بدا الفضاء شامخا على غير عادته زادته الشعارات التي غمرت الركح المضيء... اضاءة... دخلت القاعة في صمت وقور... فتحولت العتمة التي تشق المقاعد المثبتة أمام الركح، ككل قاعات العرض السينمائي والمسرحي، الى فضاء تتقاسمه الشموع... والشموع في سهرة أمس الأول بمناسبة احياء الذكرى الخمسين لاغتيال الشهيد صالح بن يوسف، هي تلك الكلمات الشهادات التي تقاسمها رفاق درب صالح بن يوسف ممن أنعم عليهم الله بطول العمر... فضاء الفن الرابع بالعاصمة... هو المكان... والعاشرة ليلا من مساء أمس الأول 12 أوت هو الزمان... وما بينهما، حركية رمضانية، تعترضك يمنة ويسرة، على طول «شارع بورقيبة»... أين آثر مئات التونسيين «الانتقام» من عطش اليوم الرمضاني الطويل، بأن تجالسوا جماعات جماعات على طول ناصيتي الشارع الذي بدت فيه المقاهي صفا واحدا لا يفصل بين المقهى والمقهى سوى مقهى... بدت وزارة الداخلية التي تحيط بها الاسلاك الشائكة، ودبابة «جيشنا» أو دبابتين هي الشاهد، على أن 14 جانفي 2011 هو المسرع للأحداث التي جعلت في ما جعلت فضاء «بشارع باريس» يتفرع عن «شارع بورقيبة» هو الحاضن لاحياء ذكرى اغتيال صالح بن يوسف... وفتح ملف الجريمة التي يحمل من المفارقات الشارعين المعنيين، اسمي من عادى صالح بن يوسف وفرح على الاقل للتخلص منه... بدا الزعيم صالح بن يوسف، عبر الشعارات التي غمرت أعالي الركح، شامخا كما كنا نسمع عنه خلسة وفي مجالس مؤمنة من أعين الوشاة... «الوفاء لنضال الزعيم الكبير صالح بن يوسف في ذكرى استشهاده واجب وطني وأخلاقي» كان هذا شعار الصدارة، وقد يكون فحواه، أسهم في اعطاء السيدة صوفية زهير أرملته الصابرة، ذاك الدفع لتعبر عن شكرها للجميع وقد تبنت من حيث لم تخطط لذلك، كل هذه التظاهرة وهذه الفعالية التي تحدث لأول مرة... في تونس بفعل الثورة... ثورة الكرامة، وذلك حين قالت السيدة صوفية: أشكركم جميعا... لأنكم «جيتوني» أي أنكم أتيتم الى... أيقنت أرملة الشهيد ان كل «تونس اليوم، هي منزلها ودارها... تتقبل فيها التعازي كما التهاني، لأن طرح صالح بن يوسف هو الاصوب... كانت فرحتها كبيرة، حين تمكنت من أن تسمع وتتكلم عن صالح بن يوسف الزعيم والمناضل... الذي لم يصبه كاتم الصوت وحده... بل أصاب كل التونسيين، حين بقيت هي وابنيها في مصر... وحين تلقت التعازي من كل العرب... ما عدا من تونس الرسمية التي بدأ بورقيبة يقدها على أهوائه الى أن «حدفنا» ذات يوم ببن علي... «صالح بن يوسف ابن تونس البار وعلم بارز»، من أعلام نضالها نحو الحرية والكرامة» هكذا نطق الشعار الثاني، وقد جاء متوافقا ومنسجما مع ما حدث في تونس: بعد خمسين سنة... لكأن الرجل سقا بدمائه طريق التحرر الفعلي والشهادة من أجل حرية وكرامة تونس... من هذا المنطلق، تناول المناضل الكبير السيد علي بن سالم، (أمد الله في أنفاسه) رفيق درب صالح بن يوسف، المصدح وقال في شهادته اختزالا لمرحلة نضالية ومواقف بطولية لصالح بن يوسف، وكشف لأول مرة في العلن، أن اغتيال (صالح بن يوسف لم يكن بتخطيط تونسي فقط، بل ان قوى الاستعمار العالمي، التي كانت ترفض بشدة، بل وتضع خطا أحمر أمام وجود أو بروز أي زعيم مثل جمال عبد الناصر في المغرب العربي، فشطبت بعملية فرانكفورت، الزعيم صالح بن يوسف صاحب مقولة: «انها خطوة الى الوراء» حين هم الأمر ابداء الرأي في اتفاقيات 1955 وما يسمى بالاستقلال الداخلي... وكان صالح بن يوسف، يضيف «سي علي بن سالم» ينادي بوحدة المغرب العربي النضالية والمصيرية عن مبدإ وليس عن مناورة... المناضل علي بن سالم طالب بفتح التحقيق في أخطر ملف من حيث انه جريمة لم تواجه بالعقاب، وأقصد ملف «صباط الظلام» في المدينة العتيقة، حيث وقع تعذيب وتقتيل أعضاء الأمانة العامة بقيادة صالح بن يوسف. كان جمال عبد الناصر وصالح بن يوسف متآخيين، لذلك تصدى الغرب كاملا لمشروعيهما: ربط الأمة مشرقها بمغربها... فقد كان هذا الطرح، لو تحقّق، سيُقبر اتفاقيات «سايكس بيكو» (1916) السرية ووعد «بلفور» (1917) المشؤوم.. استشهد صالح بن يوسف، في عملية اغتيال تعرّض لها في فرانكفورت (بألمانيا) سنة 1961 ورفضت السلطات التونسية دفن الشهيد في تونس، وكانت له جنازة مهيبة في القاهرة، واستقبل المناضل المغربي عبد الكريم الخطابي، جثمان الفقيد بالقاهرة، وقتها، لم يكن ممكنا ولا متاحا أن يقرأ الشعب التونسي الذي أحب بن يوسف وسانده، لم يكن متاحا له أن يتلو الفاتحة على روح الشهيد علنا، كما فعلها جزء منه أمس الأول في قاعة «الفن الرابع» بالعاصمة... بعد خمسين عاما عن اغتياله، يطلب شيخ المناضلين وأحد «هامات» الحركة الوطنية والعربية السيد «حسين التريكي» الذي كان حاضرا وأدلى بشهادة في حق الزعيم صالح بن يوسف، حين قال: «إن صالح بن يوسف، هو الرجل الوحيد الذي قال لا لبورقيبة سنة 1955»... قال له لا مباشرة بعد أن عاد بورقيبة في جوان 1955 من المنفى وقد وقع له استقبال شعبي كبير... واصفا موقف صالح بن يوسف والأمانة العامة بالعظيم والمغيّر للتاريخ في التصدي للسياسة المعوجّة.. واستشهد الأستاذ حسين التريكي، الذي جاء إلى تونس بعد الثورة وهو يقيم في الأرجنتين منفيّا بموقف بورقيبة بخصوص الاستقلال حين ارتكز على موقف صالح بن يوسف الثابت والمبدئي من مسألة الاستقلال ففاوض به الفرنسيين حتى يرفّع في سقف اتفاقيات 1956... أما ابن الشهيد الدكتور لطفي بن يوسف، القادم من الولاياتالمتحدةالأمريكية فقد آثر التذكير والتذكّر، بأن فكر ومبادئ صالح بن يوسف، نجدها تتحقق اليوم بعد مرور خمسين عاما على استشهاده... من ذلك أن تونس الثورة كانت المنارة والنبراس لكل الثورات العربية وهذا يقول د. لطفي بن يوسف بلكنة لا تزال شرقية بحكم أنه عاش بمصر دليل على أن طرح صالح بن يوسف بخصوص الوطن العربي وجيه فهذا الوطن واحد وهذه الأمة العربية واحدة وأن مقولة تونس أقرب لفرنسا، هي مقولة مغلوطة... وأضاف: ما حدث في تونس (الثورة) جعلني أشعر بالفخر أنني تونسي... وأن كلام بن يوسف في الخمسينات كان صوابا. آفة عربية واحدة.. وطن عربي واحد.. وأن تونس ليست جزءا من فرنسا.. فنحن تونسيون عرب... فرقة المتوسط للموسيقى بجربة بقيادة طارق ترجّت هي التي أمّنت الفقرات التي تخلّلت الكلمات والشهادات.. فكانت البداية مع «الأرض بتتكلّم عربي» ثمّ جاء دور أجمل الأمهات.. التي انتظرت ابنها.. فعاد شهيدا.. الأستاذ أحمد الصديق عن حزب الطليعة العربي الديمقراطي قدّم شهادة بوصفه من جهة جربة وابن أحد رفاق صالح بن يوسف حيث زار الصديق مدينة تالة نهاية الثمانينات فتفطّن بأن جذوة اليوسفية ما تزال موجودة حين سأله أحد الشيوخ هل أنّ له قرابة بحكم أنه أصيل جربة بصالح بن يوسف فقال له إن والدي يوسفي، فتفطّن من خلال الحديث أن الرجل الذي أمامه كان مع والده في الأمانة العامة بجهة القلعة بالساحل.. وأضاف: هذا التراث لم يُنبش بعد.. وأن التونسيين مازال فيهم الوفاء وهذه التظاهرة إحدى تعبيرات الوفاء لصالح بن يوسف. أما الأستاذ عمر الشاهد (حزب الشعب) فقد أكد ضرورة المطالبة بفتح ملف «صبّاط الظلام» مشددا على أن ظهير البؤس في القصرينوتالة هو الذي أجّج هذه الثورة العربية الكبرى التي انطلقت من تونس.. هذا جيل جديد يخرج من هذه الأمة ذات الرسالة العظيمة...