبدا طوال مراحل التاريخ منذ الفتح العربي «لافريقية»، وأشارت الى بعض وجهات النظر التي شابت هذه القضية بين محاولات للتشكيل تارة ومحاولات تغليف ذلك بسؤال «بريء» في مظهره وقالت: إن الامر لم يطرح على وجه الاطلاق على مستوى أعمق من هذه القشور التي لا تتعدى نمط عيش معين أو حديثا في الشارع باللهجة العامية وما بها من كلمات مأخوذة من اللغة الفرنسية والمالطية وكذلك الايطالية أو الاسبانية. وأكدت فاطمة الكراي ان عمليات المد والجزر وحالة الاتصال والانفصال التي عرفها المشهد التونسي في تعاطيه مع العروبة والهوية العربية لم يكن له بعد جغرافي بل لم يكن هناك صراع ديدنه الانفصال وربط الصلة وكانت هذه الهوية العربية والاسلامية تطفو على سطح الاحداث التي مرت بها تونس لتصبح تاج وعنوان الفعل السياسي والثقافي والحضاري في كل الصراعات والملاحم الوطنية للشعب التونسي، وأشارت في هذا الاطار الى الاستعمار الاسباني الذي نزل سطوا على سواحل تونس عام 1535 ميلادية وكانت مقاومته من خلال ثنائية «المقاومة العربية والاسلامية» وتحولت في تعاملها مع التبعية للخلافة العثمانية لمحاولات كشف عمليات «التتريك» باسم الاسلام ومقاومة هذا «التتريك» باسم العروبة، وهو ما استمر في مواجهة «الفرنسة». وتواصلا مع الحضور أوضحت فاطمة الكراي ان المشهد التونسي خلال العشريتين الاخيرتين... القرن التاسع في بداية القرن العشرين عرف ثلاثة أنماط فكرية للتعاطي مع موضوع الاصلاح أولها التآخي الاسلامي بما يتعدى «التتريك» الفج وهو ما تمثل في إصدار صحيفة «السعادة العظمى» عام 1904 1905، وتيار ثان اصلاحي مثلته جريدة «الحاضرة» لعام 1888 بعد سبع سنوات من الاستعمار الفرنسي وما تبعه من تأسيس الجمعية الخلدونية 1896 والتي كان لروادها تحاورات ومراسلات مع المصلحين الشيخ محمد عبده وجمال الدين الافغاني، وأخيرا الخط الثالث والموازي الذي برز في أواخر العشرية الاولى من القرن العشرين ويتمثل في حركة «الشباب التونسي» الذي أسسه علي باش حانبة عام 1907 ومثلته جريدة «التونسي» الناطقة بالفرنسية ويأخذ الاصلاح على طريق «فرنسة» البلاد والعباد. نحت الذات التونسية وتوضح الكراي ان المشهد الثقافي والفكري الذي أسهم في نحت الذات التونسية كان ثريا بوجهات النظر حيث لم تعرف الهوية الثقافية التونسية يوما رتابة أو انعداما للجدل، وفي المقابل لذلك لم تكن عروبة تونس أبدا وانتماؤها الحضاري وشخصيتها العربية الاسلامية موضعا للجدل أو محورا للتغيير، ومازالت تونس حتى اليوم تعيش هذه الحقيقة وتقول: إن عملية المصالحة مع الهوية التي تمت منذ عشرية ونصف مضت قد مست مظاهر تعريب الادارة ومد اليد من جديد نحو المشرق العربي. ولم تجد عقبة واحدة لما في الوجدان الشعبي وسيكولوجيا الجماعة من استعداد كامن للدعوة الى قضية لم تفارقه أبدا. وفي لهجة قوية وجملة تذكيرية تقول فاطمة كراي: لم تنفصل تونس أبدا عن عالمها العربي... فقد هب التونسيون لمساعدة ليبيا للتصدي للاستعمار الايطالي... كما احتضنوا الثورة الجزائرية حيث امتزجت الدماء التونسية والجزائرية... ولم تعزل الجغرافيا تونس للتجاوب مع نكبة فلسطين مند بدايتها فهناك تونسيون ذهبوا الى فلسطين على أقدامهم للمشاركة في التصدي للصهاينة. وقالت كراي ردا على تساؤلات بعض المشاركين في الندوة ان اللغة لا يتم المحافظة عليها في الشارع أو على التلفاز ولكن في المدارس والجامعات والاكاديميات، وأخرجت من مخزون خبراتها واقعة تعرضت لها إبان عملها لفترة في التدريس الثانوي بموضوع انشاء لطالب قال فيه: «ولما تفاجأ قال يا «لهوي»! وتتساءل من أين جاءت هذه الكلمة في مفردات طالب تونسي وتؤكد أن التعليم بالفصحى في المدارس التونسية هو الذي يحمي اللغة والهوية وليس الشارع. رؤية مصرية ومن جانبه يرصد السيد مهدي فتح الله السفير المصري في تونس رؤيته من خلال وضعه كمحايد ومشاهد لما يحدث في تونس على مدى سنتين، ويقول ان عمله في تونس يعد التجربة الاولى له للخدمة في الخارجية المصرية في دولة عربية مشيرا الى أنه في الدول الاجنبية كان يحتاج الى عام كامل للتأقلم إلا أنه في تونس لم يشعر من أول يوم له فيها بالغربة، وتأكد له مع اختلاطه الحياتي بالتونسيين في جميع الولايات أن الهوية العربية لتونس حقيقة معاشة وواقع أكيد لا شك فيه، ويقول ان اللهجة ليست عاملا حاسما في تأكيد الهوية ولكنها وعاء للسلوك أما السلوك نفسه من عادات وتقاليد فكلها عادات عربية تؤكد ان الهوية العربية في الثقافة التونسية متعمقة بشكل كبير في المواطن والشخصية التونسية، وعلى الرغم من الاستعمار الفرنسي وطابعه الثقافي إلا أن المواطن التونسي لم ينصاع لها وإنما استفاد منها في إثراء شخصيته وأدائه لعمله ولكنها لم تنل أبدا من هويته في بيته وفي شارعه أو في مقر عمله. ويوجه السفير مهدي فتح اغغي الى الصحفيين والاكاديميين المصريين المعنيين بحضور الندوة في خلاصة لتجربته فيقول: لقد دعيت الى حفلة ختامية بمدرسة ابتدائية في حي شعبي وكان اروع ما فيها هو المستوى الراقي للغة العربية صرفا ونحوا ونطقا، واذا كان ذلك في مدرسة ابتدائية فما بالنا بالمدارس الاخرى في الاحياء الراقية او ما بالنا بالمدارس الثانوية والجامعات، وأعتقد ان كل ذلك يؤكد ان الهوية العربية في تونس بخير وفي امان وتعيش تطورا دائما. الخصوصية التونسية أما السفير صلاح الجمالي سفير تونس بالقاهرة فكان له التعقيب الاخير لكلمات المشاركين على الطاولة الرئيسية للندوة، ويرصد عددا من المداخل الاساسية لفهم الخصوصية التونسية، ويوضح ان القضية تأخذ احيانا اشكالا ثقافية او سياسية مشيرا الى أن الغرب يرى ان المغرب العربي جزء من اوروبا ولا ينفصل عنها وأن مهمته اعادة هذا الجزء إليها ومن هنا كانت التحديات التي استمرت لقرون حيث يرى البعض ان الحضارة الشرقية في المغرب العربي تمثل اكبر تحد للحضارة الغربية، وفي هذا الاطار حملت تونس مشعل العروبة طوال الحقب المتصلة في تاريخها منذ الفتح الاسلامي وحقبة العثمانيين ثم مجيء الفرنسيين الذين حاولوا ولم يفلحوا في اضعاف الهوية الثقافية العربية لتونس. ويؤكد ان الحديث عن تونس في هذه القضية يتجاوز تناول الهوية الى دور لا جدال فيه بأن تونس هي حاملة مشعل العروبة من القيروان والزيتونة حتى العاصمة تونس حاليا التي تحتضن المؤسسات العربية ومن ابرزها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم كما احتضنت لفترة مقر جامعة الدول العربية نفسها، ويؤكد ذلك الواقع بيان 7 نوفمبر الذي أكد الانتماء العربي ودورها وهو ما يؤكده تنامي دورها في الحياة العربية في مختلف مجالاتها وخاصة دورها كجسر حضاري بين الشرق والغرب. الاعجاب ومن بين الحضور يأخذ الكاتب السياسي مصطفى بكري الكلمة ليؤكد ان الفهم الكامل للهوية التونسية يمكن ان نستخلصه من مواقفها الواضحة من قضيتي فلسطين بمراحلها ثم العراق، ويقول ان العلاقة بين تونس ومصر هي علاقة مضيئة في هذا الزمن العربي الذي نعيشه وخاصة ما نراه من تمسك التونسيين بجذورهم حتى أنني اسمع عبد الوهاب وام كلثوم في تونس أكثر من مصر، كما ان تمسك التونسي بتقاليده وعروبته يثير الاعجاب، وأعرب عن اعتقاده بان تعريب لغة الشارع ماضية بنجاح خاصة أن ذلك جاء مع جيل عاش عمره تحت وطأة الاستعمار الفرنسي. ويدعو بكري الى تجاوز هذه المسلمات الى القضايا القومية مشيرا الى مشروع كامل طرحه الرئيس الامريكي بوش وخطه وزير دفاعه رامسفيلد في تقرير قال فيه ان الحرب القادمة هي حرب تغيير العقول، وقال انه بدلا من استثمار الحالة القائمة في العراق لصالح الامة نجد ان هناك من يروجون لمشروع بوش الهادف الى تغيير الهوية العربية داعيا الى مواجهته. «القشور»... مرفوضة وتقدم فاطمة الكراي في كلمات قليلة خلاصة القول بضرورة البعد عن التحاور حول «القشور» وخاصة في هذا التوقيت الحاسم الذي تمر به المنطقة والهوية العربية، وتدعو الى البحث الجاد في حمايتها من تيارات العولمة بيدنا وليس بيد العم سام من خلال مشروع جاهز لتغيير الثقافة والابداع العربي وكل جوانب الحياة. وتقول: الاستعمار الجديد جاهز بمخططه فهو لا يريد فقط النفط والموقع الاستراتيجي ولكن قولبة واعادة تكوين الذات العربية. ويعلن السفير صلاح الدين الجمالي فض الحوار الثقافي في ختام يوم ثقافي لتونس احتضنته نقابة الصحافيين المصريين شمل افتتاح الفنانة التونسية المقيمة بمصر عايشة حمدي ومعرض كتب اعلن السفير صلاح الجمالي اهدائها الى مكتبة النقابة العربية كاهداء من السفارة التونسية. ولأنها ندوة ثقافية كان ختامها بصوت وعلى عود الفنان نورالدين الوسلاتي ليصفق الصحفيون المصريون مع صوت تونسي رقيق وهادر اشجى الجميع على عروبتهم وأبكاهم عليها.