تناولت حلقة الأسبوع الماضي بروز مفهوم المواطنة في المجتمع الغربي في مرحلة نضج فلسفة الأنوار، وقبيل اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى، ثم تطور في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتأثر به التنويريون العرب، ولكن كيف الأمر في المجتمع العربي الإسلامي ؟ ذلك هوهدف حلقة اليوم. عندما يعود الدارس إلى أدبيات الفكر السياسي العربي الحديث يتضح له أن المفهوم السائد حتى مطلع القرن العشرين هومفهوم الرعية، ولم يكن الناس رعايا الدولة، بل هم رعايا الخليفة، أوالسلطان، أوالإمام، أوالأمير. وبعد ميلاد النظم الجمهورية بقوا رعايا السلطة ورعايا الحاكم بأمره، بالرغم من المظاهر الشكلية من دساتير، ومجالس نيابية، وانتخابات. برز مفهوم الوطن والمواطن بالمعنى الحديث في أدبيات الفكر الإصلاحي العربي ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر، فلم يتحدث رواد الإصلاح عن المواطنة، لكنهم استعملوا مفهوم حب الوطن وربطوه بالحرية، وبالحكم المطلق الاستبدادي الذي زهد في الوطن بالأمس، ويزهد في المواطنة اليوم. كتب أحمد بن أبي الضياف (1802-1874) في كتابه «إتحاف أهل الزمان ...» منددا بالحكم المطلق، ومعللا ضعف الممالك الإسلامية، قال : «ومن المعلوم أن شدة الملك القهري تفضي إلى نقص في بعض الكمالات الإنسانية من الشجاعة، وإباءة الضيم، والمدافعة عن المروءة، وحب الوطن والغيرة عليه، حتى صار بعض الجهات من المسلمين عبيد جباية ليس لهم من مسقط رؤوسهم وبلادهم، ومنبت آبائهم وأجدادهم إلا إعطاء الدرهم والدينار على مذلة وصغار، والربط على الخسف ربط الحمار حتى زهدوا في حب الوطن والدار، وانسلخوا من أخلاق الأحرار، وهذه أعظم الأسباب في ضعف الممالك الإسلامية وخرابها». وما أشبه الليلة بالبارحة ! إن المواطنة مرتبطة بحب الوطن والذود عنه، ولا يتم ذلك إلا إذا شعر المواطن أنه يتمتع بحقوقه، التي هي متلازمة مع الواجبات. إن لمفهوم المواطنة علاقة متينة بمفاهيم ثلاثة: التمدن، الحقوق السياسية والمدنية، ومرتبطة بالخصوص بالحرية فلا مواطنة بدون حرية. أود الإشارة في هذا الصدد إلى أن المواطنة مرتبطة بالقدوة والنموذج كذلك، فلا يمكن أن تطالب السلطة المواطن باحترام قيم المواطنة، والدفاع عن المصلحة العامة وهي غارقة في كثير من الحالات إلى الأذقان في الفساد، وقاطعة أرزاق الناس ورقابهم، إذ إن المقولة القديمة «الناس على دين ملوكهم» ما تزال مؤثرة في المجتمعات العربية. ومن المعروف أن ضعف الشعور بالانتساب إلى الوطن، أوإلى الأمة يفرز الالتجاء إلى الجماعة، وإلى العشيرة، وإلى الطائفة. من المنطقي والمؤمل أن يتجذر الشعور بالمواطنة، وتتوارى عندئذ النعرات العشائرية والإثنية، والطائفية بعد مرور قرن ونصف على نص ابن إبي الضياف، ثم بروز حركات تحرر وطنية عارمة في الوطن العربي على مدى النصف الأول من القرن العشرين مركزة أساسا على حب الوطن، والاستماتة في الذود عنه، ثم تلت ذلك موجة السياسات التربوية، وتنشئة أجيال جديدة من المتعلمين، وما ارتبط بذلك من التدرج في السلم الاجتماعي. كل هذه العوامل كان من المؤمل أن تفضي إلى تعمق الشعور بالمواطنة، لكن هذه النتيجة المنطقية لم تتحقق كما يشهد على ذلك الواقع العربي اليوم، وهنا يطرح السؤال التالي نفسه : ما هي الأسباب ؟ لا شك أنها متعددة ومتنوعة، لكنني أميل إلى الاعتقاد بأن السبب الحاسم هوتحول الدولة الوطنية، البنت الشرعية لحركات التحرر الوطني، إلى دولة قامعة همشت المواطن العربي، وتفاقم الأمر لما سيطرت المؤسسة العسكرية، ونظام الحزب الواحد على السلطة، فأممت الدولة والمجتمع. إن وقوع الأقطار العربية في حالات معينة تحت نير المحنتين معا : العسكر، ونظام الحزب الواحد، لم يلحق الضرر بالمواطنة على مستوى الوطن الصغير فحسب؛ بل تجاوز ذلك إلى الوطن الكبير، فقد حلم عدد كبير في صفوف النخبة العربية المثقفة بأن يتحول الشعور بالمواطنة على المستوى القطري، بعد المد العارم الذي عرفه التيار القومي في الخمسينيات، إلى ترسخ ظاهرة المواطنة العربية، خصوصا أن أسسها السياسية والحضارية عريقة في التربة العربية، لكن انعدام المواطنة السياسية للأسباب التي ألمعت إليها عصف بالأسس، وأدى إلى ضعف الشعور بالهوية القومية، بل أفسح المجال لبروز هويات ضيقة متناقضة مع الهوية الوطنية والقومية معا، وأعني الهويات القبلية، والإثنية، والطائفية.