ذل من يغبط الذليل بعيش رُبّ عيش خفّ منه الحمام من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلامُ أبو الطيب المتنبي الآن وقد حصل الذل والمهان ونجح الأمريكان بمهارة وإتقان في تقديم صورة العربي المهزوم وتبليغ رسالة البطل المعصوم ماذا بقي لكي يحصل اليقين ونقلع عن الحنين. أفبعد هذا البيان بيان أم على الأبصار غشاوة لا تزول إلا بانقراض الجنس العربي أو في أحسن الأحوال بتحوله إلى جنس متحفي مثل شعوب الأزتاك والإنكا؟ أقول قولي هذا وفي القلب وجع جراء هذا المنقلب الذي انقلبنا اليه وما ظلمنا أحد ولكننا نحن الظالمون فالعيب ليس في زماننا بقدر ما هو في أنفسنا وقديما قيل : هذا ما جنته على نفسها براقش. ولكن هل ما زال الوقت يسمح بالبكاء والتأسي والحال أن صفارة التاريخ تستعد للإعلان على النهاية؟ لعله من الأجدر أن نستغل الوقت المتبقي لاستخلاص ما يترتب عن هذا الدرس البليغ الذي تلقننا إياه الطغمة المتفردة بالأمر والنهي في عالم يسوده القطب الواحد الأوحد. فلن نذرف الدمع على الرئيس العراقي المخلوع ولم تمض مدة طويلة على مبايعته ! إذ ماذا يهم للشاة سلخها بعد ذبحها ولن ننخدع بتبريرات معتقليه الذين كانوا بالأمس القريب يتوددون اليه ويجرونه جرا لاقتراف ما يستعدون لمحاكمته من أجله ولن نضيف الملح فوق الجرح الذي لم يندمل منذ قرن في فلسطين الشهيدة التي يذبح فيها شعبها شيبا وشبابا وحتى أطفالا على مرأى ومسمع من عالم لا يحرك ساكنا اللهم إلا إذا استثنينا الخريطة التي يجسمها على الواقع جدار الخزي والعار. ولكننا سننتظر ماذا ستؤول إليه وحدة التراب العراقي والقوات الغازية جاثمة فوقه والقوى المتنافرة تتهيأ الى اقتسامه إربا إربا على الملل والنحل التي تزخر بها بلاد الرافدين. وفي الأثناء حري بنا أن نتمعن النظر في ذاتنا ونسأل واقعنا : لماذا هذا التردي ونحن من نحن من أصحاب التاريخ التليد والثروات الهائلة والقدرات البشرية والعمق الاستراتيجي و... و... و.... لقد كنت كتبت مقالا منذ ثلاثين عاما بجريدة «لابراس» واخترت له عنوانا فيه كثيرا من الإستفزاز «العالم العربي غني ومتخلف» وعنوانا ثانيا «ما الفائدة من البترول العربي»؟ وإني أجزم اليوم أن ما دوّنته في ذلك التاريخ لم يفقد كثيرا من فحواه وللتأكد من ذلك يكفي الاطلاع على محتوى تقرير الأممالمتحدة حول التنمية الإنسانية العربية لعام والذي حررته أقلام عربية لريما خلف وبرهان غليون وكلوفيس مقصود ومحمد عابد الجابري وآخرين ولقد اختزل بعضهم التعليق على هذا التقرير بأنه جرد للآفات السبع التي انتشرت في المنطقة العربية وعلى رأسها الجهل وهو أب المصائب حيث أن نصف السكان العرب فوق سنة أميون. أما عن التعليم فإن «أخطر مشكلاته تتمثل في تردي نوعيته وذلك ما يقوض واحدا من الأهداف الأساسية للتنمية». وبالنسبة لحال المعرفة فحدث ولا حرج فوسائل الاتصال متواضعة (اذ لا يتجاوز عدد مستخدمي الأنترنات من السكان) ولا يفوق انتاج الكتب من المجموع العالمي بينما في مجال الترجمة وهي قناة هامة للتواصل مع الآخر فإن متوسط الكتب المترجمة لكل مليون ساكن لا يتجاوز الخمسة مقابل في بلد مثل اسبانيا! أما عن البحث العلمي والإعلام والإنتاج الإبداعي فلقد أقرّ التقرير بأن المعوقات متراكمة إلى حد أنها تحول دون «تهيئة المناخ المعرفي والمجتمعي اللازمين لإنتاج مجتمع المعرفة». ولعل من أبرز تبعات هذا الوضع «نزيف الأدمغة العربية من ذلك أن عدد الأطباء الذين هاجروا بلغ 000.15 بين سنتي 1998 و2000 أما عن وضع المرأة فالكل يعلم أنه باستثناء تونس التي خطت طريقها في هذا المجال وفي غيره بدون غوغائية منذ سنة واستقام مسلكها منذ لم يقع انتشال نصف المجتمع والانتفاع بقدراته وأن هذا لعمري من نكد الزمان أن تكون الأمة التي أنجبت خديجة وعائشة وغيرهما من أمهات المؤمنين وبطلاتهم تشل نفسها بنفسها. وبعد أن تناول التقرير الأوضاع السياسية وما يشوبها تخلص الى ما أشرت اليه آنفا من ازدواجية الثراء والتخلف حيث وردت هذه الفقرة التي يستوحي منها المرء ذلك السؤال الحائر : هل البترول نقمة أم نعمة؟ لقد أصابت الطفرة النفطية عددا من القيم التي يمكن أن تؤازر اكتساب المعرفة ونشرها ولكن القيم السالبة التي انتشرت خلال الفترة الماضية قعدت الإبداع وأفرغت المعرفة من مضمونها التنموي فضعفت القيم الاجتماعية للعالم والمتعلم والمثقف وكادت القيمة الاجتماعية العليا تنحصر في الثراء والمال وأضيف والنجومية في الفن والرياضة حيث أكد الدكتور أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء أن من غرائب المواطن العربي أنه مطلع على أخبار نانسي عجرم أكثر مما هو ملم بأصداء الجامعيين والباحثين وإنه ليستحضرني مقال ورد في مجلة «جون أفريك» على اثر هزيمة تحت عنوان : «هل يجب احراق أم كلثوم» يتخلص فيه الكاتب الى أن الشعب الذي وقع تخديره بأغاني كوكب الشرق لا يمكنه التنبه إلى المخاطر المحدقة به ولا إلى الصمود أمامها إن هي وقعت. واليوم قد رحلت أم كلثوم فلقد بقيت الأطلال بكل معاني الكلمة وهي التي ذيّلها ابراهيم ناجي بذلك العجز المأثور : لا تقل شيئا فإن الحظ شاء والصواب فيما يخصنا نحن العرب هو أنه بالفعل شئنا فكان حظنا حسب مشيئتنا. فلنستنهض الفكر ولنشمر عن الساعد ولنعمل ولنكد ولنتعظ من أخطائنا ولنستفيد من تجارب الآخرين ولنطلب العلم ولو كان في الصين... لقد سئل أحد منظري التحول الاقتصادي في الصين على اثر محاضرة ألقاها أخيرا في رحاب «بيت الحكمة» بقرطاج «هل صحيح أن الصين ستصبح حسب الدراسات الاستشرافية ندا للولايات المتحدة في آفاق سنة ؟ فتبسم وقال : لن يقع هذا إلا في آفاق سنة وعلى شرط أن يدخل الأمريكان في سبات خلال كامل القرن. ولعل هذا درس آخر في العمل في كنف التواضع وعدم التسرع في الإعلان عن الانتصار قبل الأوان. وما دمنا نتحدث عن العملاقين فيجدر بنا أن نذكر بحقيقة اقتصادية وجيولوجية في نفس الوقت وهي أنهما أي الصين وأمريكا في حاجة ملحة على المدى المتوسط الى نسبة هائلة تفوق الثلثين من احتياجاتهم للنفط الذي تزخر به الطبقات الأرضية والبحرية للمنطقة العربية وهو ما يفسر كثيرا من الأحداث الراهنة ويبرر المواقف المعلنة والمكتومة. فهلا استفدنا من هذه الثروات المكنونة والخيرات المخزونة والجواب طبعا لا وعلى الأقل ليس بما فيه الكفاية وإلا لما حط اجمالي انتاجنا القومي عن الناتج المحلي لبلد واحد مثل ايطاليا. وخلاصة القول أنه بات محتوما اليوم أمام استفحال الداء وتربص الأعداء إحداث رجة ثقافية بالأساس مصحوبة برياح فكرية مستنيرة لا شرقية ولا غربية تجتث رواسب الماضوية وتزرع بذور الإنسان العربي الجديد الذي يرفع التحدي ويدفع الإهانة.