ما برح حياته الغموض يوما ..هكذا هو العقيد الليبي معمر القذافي.. في حياته ومماته .. في خطبه وكلماته, في لباسه وخيماته, في تحليلاته ومقارباته للشأن المحلي والإقليمي والدولي .. أما مراسم جنازته ودفنه , فتلك حكاية مريبة في ريبة من اختار للقذافي تلك النهاية المؤلمة والمبكية وتلك فصل من فصول الردة الأخلاقية والقيمية والمعيارية وحلقة من مسلسل الرداءة السياسية المستلة من رداءة التحالف المقدس المدنس ل»الدولار والبترودولار والحركات الجهادية المسلحة». زمن الردّة الأخلاقية والفكرية هو زمن الأسئلة المحيّرة التي تعصف بالعقول فتكبتها وبالأفئدة فتعتصرها.. هو حقبة تسلسل الأحداث الدراماتيكية المتسارعة دون معرفة الأسباب الحقيقية لها أو على الأقل دون أن تقنع الأسباب المعلنة صاحب كل ذي لب وعقل حصيف. من بين تلك الأسئلة, وليس كلّها, لماذا يدفن قائد سياسي مثل القذافي هو في عرف دافنيه وجلاديه وفي قاموس إعلام الخليج قاتل وسافك للدماء والعدو الأول لليبيين في مكان سري في الصحراء الليبية وتقام عليه صلاة الجنازة خلسة .. ثم يعلن ذات قاتليه إنهم يخشون من تحول قبره إلى مزار؟ فإن كان التاريخ يلفظه فعلا وفكرا ومنهاجا سياسيا .. فلماذا يتعسف على الجغرافيا لقبوله ميتا ...؟ وإن كان التاريخ – بمعنى التأثير في الأحداث والحضارة – بمفهوم البناء والعمارة في الأرض لفظاه فمالضير من إبقاء جثته وقبره اية لمن سيكون من خلفه .. وكثير عن ايات الله عز وجل غافلون. وإن كانت ليبيا الجديدة يراد لها أن تقام على الحق والقسط والقسطاس, فإن أول أبواب الإنصاف كامنة في إنصاف قادتها القدامى حرمة جسدية على الأقل وأن تترك مهمة محاسبتهم ومحاكمتهم للتاريخ بعد أن ضاقت صدور القادة الجدد لليبيا بالقذافي وأهله وصحبه. وطالما أن مراسيم الجنازة والدفن تمت بليل فإن الانتقالي يعطي من حيث لا يدري للقذافي بعدا أسطوريا مخياليا لا تخلو من سطوته الذاكرة الجمعية العربية عامة والليبية خاصة, ذلك أن النهايات الغريبة والمريبة والمطموسة المعالم تفتح الافاق رحبة للاختلاق والتهويل وهي بهذا تزيد من حياة أصحابها ومن تعلق الأتباع بها.. وكما أن في تزامن الأحداث اية , فإن في تقابلها أيضا عبرة .. ففي ذات الوقت الذي كان فيه جثمان العقيد يوارى في أرض بور مجدبة غير ذي زرع, كان جثمان ولي العهد السعودي يحظى بمراسيم رسمية وشعبية وحفاوة دولية,, وكان الحداد لا يلف السعودية فحسب بل كل الخليج وكل قنوات الخليج الدينية والغنائية.. الدعوية منها و«الترفيهية» (بالأمس كانت تبث نانسي عجرم وهيفاء وهبي واليوم تبث السديسي والشريم ) .. لن ندخل في باب المناقشات والمزايدات حول أي الجثمانين أحق بالتكريم والتبجيل حتى وإن كنا في قرارة أنفسنا ندرك من هو الأحق بذلك على الأقل على المستوى القومي والعروبي فكلنا نصير إلى تباب على قول أبي العتاهية , ولكن يجدر التشديد على أن القذافي لا يقل في شيء عن ولي العهد السعودي.. وكما كرم الثاني حيا وميتا فلا بد من تكريم الأول ميتا على الأقل. الإشكال الأخطر من هذا أن القذافي على أخطائه الكبرى وطامته العظيمة الذي رفض إقامة قواعد عسكرية أمريكية على أرضه ورفع الفيتو أمام التطبيع مع إسرائيل وعارض احتلال العراق وساند المقاومة العراقية سياسيا وإعلاميا, يوضع في إعلام الخليج وأهله في أدنى مستوى قيمي وقد تشبه جثته بالجيفة في بعض الأحيان .. فيما تحبّر الخطب العصماء في حق اخرين رغم حسناتهم في حق قطرهم وأهلهم ممن أباحوا أرضهم للأمريكان وممن شكلوا خط الهجوم الأول على العراق وممن اغتصبوا على أعين الناس الثورة البحرينية الوليدة بالحديد والنار.. خياران أمامنا, إما أن نترك للخليج وإعلامه والغرب وأمواله, تصوير حاضرنا وتوثيق شواهده وبالتالي كتابة تاريخنا فترفع أقوام وتحط أخرى وفقا لمعاييرهم, وإما أن نأخذ كأمة عربية زمام أمورنا ونحبر نحن ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا ونصون ثوراتنا من «عقول» البعض و«عقال» البعض الآخر...