الأسبوع الأول من فعاليات الحملة الانتخابية، انقضى وأمكن معه الوقوف على عديد المظاهر التي تعدّ جديدة في عالم السياسة بتونس... حملات انتخابية متعدّدة لأحزاب وقائمات للمستقلين متعدّدة ومختلفة كذلك... حراك سياسي، لم تتعوّده الساحة التونسية، ولا حتى العربية... الخطاب السياسي الذي ارتضاه المترشحون الكثّر، لمجلس وطني تأسيسي جديد، جاء أيضا متعدّدا ومختلفا... فكانت الحيرة... لدى المواطن... وربما الصدمة في بعض الأحيان، من قبيل التي تملّكت التونسيين سواء من الناخبين أو من الذين عزفوا عن هذا الاستحقاق... لكن رغم هذه المظاهر التي تضاف إليها بعض القراءات المتشائمة بخصوص تموقع ما يسمّى بالأحزاب الكبيرة... أحزاب الامكانات والجاه السياسي، فإن تونس اليوم أفضل بكثير من تونس الأمس... تونس الانسان الجديد... الإنسان الحرّ... الانسان الذي يسعفه الزمن السياسي الجديد، لكي يستمع الى غيره... هذا الغير الذي يختلف معه في الطرح السياسي... وفي التوجه الفكري... لم يعتد التونسيون مثل هذه النقاشات التي ترتقي بالشعب من وضعية «الرّعية» الى وضعية المواطنة. تونس اليوم أفضل بكثير من تونس الأمس، وقد أمكن متابعة وسماع ومشاهدة الخطاب والخطاب المضاد، في كنف لعبة ديمقراطية قوامها الاقناع بالبرنامج... لا الهيمنة بالميليشيا والعصا الغليظة... منذ أن أمضى الطاهر بن عمار وثيقة 20 مارس 1956 مع المستعمر الفرنسي، وأعلنت تونس بلدا مستقلا، بامكانه حيازة مكان العضوية داخل المنتظم الأممي، والتونسي يبحث له عن السبيل الذي يجعل التقدم الاجتماعي والاقتصادي مترافقا مع التقدم السياسي... تقدم سياسي لم يأت، طوال فترتي حكم بورقيبة وحكم بن علي... لأن الثورة الشعبية تأخرت خمسة وخمسين عاما... ثوريون... قبل الثورة المتفحص في برامج المترشحين أحزابا ومستقلين، يمكن أن يقف على حقيقة مفادها أن الآراء متعدّدة والطرحات مختلفة... وأن حرية التعبير والتبليغ مضمونة... فتلك الهنّة الكبرى التي عانى منها الشعب التونسي طوال أكثر من نصف قرن... عمر ما يسمّى بالاستقلال والتحرّر لأن فترة الاستعمار الفرنسي لا يمكن ادخالها في معادلة حريّة الرأي والتعبير، على اعتبار أن الاستعمار هو عدوّ الحرية وعدو الديمقراطية بامتياز... انطلقت الحملة الانتخابية، إذن وهي تدخل الآن أسبوعها الثاني، فكنت ترى المناضلين التقدّميين، الذين آمنوا بالفعل الثوري يركضون وهم يتمتعون بزاد من الحرية كان الى حدّ يوم 13 جانفي 2011 حلما صعب المنال... يدفعون من جيوبهم تكاليف الحملة... فجاءت حملاتهم متواضعة من حيث الامكانيات، لكنها غنيّة من حيث صدقها والتزام القائمين بها، لأنهم حلموا يوما بأن تونس لها غد أفضل... فكانوا أكثر الفئات حرصا على تأمين انتخابات المجلس الوطني التأسيسي حتى يضمن الدستور الجديد الحق في نظام سياسي ديمقراطي والحق في قيادة تونس وفق نتائج الصندوق الانتخابي... هؤلاء المناضلين، رأيناهم في ساحات الستينات... وحراك السبعينات... واحتجاجات الثمانينات والتسعينات... وثورة 14 جانفي... لم يكلّوا أبدا... وواصلوا خرق الخطوط الحمراء التي وضعها النظامان السابقان أمام كل خطاب سياسي تحرّري وتقدمي... لم يعبأ هذا الصنف من المناضلين «بقسمة» أتاها المتعهد الدولي للتغيير، ونقصد الولاياتالمتحدة والمنظومة الامبريالية ومن لفّ لفّها، ذلك أن هذه الأطراف الدولية كذبت كذبة، وصدّقتها قبل غيرها، ومفاد الكذبة، أن القوى الغربيّة الليبرالية هي محرّك الثورات العربية... لم يعبأ المناضلون الذين تعدّدت مشاربهم الفكرية والسياسية، بهذه اللعبة «القذرة»، التي تعيد برنامج الهيمنة الاستعمارية من جديد، حتى يحوّلوا الثورة التي جاءت بآلام وأنين الشعب المكبّل طويلا، الى بطولة من بطولاتهم الزائفة، بل، واصلوا نضالهم الأكبر الآن... وقد تحققت الثورة... فريقان... من الأحزاب... المشهد الملفت في هذه الفترة الأولى للحملة الانتخابية، هو ذاك التناقض بين فريق «الأحزاب الكبرى» و«الأحزاب الصغرى»... هنا لا بدّ من التأكيد بادئ ذي بدء، أن سمة «الكبرى» و«الصغرى» التي تطلق الآن على الأحزاب التونسية التي تفوق المائة، والتي تدخل الانتخابات من أجل التأسيسي، النسبة الأكبر منها، تعني الامكانيات وليس الخطاب أو نسبة التغلغل في صفوف الجماهير... فذلك شأن الصندوق وحده، لذا فالتناقض يعني أمرين: ففي حين تعتمد الأحزاب الكبرى، امكانيات رهيبة في المال و«اللّوجستيك» من سيارات وملصقات ووسائل سمعية بصرية، دون الخوض في مسألة «الاعانات» و«المساعدات»، التي وضع أسسها الدعائية نظام بورقيبة ثم تلاه بن علي... فإنّ الأحزاب الصغرى، تكتفي في هذه الحملة الانتخابية ب«التمتع» بهذه الفسحة من الحرية، وهي تعمل على أن تدوم وتصبح ديدن الفعل السياسي في تونس... الأحزاب والقائمات المستقلة، التي ينعتونها بالصغرى، تدخل هذه الفترة في عالم المُثل... والحُلم... ذلك أن المترشحين الذين ينفقون من مساهمات المناضلين، والمنتمين الى هذا الحزب أو ذاك، لا يعوّلون كثيرا على المنحة العمومية لتمويل الحملة الانتخابية، التي لم تصرف بعد... المهمّ بالنسبة إلى هؤلاء،هو اتصالهم المباشر بالجماهير... جماهير ظلّوا كمناضلين يتصلون بها بشكل متقطع وفيه المنع والمحرّم كثير... الأسبوع الأول من الحملة الانتخابية لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي، جاءت غير متكافئة بين فئتين من الأحزاب، «الكبرى» و«الصغرى»... لكن انعدام التكافؤ هذا يصبّ في صالح الأطراف التي تلبس القيم والمبدئية لبوسا... وهي بالتالي في غير صالح الأطراف التي تعتمد المناورة وقوة المال، لتتصل وتواصل الشعب... لكن، وبما أن شعب تونس، قبض على الجمر قبل أن يقبض على المشعل، ويعي ما يفعل... ويعي حجم تضحياته... وأهداف شعاراته التي رفع... فإن له من الذكاء ما يجعله يمسك بالغربال جيّدا... غربال يوم 23 أكتوبر... وهو بداخله طلب: أن أعطوني غربالا جيّدا... سأعطيكم نتاجا أجود... فالذين «يصدمون» بسياراتهم الفاخرة... وبعطاءاتهم المريبة، أهالي هذه المنطقة أو تلك... هذه القرية أو تلك من مناطق تونس المهمّشة وهي على فكرة منتشرة على كامل الخريطة من الشمال الى الجنوب ومن الشرق الى الغرب لا يقدّرون ردّ فعل الناس على تلك الممارسات... قد يكون ردّ فعل عكسي، لأن أبسط مواطن منهم سيسأل سؤال حيرة: لماذا الآن؟ وأين كنتم بالأمس القريب؟ بأي حال، تونس اليوم هي أفضل بكثير من البارحة.