ليس من المبالغة القول: إن الفصل الذي خصصه ابن خلدون في المقدمة تحت عنوان «الظلم مؤذن بخراب العمران»، وقد ربط فيه بين الظلم السياسي والاقتصادي وخراب البلدان والعمران، يعد من الأفكار الخلدونية الرائدة ، ومن ابرز ما جاء في المقدمة. لا نجد في تراث الفكر الإسلامي نصا بهذا الوضوح والدقة في تحليل العلاقة بين الظلم والخراب ، فليس من الصدفة أن نجد النهضويين العرب أفادوا من النص في القرن التاسع عشر للتنديد بالحكم المطلق، وفي مقدمة هؤلاء احمد بن أبي الضياف (1804 / 1874) ، فقد وقف طويلا عند الفصل في مقدمة «الإتحاف» وقد خصصها لتحليل الحكم المطلق، وهو الحكم الذي يرهب الناس، ويزرع الخوف في نفوسهم»، وإذا وقع الخطر زال الأمن وبزواله يزول الأمل، وبزواله يزول العمل، إذ الخائف لا أمل له في غير النجاة من الظلم بنفسه وماله، وذلك مؤذن بخراب العمران»، ثم ينقل صاحب «الإتحاف» فقرة طويلة من النص، وفي هذه الفقرة يبلغ صاحب المقدمة ذروة التألق فيقول: «اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهبٌ بآمالهم في تحصيلها و اكتسابها، لما يرونه من أن غايتها ومصيرها، انتهابها من أيديهم. وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء و نسبته يكون انقباضُ الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش كان القعودُ عن الكسب كذلك، لذهابه بالآمال جُملةً. وإن كان الاعتداء يسيرا، كان الانقباض عن الكسب على نسبته. والعمران ووفُوره، ونفاقُ أسواقه، إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح و المكاسب، ذاهبين و جائين. فإذا قعدَ الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كَسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال، وتفرّقَ الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق، فخفَّ ساكن القطر، وخلت ديارُه، وخربت أمصاره، واختل باختلاله حَال الدولة والسلطان». خطرت لي خاطرة وأنا اقرأ تعليق الشيخ الزيتوني المستنير على نص ابن خلدون قلت : انه لأمر محير وغريب أن نجد الشيخ قبل قرن ونصف ينقب عن النصوص التراثية ليوظفها في تشريح النظام الاستبدادي، ونجد في مطلع الألفية الثالثة «مثقفين» ساندوا الطاعون الأسود إلى آخر لحظة، ولم تكن لهم شجاعة الاعتذار لشعبهم. الحكم المطلق الذي رزحت تحت عبئه البلاد قبل الرابع عشر من جانفي كان اشد شراسة، وأكثر لؤما من حكم الصادق الباي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو الحكم الذي كان نصب عيني الشيخ، وهو يحلل ويلات النظام الاستبدادي. كان نظام الصادق الباي ارحم، واخف وطأة على الناس ليس لأنه من طينة أخرى، ولكن لأنه لم يكن يملك الوسائل الجهنمية الحديثة التي كانت بأيدي النظام السابق، وكشفت التقارير التي ظهرت بعد السقوط أنها كانت من أحدث وسائل القمع، وأبهظها ثمنا.