ذكرى محمّد مغنيتنا التونسية العربية مليونيرة ورصيدها الحالي ملايين المعجبين والمعجبات من عامة الشعب العربي ومتذوقي الطرب الاصيل، وتملك عشرات الملحنين الذين كانوا يحلمون بالمرور من صوتها الى الشهرة وكذا الشأن بالنسبة لمئات الشعراء، دون أن نحسب في رصيدها غيرة بعض الفنانات وحسد المطربين والمطربات الذين ما كانوا يتحمّلون ثراء صوتها وعذوبة نبرتها وهذا كلّه يدلّل على أنّ ذكرى كانت أميرة ومثيرة ومليونيرة الآن وغدا. وأن صوتها سيظلّ في الوجدان كما ظلّت زميلتها الراحلة اسمهان. 2 لا أعرف ذكرى محمد، التي أزهقت روحها في لحظة جنون متفوّق في الوحشية على كل جنون قرأناه في عالم الجريمة والقتل والغدر، ولم نقرأه في عالم الحب. لا أعرف ذكرى، إلا كما تعرفني ذكرى، انتبهتُ الى صوتها المتميّز بين طوفان هذه الاصوات المتشابهة والمتناسخة والمتراصّة في القنوات الاذاعية الفضائية. وسبق لي أن شاركت معها في ليلة تونسية رمضانية بالاوبرا المصريّة سنة 1999. استمعتُ إليها، ولم تستمع اليّ لأنها ككل المغنين والمغنيات لا يسمعون الشعراء الا صدفة. رحم الله ذكرى. كانت مغنيّة ذات جمال شديد التواضع، ورغم ذلك، فإنها استطاعت في زمن «الأغنية التي تُرى». وفي العاصمة العربية الصعبة، القاهرة المعزيّة، أن تفرض نفسها كصوت عابر للزحمة في الاصوات السيارة، وهكذا كان صوتها طيّارة. 3 يمكن للخيال الروائي ان يتصوّر لحظة خارجة من زمام العقل جعلت الرصاصات تخترق جسدها الصغير الذي لم يجمّله غير صوتها وأدائها الصادق النبرة الذي وصل الى ملايين الناس، وبهذا المعنى أعتبر ذكرى محمد مليونيرة. وأصنّف زوجها رجل الاعمال مديونيرا، لذلك حاول ان يتزوّج هذه المغنية. 4 لست مخوّلا للقول بأن زوجها كان في حالة سكر، والأكيد أنه كان سكران بالغيرة وكؤوس الشك والحيرة. ولكن ما اعرفه هو أن ذكرى محمد كانت تعرف أن الرجل ملياردير في الظاهر وأنه من عائلة معروفة ويشتغل في قطاع الكابلات الكهربائية، ويصعب عليّ أن أتخيّل وجه العلاقة بين الكهرباء والفن، سوى أن صناعة الاسلاك الكهربائية الحديدية هي غير الاسلاك الحريرية الاثيرية التي تنتجها ذكرى وهي تغني لعشرات الملايين على مدى السنين. وما أعرفه هو أن عدد المقاولين في هذا المجال كثير. ولكن الاصوات التي تشبه ذكرى هي نادرة نادرة. 5 لا أدري كيف رأت ذكرى محمّد في زوجها المصري نموذجا لزوج يمكن ان يساعدها وهي المليونيرة بالمقياس الاقتصادي والجماهيري والجمالي، والحال ان زوجها الذي اختارته ليس غير مديونير وفقير يريد ان يدخل الى نادي المشاهير وليس من جواز غير الزواج بالشهيرات وله سوابق في التقاط الصور بالرصاص الحيّ. وكانت ذكرى هي آخر صورة في ألبومه الوحشيّ. غير أن حادثة القتل هذه تمّت بعد أن صارت في «عصمة رجل» لكأنها كانت في غيبوبة كاملة وديخوخة شاملة وهي توقع عقد زواجها ناسية لا تدري بطيبتها المعروفة أنها في عصمة صوتها وفنّها. وهذا يجعلني أطرح هذه الصيغة: كل فنّان هو متزوّج بطبعه لأنه يتزوج الفن، وقد يكون هذا الكلام عاما ومعروفا ممجوجا، ولكنه حقيقي. كل فنان يولد متزوجا، واذا تزوج فعليه ان يعتبر ان الفن ضرّة وزوجة أولى وضرورة قصوى. 5 اللهأكبر. ذلك ما يمكن ان نقوله امام العجز الذي يعصف بالعقل وهو يتابع هذه الحادثة التي درّت الكثير من الاموال على المشتغلين بالصحافة، وإذا رحلت ذكرى وصارت اسمها (أقصد ذكرى ولا أقصد اسمهان). 6 في قصص أهل الفن، أخلص الكثير للزوجة الاولى (الفن) ولم يستطع البعض التوفيق بين زوجتين، فكان الطلاق هو سيّد الموقف للحسم بين الفن والزواج، وفي المقابل كان الكثير من اهل الفن قد فضّل المؤسسة الزوجية على الفن، ورأينا نتائج ذلك في كثير من الفنانات اللواتي متن، وهنّ احياء، بالسكتة الزوجية بسبب الغيرة، وبسبب ما اشتهر عن اهل الفن من عشق الحرية تحرّمها الحياة الزوجية العادية تصريحا او تلميحا. والزواج ليس في متناول كل فنان: عبد الحليم لم يتزوج ولم يخلّف أولادا غير الاغاني. فريد الاطرش كذلك ومحمد الجموسي وعلي الرياحي... أما الرسام الاشهر بيكاسو فقد كان مزواجا مطلاقا، وبعضهم كان يخفي حياته العائلية، وكان يحكي الممثل الفرنسي جان فابان ان عائلته تكاد لا تعرف أنه يمثل، إنه في البيت مجرّد أب. ولعلّ من أنجح الزيجات هي فيروز مع عاصي الذي كان يقضي أغلب اوقاته مع اخيه منصور من اجل ان يصنع الجميع شيئا لا يدمّر ولا يقتل ولا يهرم ولا يخترقه الرصاص ولا يشتريه المقاولون ولا تناله الحرب الاهلية او الحرب العالمية يسمّى المدرسة الرحبانية التي خلقت فيروز. 7 من الزواج ما خلق. تحدثت عزيزتنا الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي عن معاناتها مع المجتمع ومع العلاقات وشاءت الظروف ان تتزوج هذه الجزائرية صحافيا لبنانيا هو جورج الراسي، ولقد اعترفت احلام بأنها وفقت في زواجها هذا الذي لم يثمر اولادها الثلاثة فقط، ولكنه اثمر رواياتها التي كتبتها دون ان يسائلها زوجها عن معنى هذا الموقف او ذاك المشهد، ولم يتحوّل بيت الزوجية الى مركز تحقيق بوليسي يخضع فيه المتهم الفنان الى أمسّ الاسئلة، فيبلغ اقصى الاعتراف ويغلق الملفّ على مريض بالفنّ يلقى به في غرفة العناية المركّزة حيث يسعى كل طرف الى غسل دماغ الاخر وتكون النهاية نهايتين: الاولى: انتصار الرتابة والكتابة وموت الفن بالسكتة الزوجية. وهكذا نقول: من الزواج ما خنق. الثانية: انتصار الفن والحياة والحرية بحلّ هو ايضا الحلال او اذعان الطرف الاخر الى ان الفن حق، والى ان الابناء الحقيقيين الذين لا يفنون هي الاعمال الفنية لا الابناء وقد أثبتت التجارب ان الفئران والخنافس وأحقر الحيوانات قادرة مثل الانسان على التناسل والانجاب، ولكن الانسان يتفوّق دائما على الحيوان بالفن. 8 ختاما. هل ننصح، الفنانين والفنانات الاحياء لا الاموات، بالزواج؟!! هل نذكّرهم بأنه عليهم ان يختاروا بين الزواج او الفن. أم عليهم ان يوفّقوا بين الزواج وقيوده التي لا ترحم والفن وقيوده التي تحرّر. 9 يُحكى والعهدة على من روى أنه قبل أكثر من ألفي عام، أن سقراط الفيلسوف الاغريقي كان يعاني من زوجته ويقال إنّها كانت «تؤدّبه» بسلاطة لسانها، وسأل تلاميذ سقراط استاذهم وهم على علم بخراب مؤسسته الزوجية: «هل تنصحنا بالزواج يا أستاذ؟» فأجابهم سقراط: «تزوجوا، انصحكم بالزواج، الزواج ضرورة»، وكانت اجاباتهم جاهزة: «ولكنّك لست سعيدا»، فما كان من الفيلسوف الا ان اعاد النصيحة: «قلتُ لكم: تزوّجوا، وأردف: إذا لم تصبحوا ازواجا سعداء، فقد تصبحون