اليوم يتّجه التونسيّون إلى مكاتب الاقتراع لانتخاب أعضاء ثاني مجلس وطني تأسيسي في تاريخ الدولة التونسيّة المستقلّة وذات السيادة. إنّه ، بكلّ الاعتبارات والمقاييس، موعد مع التاريخ حيث سيرسم التونسيّون ملحمة جديدة ستتكرّس فيها وعبرها مبادئ لطالما نادت بها اجيال متعاقبة منذ الاستعمار الفرنسي وعبر مختلف عقود الاستقلال في تغليب إرادة الشعب والانتصار لخياره في تصعيد ممثلين عنهُ في المجالس والهيئات النيابيّة والبرلمانيّة والبلديّة عبر انتخابات نزيهة وشفّافة لا مجال فيها للتزييف أو الوصاية أو التلاعب أو الحسابات المُسبقة والاعتبارات الضيّقة. اليوم ، تونس على أبواب محطّة تاريخيّة فارقة ، محطّة ستكرّس إرادة الشعب وستفتحُ البلاد على مرحلة جديدة من الديمقراطيّة والتعدديّة والحداثة، إنّها لحظة بناء المستقبل وإعادة الشرعيّة للشعب ولمؤسّسات الدولة بما في ذلك من انتظارات لتحقيق تطلّعات الناس في العيش الكريم وفي الحياة بروح المواطنة الحقّة في ظلّ احترام لحقوق الإنسان والحريات العامّة والخاصّة والانتصار لقيم العدالة والإيمان بالآخر والقبول بالرأي المُخالف. يستعيد المواطن التونسي اليوم أعلى حقوقه واسماها وهي الحق في الانتخاب بعيدا عن كلّ مظاهر الضغط أو التهميش والتشويش، ولقد أجمع الفلاسفة والمنظرون على أن الحق في الانتخاب هو كذلك الأعمق من حيث تجسيد روح المواطنة والنأي عن مظاهر العبودية أو السلبية والإقصاء. لكل تلك الاعتبارات يستمد يوم 23 أكتوبر 2011 قيمته التاريخية البالغة مع ما تُضيفهُ له الأحداث الجارية في المنطقة من مسؤوليات في التدليل على قدرة الشعوب المقهورة على لا فقط الإطاحة بالأنظمة الدكتاتوريّة بل – وهو الأساسي والأهم- القدرة على البناء والتأسيس الجديد. ومن المؤكّد أنّ الناخبين والمترشحين لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي وكذلك الحكومة المؤقتة والهيئات المشرفة على الانتخابات في الداخل والخارج تستشعرُ جميعا كلّ تلك المعاني التاريخيّة والتي ستُرسمُ بأحرف من ذهب في كتب التاريخ وستتذكرها الأجيال المتعاقبة من التونسيين وغيرهم من شعوب العالم. وبقدر ما كان التنافس الانتخابي شديدا وما رافقهُ من تجاذبات – وهي مشروعة في العرف السياسي- بقدر ما يجب أن تغيب بداية من اليوم كل مظاهر التشنج والتوتر وأن يقترب المتنافسون سواء منهم الفائز أو المنهزم من بعضهم البعض وأن يضعوا اليد في اليد تغليبا للمصلحة العليا للوطن وانتصارا لثورة 14 جانفي وشهدائها هؤلاء الّذين فتحول لهم جميعا على اختلاف تلويناتهم السياسيّة أو انتماءاتهم الحزبيّة أو قناعاتهم الإيديولوجية الطريق لكي يعيشوا مثل هذه المحطّات الانتخابيّة الهامة والتاريخيّة. ولن تكون انتخابات اليوم بأجوائها وبنتائجها إلاّ بداية لمشوار سياسي جديد لتونس سيتّجه شيئا فشيئا لبناء الدولة التونسيّة المنشودة والتي حلُمت بها أجيال عديدة حيث للجميع فيها حق التواجد والمشاركة والحق في العيش الكريم،وحتى أولئك الّذين لم يُسعفهم الحظ في التواجد ضمن تركيبة المجلس الوطني التأسيسي فستتاح لهم فرص لاحقة لمُعاودة السباق وكسب المزيد من الأنصار ناهيك عن أنّهم كانوا من المشاركين الفاعلين في كامل أطوار هذه الانتخابات.