مع انهاء النقاش حول الفصول العشرة الاولى بدأت ملامح النظام السياسي التونسي تتجلى وبدأت الرؤية أكثر وضوحا، وهو ما كشفت عنه اكثر النقاشات التي كانت أحيانا مهمّة جدا وعميقة وأحيانا أخرى خارجة عن السياق وغير مجدية. وكان النقاش المعمّق والثري الذي دار بين عدد من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي يوم الاربعاء الماضي والذي تواصل الى الساعة الواحدة ليلا، على غاية من الأهمية وكان يعكس اختلافات نظرية بين مدارس قانونية، أعطت كل وجهة نظر أسسها القانونية، وكان لكل أساس قانوني أصوله السياسية. وتجلّت قمّة الرقي الفكري والنظري خاصة أثناء مناقشة الفقرة الأخيرة من الفصل السادس، الذي جدّد حصريا القوانين الاساسية والقوانين العادية ثم أعطى ما تعلق ببقية المجالات غير المحدّدة بشكل حصري الى رئيس الحكومة فتكون ضمن سلطته الترتيبية العامة وتكون في شكل أوامر ترتيبية. وجهتا نظر انقسم المتناقشون الى قسمين، قسم تمسّك باعطاء السلطة الترتيبية العامة لرئيس الحكومة وقسم طالب باعطائها لرئيس الجمهورية حتى لا يتم تجريده من صلاحياته. موقف القسم الاول يوجّه النظام السياسي الى نظام برلماني، في حين يدفع القسم الثاني إمّا الى نظام رئاسي أو الى نظام برلماني معدّل. تكون فيه السلط بين الرئاسات متوازنة والمقصود بالرئاسات هي رئاسة المجلس الوطني التأسيسي ورئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. ترجمات وإذا توجّهنا الى الفصل 14 من القانون المنظم للسلط العمومية مؤقتا فإنه ينصّ في فقرته الاولى على أن رئيس الجمهورية «يكلّف مرشح الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد في المجلس الوطني التأسيسي بتشكيل الحكومة» يعني أنه ليس لرئيس الجمهورية حق اختيار من يكلفه برئاسة الحكومة، بل هو ملزم بدرجة أولى بمن يقترحه الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد، وباعتبار أن هذا المشروع هو للتنظيم المؤقت للسلط العمومية، أي تنظيم السلط خلال فترة ممارسة المجلس الوطني التأسيسي لسلطاته قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية فإن تلك الفقرة تجد ترجمتها السياسية كالآتي «يكلف رئيس الجمهورية مرشح حزب حركة النهضة بتشكيل الحكومة»، وتترجم أيضا على الصعيد الشخصي الى «يكلف رئيس الجمهورية حمادي الجبالي بتشكيل الحكومة». وأمام تصريحات نورالدين البحيري عضو المجلس التأسيسي والقيادي بحركة النهضة مساء الخميس بأن حركته ستختار المنصف المرزوقي لرئاسة الجمهورية فإن الترجمة الاكثر دقّة للفقرة الاولى من الفصل 14 تصبح كالآتي «يكلف المنصف المرزوقي حمادي الجبالي بتشكيل الحكومة». ولكن السؤال الذي يظل مطروحا، ما هي دلالات اسناد الفصل السادس للسلطات الترتيبية العامة لرئيس الحكومة؟ السلطة الترتيبية ان الفقرة الاخيرة من الفصل السادس من القانون الذي ينظم مؤقتا السلطة العمومية أعلى السلطة الترتيبية العامة لرئيس الحكومة وتكون في شكل أوامر ترتيبية، فما هو الامر الترتيبي. يمكننا أن نعتبر أن الأوامر الترتيبية هي النصوص التي يتخذها اعلى هرم السلطة التنفيذية في مجال السلطة الترتيبية وفق ما يخوّلها له الدستور، وفي ظل غياب الدستور مثل الحالة التونسية يكون وفق ما يخوّلها له القانون المنظم للسلط العمومية مؤقتا، لذلك تسمى بالدستور الصغير رغم أنه ليس كذلك. ويعني وفقا لذلك السلطة في تنظيم بعض المجالات وفق قواعد قانونية عامة ومجرّدة، وبعد أن حدّد الفصل السادس من قانون التنظيم المؤقت للسلط العمومية حصريا مجال القوانين الاساسية والقوانين العادية فإن ما تبقّى من ذلك التحديد الحصري يدخل ضمن سلطة رئيس الحكومة الترتيبية، وهو ما يفسح له المجال واسعا لاصدار الأوامر الترتيبية خارج مجالات الحصر المذكور بالفصل السادس، ولن تنحصر السلطة الترتيبية في ذلك فقط بل ستشمل أيضا اتمام بعض القوانين وتوضيح سبل تطبيقها وهي ما تسمّى بالأوامر التطبيقية. افتكاك المجال بهذا المعنى، فلقد أسندت لرئيس الحكومة سلطات تشريعية واسعة، وأمام ما ذكر في ديباجة مشروع القانون من اعتبار «المجلس الوطني التأسيسي السلطة الشرعية الأصلية»، فإنه يكون بذلك قد تمّ التخلي عن جزء من السلطة التشريعية، التي هي شرعية وأصلية، والتي هي حصريا سلطة المجلس التأسيسي لفائدة رئيس الحكومة الذي هو مرشح الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد في المجلس الوطني التأسيسي وفق ما تنصّ عليه الفقرة الاولى من الفصل 14 من القانون المنظم للسلط العمومية. إذن يكون الاستتباع السياسي للاطار التشريعي القانوني هو تخلي المجلس التأسيسي عن جزء من سلطاته الى مرشح الحزب الحائز على أكبر عدد من المقاعد هو مرشح حزب «النهضة» إذن بهذا المعنى ووفقا لهذا المنطق يكون المجلس التأسيسي قد تخلّى عن جزء من سلطاته التشريعية الشرعية والأصلية الى حركة «النهضة». التشاركية والاستثناء ولئن استأثر رئيس الحكومة وفقا لهذا المنطق بجزء هام وواسع من السلطة التشريعية، اضافة الى السلطات الواسعة التي أسندها له الفصل 16، فإنه قد افتكّ جزءا آخر مهم من صلاحيات المجلس الوطني التأسيسي بالاشتراك مع الرئيسين من خلال ما نصّ عليه الفصل السابع الذي أصبح بعد التصويت عليه «إذا طرأ ظرف استثنائي يمنع السير العادي لدواليب السلطة العمومية ويجعل من المتعذّر على المجلس الوطني التأسيسي مواصلة عمله العادي فله بأغلبية أعضائه أن يصرّح بتحقّق ذلك الظرف ويفوّض اختصاصه التشريعي أو جزءا منه لرئيس المجلس الوطني التأسيسي ورئيس الجمهورية ورئيس الحكومة..». وأمام غموض «الاستثناء» وعدم وضوح معاني «التعذّر»، و«العادي»، فإنه من السهولة خلق الحالة «الاستثنائية»، الموجودة أصلا، وإيجاد حالة «التعذّر» والتشكيك في «العادي» وبالتالي من اليسير على الأقل نظريا افتكاك كل سلطات المجلس الوطني التأسيسي وإسنادها الى الرئاسات الثلاث التي لها ترجمتها السياسية داخل السياق الحزبي. فصل السلطات إذا أضفنا الى ذلك ما نصّ عليه الفصل 15 فإن الارتباك النظري حاصل لا محالة وهو ما ينعكس على السياسي فالقانوني إذ أنه رغم إيجابية الفقرة الأولى التي تلزم رئيس الحكومة بالاستقالة من المجلس التأسيسي، وهو ما يرسخ فعلا القاعدة الديمقراطية التي تقتضي فصل السلطات الثلاث عن بعضها البعض وعدم سيطرة سلطة على الأخرى، وهي السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية، إلا أن بقية الفصل يضرب هذه القاعدة في العمق، عندما يعطي لبقية أعضاء الحكومة الذين سيتم اختيارهم، بالجمع بين عضوية الحكومة وعضوية المجلس الوطني التأسيسي، وباعتبار أن الحكومة أصبحت تستأثر بالسلطة التنفيذية، وباعتبار أن المجلس الوطني التأسيسي هو السلطة التشريعية، فإن الجمع بينهما هو جمع بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وأمامه القاعدة التي تقول بأن النص القانوني هو انعكاس في شكل قاعدة للمصلحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية..
للحاكم، أي للسلطة التنفيذية، فإن الجمع بين السلطتين بالنسبة الى أعضاء الحكومة سيجعل من القوانين والفصول الدستورية انعكاس سياسي وايديولوجي للحاكم، مما يجعل أعضاء الحكومة يدفعون في المجلس التأسيسي، الذي هو سلطة تشريعية، نحو سن قوانين لحماية مصالحهم سواء كانت سياسية أو ا قتصادية أو اجتماعية..
وهو ما يمثل ضربا خطيرا لقاعدة الفصل بين السلط ويمهّد الطريق لحالة الغلبة على المستوى السياسي فالقانوني، وبعد توجيه القانوني وفقا للمصلحة، فإن الحياة العامة، التي يتم تسييرها وفقا لتلك القوانين سوف تكون خاضعة وستكون انعكاسا لما ورد بتلك القوانين وسيكون له وقع على العديد من المجالات خاصة الاقتصادية، وهذا هو تطويع القانون للمصلحة الاقتصادية أو للمنفعة الاقتصادية، وهذا ما يسمّى قانونا بالفساد. وبالتالي فإن افتكاك جزء من اختصاص المجلس التأسيسي، تمّ إعطاء السلطة الترتيبية العامة لرئيس الحكومة، وفسح المجال لأعضاء الحكومة للجمع بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية مع تطويع القوانين لمنطق الأغلب والأقل هو مؤشر على التوجه الذي سيتم توخيه عند صياغة الدستور. وبالتالي فإن هذا التوجه وانطلاقا من هذا المنطق، سوف يؤسّس لدستور يضمن سيطرة الأغلبية وطبعا يضمن مصلحتها، وهي مصلحة لها أعماق سياسية فاقتصادية فاجتماعية وهذا موضوع آخر.