لم تكد الحرب الباردة تضع اوزارها بين الشرق والغرب، حتى اخذ يظهر شكل آخر من اشكال الصراع اطلق عليه الامريكي صامويل هنتنجتون اليهودي الأصل (1993) «صدام الحضارات» (1) بدلا من كونه صداما بين الايديولوجيات او القوميات، في ظل الليبرالية العالمية التي تهدف الى خلق حضارة عالمية او ثقافة كونية Culture globale وقد قصد هنتنجتون من وراء مقالته عن صراع الحضارات ثم كتابه (1996) في الموضوع نفسه الى تصوير المشهد العالمي بعد انقضاء الحرب الباردة، ليقترح استراتيجية للولايات المتحدة لمواجهة تلك المتغيرات. ولأنه ليس مؤرخا بل هو باحث استراتيجي فقد كانت خطوتاه متعجلتين، وتسببتا في اضفاء شيء من التسرع على استنتاجاته في الخطوة الثالثة، مما دفع مفكرا كالراحل ادوارد سعيد الى تسمية الاطروحة: صدام او صراع الجهالات! طرح هنتنجتون فكرته الاولى القائلة انه بعد انقضاء الحرب الباردة فإن طبيعة الصراعات على المستوى العالمي ستتغيّر. كانت تلك الصراعات في الماضي القريب ذات طبائع ايديولوجية وسياسية واقتصادية واستراتيجية. والحرب الباردة هي النموذج الاوضح لتلك التجاذبات والصدامات. اما في المرحلة الثانية في الحاضر والمدى المنظور، فإن الباحث انصرف لدراسة الصراعات البديلة او الجديدة: انها صراعات الثقافات والحضارات.. بمعنى انها ستجري بين المجال الحضاري الغربي، والمجالات الحضارية الاخرى الباقية في العالم، والتي يقول انها ستة او سبعة، اهمها المجال الكونفوشيوسي/ البوذي، والمجال الاسلامي. اما المعالم او العناصر التي رأى انها تحدد المجال الثقافي او الحضاري فهي: الدين والتجربة التاريخية العريقة، والامتداد الجغرافي المترابط او المتماسك والوعي الذاتي القوي. ومع انه يخشى من امكان التحالف بين المجالين القويين والباقيين: الكونفوشيوسي/ البوذي، والاسلامي، غير انه يلاحظ ان الانبعاث الحضاري الاول يتجه لتسوية اموره مع الحضارة الغربية بعد تحقيق نجاحات اقتصادية وسياسية بالتحاور والتجاور والتنافس مع الغرب وقيمه وممارساته ونظمه: في حين تتجه الصحوة الاسلامية الى الانعكاف على الذات، والى مواجهة الحضارة الغربية المنتصرة وتحديها، وبسبب من نزعتي التأكيد على الهوية الذاتية، وعدم القبول بالانضواء تحت لواء القيم الحضارية الغربية فإن الباحث يستنتج من وقائع وأحداث يسردها من التاريخين القديم والحديث ان للاسلام تخوما دموية! ومع ذلك فإنه لا يرى ان الصدام بين الاسلام والغرب حتمي الحدوث، ويقترح افكارا للقاء والتحاور لكنه لاحظ في مناسبات عدة في السنوات الاخيرة تصديقا لاسنتاجيه الرئيسيين، الصراعات، صراعات بين المجالات الحضارية، وابرز ساحات الصراع كائنة بين الاسلام والغرب!! ماذا يعني هذا؟ هذا يعني ان سياسات الهيمنة والغطرسة في النظام الدولي لاتزال مستمرة ومهيمنة على نمط العلاقات الدولية على رغم التطورات والتحولات الكثيرة التي شهدها العالم من حولنا ولا يخفى ان العالم العربي والاسلامي اكثر المتأثرين والمنفعلين بذلك... وهذا يعني ايضا اننا سنكون ضحية التاريخ والجغرافيا. ضحية التاريخ لأن الذاكرة الغربية مازال في داخلها مخزون من المخاوف والهواجس والشكوك نحونا، وهو مخزون صنعه نظام دولي قديم كانت الانتماءات فيه تنسج وفق العقائد الدينية، ولم تستطع كل علمانيات النظام الدولي المعاصر صرفها من ذاكرة الغرب. ويقابلها في الشرق الاسلامي صيحات تحد متشنجة تؤكد تلك المخاوف غير اننا كذلك ضحية الجغرافيا لأن اسوارنا لصيقة بأسوار الغرب كله. اننا لسنا شركاء في البحر الابيض المتوسط فحسب بل كذلك شركاء في النزاع على احقية تمثيل التراث الابراهيمي للأنبياء. ومن التلقائىة ان يكون الخطر القريب هو الخطر الاول، ولهذا كنا في ذهن الاستراتيجي الغربي وسنكون العدو التالي بعد الشيوعية «وبخاصة اذا ظلت المناهج التربوية والتعليمية والثقافية ونتاج الأدب والفن تستمد معرفتها بنا من ذلك المخزون التاريخي، والتي لم يسلم منها حتى الانتاج السينمائي الذي ولد في احضان الثقافة العلمانية» (2) وهذا يعني اولا واخيرا ان هناك صيحات متطرفة تسعى لتحويل منطقتنا الى ميدان حرب طويلة، تارة تحت عنوان حرب الارهاب والتطرف وتارة تحت عنوان صراع الحضارات وتارة تحت عنوان تدمير اسلحة الدمار الشامل. ويسعى منظرو هذه الحرب لجمع العالم كله جبهة واحدة ضد المسلمين. يقول هنتنجتون «ان القوى الغربية المتمثلة في الولاياتالمتحدة واوروبا ينبغي لها ان تحقق درجة اعظم من التكامل السياسي والاقتصادي والعسكري، كما ينبغي لها تنسيق سياساتها حتى لا تتمكن الدول والحضارات الأخرى من ان تستغل خلافاتها نحتاج الى استيعاب الدول الغربية من وسط اوروبا في صفوف الناتو والاتحاد الاوروبي، واقصد بذلك التشيك والسلوفاك والمجر وبولندا ودول البلطيق وسلوفانيا وكرواتيا وعلى الولاياتالمتحدة ان تشجع تغريب امريكا اللاتينية وان توقف انسلاخ اليابان بعيدا عن الدول الغربية في اتجاه التطبيع والتقارب مع الصين، وان تقبل روسيا باعتبارها المركز الرئيسي للأرثوذكسية، وعلى الغرب ان يحافظ على تفوقه التقني والعسكري على الحضارات الاخرى وان يفرض القيود والحدود على القوة العسكرية التقليدية وغير التقليدية للاقطار الاسلامية والصين» (3). الا ان هذا الباحث الامريكي يتحاشى التوسع في حديث الاقتصاد وكأنه يتلافى المقدمة الوحيدة الصحيحة الى النتائج الصحيحة ايضا. انه يتجاهل جيوش العاطلين عن العمل في اوروبا، ومعدلات التضخم المتصاعدة كالورم السرطاني، والعجز المطرد في ميزان المدفوعات، ويعالج القضايا «الفكرية» كأنها كارثة قدرية كالأحداث الطبيعية الخارقة من زلازل وبراكين. انه بالتالي، يتناسى انه داخل اليابان شرقا وغربا، وانه داخل فرنسا مثلا غرب فرنسي وغرب امريكي، وان الموقع الجغرافي وحده لا يصنع الشرق الحضاري ولا الغرب الحضاري. ولكن امريكا في اقصى الشمال لها شرقها ولها غربها. اما شرق «آسيا» او غرب «أوروبا» فإن حوارا جديا بينهما لم يحدث، طالما يأتمران بالصوت القادم من واشنطن. ومعنى ذلك، اننا يجب ان نحذر بوضوح من التقسيمات «الحضارية» الملفقة، والقائلة على سبيل المثال، بأن هناك حضارة «شرقية» تمتد ما بين طنجة في المغرب الى آخر جزيرة يابانية. ليس هذا صحيحا بأية حال وليس صحيحا بالمقدار نفسه القول بأيديولوجية الحضارة اي انه على سبيل المثال هناك حضارة اشتراكية واحدة تربط بين المواطن الفيتنامي والمواطن الكوبي وكلا القولين ليس صحيحا. فما ابعد المفهوم الاسلامي للحضارة عن المفهوم البوذي او الكونفشيوسي وكلها مفاهيم شرعية. ذلك ان التراث النوعي الخاص لكل امة هو الذي يمنح انتماءها الحضاري هذا البعد دون ذاك. وهو الانتماء الذي تحدده البيئة والتاريخ والتطوّر. من هنا لا يجوز تقسيم العالم تقسيما جغرافيا ستاتيكيا الى شرق وغرب، ولا يجوز في الوقت نفسه توحيد العالم توحيدا سياسيا واقتصاديا يقول بانتساب دولة «بنين» «افريقيا» الى الحضارة الاشتراكية التي ضمت سابقا بولاندا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا مثلا. ونظرية هنتنجتون اكبر برهان على ذلك، فهي لا تؤسس لحوار شرقي غربي بل تشير الى حصار غربي غربي يقول بأفصح عبارة ان الشروق قادم من الغرب على حساب «العالم الثالث» وليله الابدي بلا فجر. فهذه هي القضية كما يطرحها كتاب هنتنجتون على نحو معكوس: ان نادي الاغنياء يضيء لياليه بزيت الفقراء.. ونادي الفقراء مظلم لانه يكتفي بفتات الموائد مقابل زيته. وكأن المعادلة «القدرية» هي هكذا، فالشروق الغربي يعتمد على بقاء الليل العربي وغير العربي. هذا لا يعني بالطبع انه ليس هناك ليل غربي، فالبطالة تزداد والتضخم والعجز في ميزان المدفوعات ولكن جنون الاستهلاك هو السبب، والحيلولة دون نظام اقتصادي عالمي جديد يحقق التوازن بين المتقدمين والمتخلفين هو سبب الاسباب. وتبقى الحروب الصغيرة والكثيرة على ارض العالم الثالث هي الحل الامثل لمعادلة الليل والشروق عند الغرب... وليس «الاسلام» او «حوار الحضارات» على الاطلاق. ما العمل؟ ان العمل المطلوب من العرب النهوض اليوم للحفاظ على وجودهم في المحل الاول وضمان مستقبلهم، وحضورهم المشرف في خريطة الغد البشري، والدفاع عن ثقافتهم وحضارتهم في وجه حملات التشويه المغرضة احقاقا للحق ووفاء لتاريخ مشرق ورفعا لظلم غاشم، هذا العمل يتحتم ان يتجاوز القطري الى القومي لا بمنطق التاريخ المشترك والثقافة الواحدة والحضارة الواحدة والمصلحة المشتركة فحسب، بل ايضا بالمنطق الذي يفرضه الغرب علينا اليوم من خلال أطروحاته وأطروحاته ويفرضه التوجه الدولي السائد الى تشكيل التكتلات الاقليمية الكبرى، فالعمل العربي المشترك هو السبيل الوحيد في المرحلة القادمة، وهو لاشك الاطار الموجه للفعل العربي على الساحة الدولية. * محمد المحسن: الإدارة الجهوية للتعليم (تطاوين) الهوامش 1 انظر: صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات... اعادة صنع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشابي، دار سطور للنشر، القاهرة، 1997 ص1011 2 اسماعيل الشطي عضو مجلس الامة الكويتي سابقا عن مجلة المستقبل العربي، العدد 283 2002/9