فتح الترشح لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي معركة داخل الأحزاب وحتى داخل التحالفات الحزبية بسبب اللّهث وراء الفوز برئاسة القائمات أو بسبب تحفّظات على بعض الأسماء أو اختلافات في آليات الترشح... «الشروق» تابعت الموضوع. ظاهرة الصراعات والانشقاقات داخل الأحزاب عشية الانتخابات ليست وليدة اللحظة، بل هي ظاهرة قديمة كانت موجودة حتى زمن الديمقراطية الزائفة، ولئن كانت الأسباب آنذاك مفهومة فإن المشهد السياسي في تونس ما بعد الثورة يفترض أن يكون مبنيّا على الشفافية والتنافس النزيه لا على أساس المصلحة والتكالب على الجاه وإقامة التحالفات مع أصحاب رؤوس الأموال. ظاهرة إيجابية ومن بين الأحزاب والتكتلات التي شهدت انشقاقات بسبب الانتخابات الحزب الديمقراطي التقدمي والمؤتمر من أجل الجمهورية والقطب الديمقراطي الحداثي. واعتبر عضو المكتب السياسي ورئيس الحملة الانتخابية للحزب الديمقراطي التقدمي المنجي اللوز أن هذا الأمر مفهوم في الفترة الراهنة فجميع الأحزاب تمرّ بمرحلة انتقالية كما هو حال مؤسسات البلاد. وقال اللوز «نحن واجهنا وضعيات وصعوبات كبيرة ولكن في الاتجاه الايجابي، أي أننا مثلا وضعنا أمام حالات من قبيل أن لدينا قائمة ذات حمولة معينة يتقدم إليها ما يعادل 4 أو5 قائمات، وهذا سمح للحزب بإخراج قائمات نوعية تخضع للمعايير المطلوبة. وأضاف اللوز أن المشاكل التي حصلت للحزب كانت في القصرينوبنزرت، وفي حالة بنزرت التفّت جميع الفروع حول القائمة التي أقرّها المكتب السياسي للحزب وانتهت المشكلة. وردّا على سؤال حول الآلية التي اعتمدها الحزب في اختيار ممثليه في الجهات (والتي كانت سببا في حصول خلافات) قال اللوز «نحن حزب في وضع انتقالي وكان منخرطوه يعدّون بالمئات في عهد بن علي، أما اليوم فأصبح لدينا عشرات الآلاف، فالحزب يتطلب شيئا من الوقت لتركيز مؤسسات جديدة في ضوء هذا الطلب القوي للانخراطات. وأوضح اللوز أن «الآلية هي آلية المجالس الجهوية التي تتكوّن من هيئة الجامعة ورؤساء الفروع وأعضاء اللجنة المركزية في كل جهة وأعضاء المكتب السياسي في كل جهة، والآلية هي محاولة بلوغ تشكيل قائمات عبر الوفاق والتسويات وإن تعذّر ذلك يكون اللجوء الى التصويت، مؤكدا أنه لا للجامعة ولا للجهة كلمة وإنما الكلمة الأخيرة للمكتب السياسي. وشهد حزب المؤتمر من أجل الجمهورية من جانبه بعض الاستقالات في عدد من الجهات على هذه الخلفية، لكن قيادة الحزب قلّلت من أهمية هذه الاستقالات. وقال عضو المكتب السياسي للحزب عماد الدايمي إن المؤتمر من أجل الجمهورية خرج من هذه المحنة بأخفّ الأضرار، فقد حصلت بعض الاستقالات من الحزب (في قفصة) ومن المكاتب الجهوية في بعض المناطق الأخرى. وأضاف الدايمي «نعتبر أن الاستقالات أثناء تكوين القائمات الانتخابية أمر عادي وطبيعي باعتبار أن المشهد السياسي التونسي لا يزال بصدد التشكل وليست لدينا ثقافة حزبية عميقة تسمح للمناضلين الذين لديهم طموحات مشروعة في المشاركة في انتخابات المجلس التأسيسي بانتظار الاستحقاقات الانتخابية القادمة، بالنظر الى تحمّسهم للمشاركة في أول استحقاق بعد الثورة. وقال الدايمي ان هناك أيضا بعض الخلافات الشخصية موضحا أن الأمر يصبح خطيرا حين يصل الى الانحراف عن خط الحزب أو المسّ بالمبادئ المؤسسة له. وردّا على سؤال حول الاشكال الذي شهدته قائمة المنستير وما راج من اتهامات للحزب بأنه عوّض مرشحه لرئاسة تلك القائمة بمناضل من حركة «النهضة» أكد الدامي أن «تعويض رئيس هذه القائمة لم يقع على هذه الخلفية وان رئيس قائمة المنستير ليس نهضويا وإنما شارك سابقا (في انتخابات 1989) ضمن قائمة مستقلة مدعومة من «النهضة» وقد اعتمدناه على أساس أنه من الكفاءات الجهوية خاصة أن أعضاء الحزب في المنستير اختاروه ليكون ممثلهم ولم يكن قرارا مسقطا من القيادة المركزية. ثلاثة أسباب أما أستاذ علم الاجتماع المنصف ونّاس فاعتبر أن هذه الظاهرة يمكن أن تفسّر بأسباب ثلاثة: أولا لم يتم على امتداد العقود الخمسة السابقة أي استثمار واضح في مجال تدريب التونسيين على المشاركة المنظمة والمؤسساتية وعلى التعايش رغم كل الاختلافات في المواقع والأفكار والايديولوجيات والمرجعيات، لأن النظامين السابقين لم يكونا مهتمّين بوجود مجتمع مدني ناجع وحاضر بقوة في الحياة السياسية والاجتماعية لذلك لم يتدرب التونسي على إدارة الاختلافات والتعبير عن الرأي من خلال المؤسسات القائمة وإنما اضطرّ الى أن يصمت ويلغي حقّه في التعبير المنظم. ثانيا: جميع المراحل الانتقالية في العالم تكون غالبا متوتّرة وغير مستقرّة ومضطربة وفيها الكثير من الخلافات والحسابات فليس ميسورا أن يتمّ القضاء على عقلية المحسوبية والولاء والبحث عن النفع بسهولة، فالثقافات السابقة بكل ما فيها من سلبية تستمرّ وتقاوم وتسعى الى الحفاظ على ذاتها والتصدّي لأية ثقافة أخرى، خاصة إذا ما كانت مغايرة أو مناقضة، فبعض علماء النفس يعرّفون الثقافة بأنها الشكل المستتر من الدكتاتورية. ثالثا: من الطبيعي في مرحلة سياسية انتقالية كالتي تعيشها تونس أن لا يوجد اقتناع بضرورة تغليب الكفاءة على الولاء، فقد كانت الحياة السياسية في تونس تغلّب الولاء على قيمة الكفاءة، وهذا مفهوم في سياق النظام السياسي السابق ولكن من الطبيعي أن يتغيّر الوضع بعد الثورة. فهذه التوترات التي تعيشها بعض الأحزاب حسب ونّاس فيها تأكيد لاستمرارية بقايا الثقافة السابقة التي ترتكز أساسا على الولاء. وأكد ونّاس أن المطلوب اليوم أن تنتقل الحياة السياسية في تونس الى ثقافة جديدة قوامها تغليب الكفاءة على الولاء واختيار الأفراد وترشيحهم للانتخابات على أساس كفاءتهم، وهذا أمر مطلوب لبناء تونسالجديدة.