أود أولا إبداء الملاحظات التمهيدية التالية : 1 إن ما يلاحظه المواكب للحوار حول القضايا الإسلامية الراهنة، و بخاصة ما يتصل منها بالجانب السياسي، و في مقدمتها إشكالية الدولة يلمس في يسر غياب الوعي في جل الحالات بأن الفكر الإسلامي قد توقف عن الاجتهاد و التجديد منذ القرن السادس الهجري، و لا غرابة في ذلك فقد بدأ خط ازدهار الحضارة العربية الإسلامية يتجه نحو الانحدار غداة تقلص دينامية المدينة العربية الإسلامية، و سيطرة ظاهرة الإقطاع العسكري من جهة و المذهب السني الارتودكسي : الأشعرية من جهة ثانية. و ما برز بعد ذلك من فكر تجديدي هنا و هناك كان نادرا لا يندرج ضمن مد حضاري شامل و متنوع كما كان الأمر في القرن الثالث، أو الرابع للهجرة. من الأسماء القليلة التي أضاءت بفكرها في مرحلة الأفول ابن رشد الحفيد (520-595) في مجال الفلسفة، و حازم القرطاجني في فنون البلاغة و النقد، و ابن خلدون (732-808) في مجال الفكر السياسي و التاريخ، و تلميذه المقريزي (766-845) في الإنسانيات. أما الظاهرة الطاغية فهي ظاهرة المتون و الشروح والحواشي، و قد توافق ذلك مع انتشار الطرق الصوفيةوالزوايا في مرحلة المماليك. و هكذا نستطيع الحديث دون مبالغة عن قطيعة معرفية أو تكاد في مجال التجديد المعرفي امتدت ثمانية قرون، و هي المرحلة التاريخية التي عرفت سقوط بغداد، و بداية صراعين دمويين أديا إلى تفكك وحدة العالم الإسلامي، و بروز مرحلة الدويلات الصغيرة في المشرق العربي، و ضياع الأندلس في الغرب الإسلامي، و أعني بالصراعين : الحروب الصليبية، وحركة الاسترداد. استطاعت الدولة العثمانية أن تعيد وحدة المشرق بقوتها الانكشارية، لكنها لم تنجح في إحياء الدينامية الحضارية التي عرفها العالم الإسلامي في القرون الخمسة الأولى للهجرة. إنني حريص في هذا الصدد على الإشارة الى أن مرحلة الأفول الحضاري المذكورة لم تعرفها الحضارة الغربية، فمسيرتها متواصلة منذ القرن الثاني عشر حتى اليوم، و هذا ما يجعل المقارنة التي يقوم بها البعض لا تستقيم منهجيا. 2- برزت غداة الصدمة الحضارية التي أحدثتها حملة نابليون على مصر نخبة آمنت بالإصلاح السياسي، و اقتباس معالم التحديث الأوروبي، محاولة التوفيق بينها و بين التراث الإسلامي، مدركة أن القطيعة المعرفية غير ممكنة، رجال هذه النخبة هم رواد الحركات الإصلاحية التي عرفها القرن التاسع عشر، و نجد ضمنهم رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873), و خير الدين (1810-1890)، و أحمد بن أبي الضياف (1804-1874)، و بيرم الخامس (1840-1889), و احمد فارس الشدياق (1804-1887)، و جمال الدين الأفغاني (1838-1897) : و مدحت باشا (1822-1883)، و ولي الدين يكن (1873-1921)، و فرح أنطون (1877-1922) و محمد عبده (1848-1905)، و عبد الرحمن الكواكبي (1854-1902) و غيرهم. ركز النهضويون العرب جهودهم على مسألتين أساسيتين : مقاومة الحكم المطلق، و السعي للإفادة من تجربة الحداثة الأوروبية، مدركين ضرورة إحياء الجوانب العقلانية المضيئة في التراث العربي الإسلامي، فليس من الصدفة أن تنشر مقدمة ابن خلدون ضمن النصوص التراثية الأولى الصادرة عن مطبعة بولاق، و قد وظف ابن أبي الضياف في تحليله للحكم المطلق فصل «الظلم مؤذن بخراب العمران» من المقدمة، و نجد بين هؤلاء من ذهب بعيدا لما طالب بضرورة الاجتهاد في النصوص المؤسسة لتنسجم مع القضايا الإسلامية الجديدة، و لا نقف في أدبيات التنويريين العرب على نظرة تقديسية لما يسمى بالسلف، فهم أناس عاديون اجتهدوا في حل مشاكل عصرهم فأصابوا و أخطأوا. 3 فشلت الحركات الإصلاحية سياسيا، إذ لم تستطع الوقوف في وجه الحكم المطلق، و لم تتمكن أيضا من إنقاذ الأقطار العربية من الاستعمار المباشر، و لكنها نجحت فكريا، إذ في أحضانها ولدت حركات التحرر الوطني التي قادت معارك الاستقلال، و أمل المواطن العربي أن الدولة الوطنية الحديثة ستحقق أحلام النهضويين العرب، و لكنها سرعان ما انقلبت إلى دولة قامعة سيطر عليها العسكر و الأحزاب الشمولية. و أود الإلماع هنا إلى المكاسب السياسية و الفكرية التي تركوها لنا، و من أبرزها تنبيت مفاهيم حديثة في التربة العربية مثل الحرية، و المواطنة، و الدستور، و البرلمان، و السلطة المنتخبة، و الربط بين الظلم السياسي و الخراب العمراني بالمفهوم الخلدوني، فقد كانوا هادفين لما سجلوا في رحلاتهم إلى أوروبا خطورة المؤسسات الدستورية، و مراقبة البرلمان للسلطة التنفيذية، و كذلك احترام الحريات العامة. نجد ذلك بوضوح في رحلة الطهطاوي «الإبريز في تلخيص باريز», و في «أقوم المسالك» لخير الدين، و في «كشف المخبأ» للشدياق. 4 الإسلام السياسي السني ظاهرة جديدة لا علاقة لها في نظري بالتجربة السياسية المتنوعة التي عرفتها عصور الازدهار، و لا بتيارات النهضويين العرب، فمن النادر أن نجد في أدبيات نخبه العودة إلى نصوصهم. 5 ليس هدفي تناول النصوص الإسلامية التي نظمت بالأمس حياة الناس اليومية، و إنما هدفي إبداء الرأي حول السلطة السياسية، أي الدولة المشرفة على تسيير شؤون المجتمع. إن إشكالية نمط الحكم في العالم الإسلامي مطروحة منذ اجتماع سقيفة بني ساعدة حتى اليوم. هذا هو جوهر الإشكالية التي يحاول هذا النص إلقاء بعض الأضواء عليها.