من قواعد الديمقراطيّة الاعتراف بالخسارة الانتخابيّة وتهنئة الفائز دون الكفِّ عن الاختلاف معه حيثما وجب الاختلاف، ثمّ الاعتراف بالأخطاء لتجاوزها في الجولة الموالية. وليس من شكّ في أنّنا عشنا عرسًا انتخابيًّا على الرغم من الثغرات. فلماذا يصرخ البعض وكأنّ العرس مناحة؟ بسبب فوز «النهضة» هكذا يقولون! والحقّ أنّ «النهضة» لم تفز وحدَها. ثمّ انّ فوزها بالنصيب الأكبر من الأصوات لم يفاجئ الاّ الذين رفضوا فتح عيونهم وأخفقوا في قراءة شعبهم القراءة الصحيحة وظنّوا أنّ مناورات الدكاكين والكواليس تغني عن بُعْدَي المُعادلة الرئيسيّين: البعد الشعبيّ والبعد الثقافيّ. المفاجأة الوحيدة الحقيقيّة تمثّلت في نسبة الاقبال التي لا نعرف ان كان ارتفاعها ساهم في فوز «النهضة» أم خفّف من خسارة منافسيها. المهمّ الآن أنّ على الجميع احترام قرار الشعب والكفّ عن التعالي عليه وعن التعامل معه بازدواجيّة مقيتة تمدح وعيهُ اذا ثار وتشكّك في وعيه اذا انتخب! دون أن يمنعنا ذلك من التوقّف أمام عدد من الأسئلة: من المنتصر الحقيقيّ في هذه الانتخابات، الشعب وشهداؤه وثوّاره ومحروموه أم الأطراف السياسيّة التي عرفت كيف تدير اللعبة؟ وهل كان الوعي الانتخابيّ مطابقًا للوعي الاجتماعيّ وهل كانت صورتنا المُتخيّلة مطابقة لصورتنا الواقعيّة؟ ما مصير السياسيّين الذين فضّلوا اللعب الفرديّ وجرّوا أحزابهم الى التسبّب في شرذمة المشهد السياسيّ؟ هل تشهد الأسابيع والأشهر الموالية تثبيتهم في مواقعهم أم تسارع الأحزاب الى ازاحة من أثبتت النتائج خطأ استراتيجيّتهم؟ ما نصيب الشباب في مؤسّسات ثورة الشباب؟! ومن المسؤول الحقيقيّ عن ضعف حضور المرأة في المجلس التأسيسيّ، الناخبُ أم السياسيّون الذين تظاهروا بالدفاع عن مبدأ التناصف بحماسة ثمّ انقلبوا عليه وأفرغوه من محتواه انطلاقًا من تحديد رئاسة القائمات الانتخابيّة؟ هل أفسحت طريقة الاقتراع المجال للشعب كي يفرز بين الغثّ والسمين أم أنّها اضطرّته الى التصويت دون فرز حقيقيّ؟ وماذا يقول لنا أولئك الذين كانوا بالأمس يصرخون برفض بعض الأمور فصاروا اليوم يهمسون بالدعوة اليها؟ على أيّ أساس صوّت الناخب التونسيّ؟ ولماذا صدّق وعود البعض دون البعض الآخر؟ واذا كان قد عاقب صنفًا مُعيّنًا من العمل السياسيّ فما ذنب الأحزاب والسياسيّين المناضلين الأكفاء الذين عانوا مع شعبهم طيلة عقود؟ ما دور التضخّم الحزبيّ في هذه النتائج ومن المسؤول عنه؟ وماذا عن ظاهرة المستقلّين بصنفيهم: أولئك الذين راهنوا على نتيجة تمكّنهم من تحقيق مكاسب شخصيّة وأولئك الذين همّشتهم الأحزاب واضطرّتهم الى خوض الانتخابات بعيدًا عنها ثمّ سارعت الى تحميلهم مسؤوليّة تشتيت الأصوات؟ أيًّا كان الأمر فانّ لدينا اليوم خارطةً أوّليّةً لقراءة شعبنا بعيدًا عن الأوهام والتخيّلات. مع ضرورة أن يفهم الجميع أنّ أهميّة هذه الانتخابات لا تعني تحميلها أكثر ممّا تتحمّل. فميزان القوى الذي أشارت اليه ليس نهائيًّا. والأصوات التي ذهبت الى الفائزين اليوم قد تذهب الى منافسيهم غدًا اذا هم عرفوا كيف يواجهون أخطاءهم بالجرأة المطلوبة. اذ ليس من مصلحة أيّ وطن أن تفضي فيه الديمقراطيّة من جديد الى استبداد رأي واحد أو اتّجاه واحد بعيدًا عن مبادئ التداول والشراكة والتوازن. لكنّ التوازن المطلوب يجب أن يأتي عن طريق صندوق الاقتراع وليس عن طريق الصدقة السياسيّة. ولن يستطيع خاسرو اليوم تعديل الميزان الاّ اذا كفّوا عن القاء مسؤوليّة الفشل على شمّاعة الآخر. هذا يقول خذَلَنا الشعب وذاك يقول خذَلَنا الغرب والثالث يلقي باللائمة على الدين السياسيّ أو على المال السياسيّ والرابع يتّهم الاعلام السياسيّ والخطاب الشعبويّ والمستقلّين الخ... هذه العناصر لم تخلُ من تأثير لكنّها لا تكفي وحدَها لتفسير الفوز والخسارة. وكلّ تركيز عليها هو خطأ في التشخيص يزيد الخلل استفحالاً لأنّه يضع العرضيّ محلَّ الجوهريّ ولا يواجه الذات بحقيقة كونها أوّل المسؤولين عمّا حدث، بسبب شروخ مزمنة بين وعيها وممارستها، وبسبب عدم بذْلها حتى الآن الجهد الكافي الكفيل بالنزول من كلّ الأبراج العاجيّة المتكلّسة، والكفيل بفهم الشعب فهمًا حقيقيًّا لا فهمًا مُتخيَّلاً، والكفيل بتحيين الرؤى والخطابات والأدوات بما يتلاءم مع ذلك الفهم.