بقلم : السيدة نجاح يوسف (شاعرة وكاتبة) «سنترك المجال الاقتصادي للمختصين كي يدلوا فيه بدلوهم.. «بهذه الكلمات او غيرها من العبارات التي تفيد نفس المعنى صرّح ممثل أكثر من حزب سياسي.. المعنى واحد حتى وان اختلفت التعابير المستعملة... الحزب لا يحمل برنامجا اقتصاديا كي يقدمه لجمهور المشاهدين الذين يمثلون دون شك نسبة هامة من الشعب التونسي.. الشعب الذي يفترض بأي حزب ان يسعى لخدمته ويعمل لصالحه... حل من تلك الحلول السهلة التي لا يسعى اليها عادة رجل السياسة الناضج المحنك حتى وإن كان النضج السياسي في أحيان كثيرة يعني التلاعب بالمتلقي واغراقه في جملة من الأكاذيب والترهات والوعود الزائفة التي يصعب على عقل المثقف تفنيدها فما بالك برجل الشارع البسيط؟ ومع ذلك، تسعى أحزاب كثيرة لم تر تأشيرة ولادتها الا منذ أسابيع أو أشهر قليلة لجمع المؤيدين والأنصار ولنقل أصوات الناخبين من خلال وعود تبدو بعيدة أشد البعد عن المصداقية وتقترب لحد كبير من لعبة الدعاية الزائفة التي حذقها النظام السابق وبرع فيها أشد البراعة!.. أحزاب كثيرة تدعي انها قادرة على حل مشكل التشغيل بسهولة تثير السخرية أكثر مما تثير الذهول.. فما رأيكم في حزب يقول انه يستطيع تشغيل ستة ملايين شخص دفعة واحدة؟ أو في حزب يؤكد انه يستطيع القضاء نهائيا على مشكل البطالة وفي ظرف لا يتجاوز الخمس سنوات؟.. ما كان اسم ذلك الحزب او ذاك؟.. لا أتذكر.. ولا تطلبوا مني أن أتذكر.. فمع العدد الهائل المتزايد مع الأحزاب التي حرصت على متابعتها يوميا عبر شاشة التلفاز تحول الامر الى معضلة حقيقية!.. تكاثرت الاسماء وتشابهت الى حد تساءلت معه أكثر من مرة: لمصلحة من يحدث ما يحدث؟ هل لمصلحة الناخب الذي لم يعد يفرق بين حزب وآخر فما بالك ببرنامج وآخر، هذا طبعا اذا كان لجميع الاحزاب برامج تستحق ان تحمل ذلك الاسم؟.. ناخب ربما تخلى عن فكرة الدخول في اللعبة السياسية رغم كونها أثارت اهتمامه أثناء الثورة وبعدها مباشرة لا لسبب الا لكون كثرة الأحزاب تمنعه من التمييز بين الخبيث والطيب، الغث والسمين، كما يقال... وسأشبه الامر بسوق للخضار حتى وإن لم يرق التشبيه للكثيرين.. سوق تعرض فيها البضائع بحيث يمكنك التثبت من جودة السلعة بتدقيق النظر اليها، وربما تجرأت وتلمستها بيدك قبل ان تحزم أمرك وتقرر الشراء من هذا البائع او ذاك.. ولكن كيف نتصرف في سوق السياسة؟ تلك السوق التي يكثر فيها باعة الكلام.. كلام يحتمل الصدق كما يحتمل الكذب ولا نملك جميعا تلك القدرة الفذة على استقراء النفوس ومعرفة ما يجول في باطنها.. من نصدق؟.. من لا نصدق؟.. خصوصا وان التجارب السابقة علمتنا ان لا نصدق كل ما يقال، كما علمتنا ان ليس الاقدر على الكلام هو الاقدر على الفعل الصادق... أما كان الأجدى والأنفع أن نتلافى كل هذا الارتباك بوضع بعض الشروط التي لا يمكن ان يقوم اي حزب بدونها؟ من ذلك مثلا تقديم برنامج متكامل في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بكل ما تحويه من مجالات فرعية كنظام الحكم والعلاقات الدولية والتعليم والصحة والتشغيل والجباية؟.. ولم لا ارفاق مطلب الحصول على تأشيرة بعدد محدد من الامضاءات لأشخاص يساندون الحزب؟.. امضاءات لا تتكرر من حزب الى آخر، وبذلك نجنب الدولة عبء تمويل ذلك العدد الهائل من الأحزاب التي لا يعلم أحد العدد الحقيقي لمنخرطيها، كما نضمن ان تكون لكل حزب قاعدة كافية تمكنه من دخول اللعبة السياسية بجدارة وتبعدنا عن تلك الاحزاب العائلية التي تحصل على التأشيرة وهي لا تعلم أين تريد الوصول ولا كيف يمكنها الوصول لما تسعى إليه؟ ارتباك واضح في تسيير شؤون الدولة حتى وقد اجتمع كبار الحقوقيين ورجال السياسة... ارتباك في السير بالبلاد من نظام تعسفي استبدادي لنظام جمهوري ديمقراطي... ارادة التغيير تتراوح بين الوضوح والعتمة ووحدها الانتخابات تستطيع ان تجزم... إرادة ليس امامها الا السير في الطريق التي رسمته لها إرادة تتجاوزها حجما وقوة هي ارادة الجماهير الحاشدة التي قالت كلمتها عندما صاحت «لا» في وجه الطاغية والتي عبرت في أكثر من مناسبة عن استعدادها للنزول للشارع إذا رأت زيغا عن السبيل الذي رسمته لنفسها والتفافا على مطالبها المشروعة. ونتعلم يوما بعد يوم أن نتكلم... نتعلم عبر صفحات الانترنات التي فتحت المجال شاسعا للنقاش والتحاور... وعبر اجتماعات الاحزاب التي تنتظم في اكثر من مكان... وعبر الحوارات التلفزية والاذاعية التي تجمع ممثلي الاحزاب والمشاركين في الحياة السياسية والجمعياتية بمختلف مشاربهم... يحدث التشنج بين الحين والآخر، لكنه تشنج سريع الزوال بعد ان تعلم معظم المتدخلين كيف يضبطون أنفسهم ويقبلون الاخر مهما كانت درجة اختلافه عنهم. نتعلم ان نتكلم بعد ان منعنا الكلام طويلا... احتكر الكلام دعاة الحزب البائد وبعض الاحزاب الموالية... يتكلمون وهم يرفعون اصواتهم ورؤوسهم عاليا وكان الأجدر بهم ان ينكسوها وقد باعوا ضمائرهم من أجل جاه ومال هما الى زوال... يتكلمون كي يمجدوا نظاما أفسد الوطن وأبناءه بشتى الوسائل: من دعارة الى مخدرات الى رشوة ومحسوبية والقائمة طويلة، طويلة جدا... نتعلم أن نتكلم... لكن ماذا لو تكلمنا بنفس طريقة من سبقونا؟... ماذا لو لجأنا لخداع الآخر؟... أو ماذا لو كان كلامنا تعوزه الافكار السليمة والدراسات الموثوق بها؟ أليس أن أكبر خبراء الاقتصاد لم ينجحوا في حل ازمة الولاياتالمتحدةالامريكية ولا أزمة اليونان المالية؟ وانه يفترض برجل السياسة أن يوجه رجل الاقتصاد نحو الخيارات الاقتصادية التي يريدها لا العكس؟ وأن هناك ما يدعى بالاقتصاد السياسي الذي لا يحتاج حسابات معقدة بقدر ما يستلزم رؤيا مستقبلية واضحة تنطلق من الواقع المعاش كي تجد الحلول المناسبة؟ إن السياسة الاقتصادية التي نجحت في بلد قد لا تنجح ضرورة في بلد آخر وإنا نخشى ان يحولنا خبراء الاقتصاد الى نظام ليبرالي لا يعترف الا بسلطة المال ويلغي حق المواطن في التعليم والعلاج المجاني لفائدة بعض الشركات العملاقة التي تسيطر لا فقط على سوق المال بل وكذلك على سوق السياسة كي ننجو من زبانية التجمع لنجد انفسنا تحت وطأة رأس المال المتوحش!