لا أحد يملك الحقيقة... هذا ما يجب على جميع أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، الوعي به... طوال ثلاثة أيام وتقريبا بلياليها على اعتبار ان أشغال المجلس تنتهي الى ساعة متأخرة بدت المناقشات تغرق وتطفو، تارة في التفاصيل وأخرى في ما يشبه القشور بين أعضاء المجلس الوطني التأسيسي... هم مائتان وسبعة عشر عضوا بالمجلس الوطني التأسيسي، تم انتخابهم من 47٪ تقريبا من مجمل الناخبين التونسيين... انتخبوا تحت عنوان كبير وفضفاض، اسمه: كتابة دستور جديد للبلاد... لم يكن أي طرف من الأطراف السياسية الفائزة منها بمقاعد في «التأسيسي» أو التي لم تسعفها هذه الدورة الانتخابية الحرة والصريحة والاولى في حياة البلاد، من مقاعد حتى في نزرها القليل لم تكن جميع هذه الأطراف لتسعى قبل الانتخابات التي جدت يوم 23 أكتوبر الماضي الى توضيح الرؤية للمواطن التونسي، ناخبا كان أو مراقبا او حتى مترقب... ذلك أن حمى التحضير للانتخابات بدءا بالحملة الانتخابية وانتهاء بيوم التصويت جعلت الأطراف السياسية بالبلاد، تفكّر أكثر في ولوج «قبّة باردو» أكثر من تفكيرها في مآل إبطال العمل بالدستور، والذهاب «جماعة» الى مجلس وطني تأسيسي كنقطة فارقة تؤمّن تحقيقا للهدف الأسمى من أهداف الثورة التونسية. الحالة التي أصبح عليها المشهد السياسي في تونس، ما بعد الافراج عن نتائج الانتخابات الماضية فيها جديد كثير... ومتغيرات عميقة، لعل أهمّها أننا حصلنا على مجلس وطني تأسيسي متنوع سياسيا، فهو لا يضمّ جميع ألوان الطيف السياسي في تونس، ولا هو مقتصر على لون واحد، مثلما دأبت عليه تونس منذ 1956 الى حدود الثورة في 14 جانفي 2011... هذا المعطى الجديد لم يستوعبه لا الفائزون الاول الذين تمكّنوا (ثلاثة أحزاب) من ان يعقدوا تحالفا بدأ بعض معارضيه مبكّرا، يعملون على تفكيكه، وفي أذهان هؤلاء المعارضين مؤشرات وضوابط كانت فاعلة قبل 14 جانفي 2011... فالقول مثلا بتحالف حزب التكتل مع حزب النهضة قبل الثورة لم يكن واردا ولا هو مقحم في أبجديات التحليل السياسي العارف بكُنه المشهد السياسي التونسي... والعكس صحيح أيضا بالوادي المقابل... فاختلاط الأوراق هذا وقراءة المشهد السياسي في تونس، كما تصوّره بقي رهين تحاليل ووسائل تحليل، قديمة غير مستوعبة لأمرين أساسيين حدثا في المشهد السياسي التونسي: أولا : عرفت تونس ما بعد الثورة طفرة تشبّه في بعض الأحيان بالطوفان على طريقة «تسونامي» في عدد الأحزاب التي حصلت على تأشيرة العبور الى التأسيسي بل لعلي أقول إن العديد من السياسيين المنضوين تحت أحزاب التي تجزأ العشرات منها، انطلاقا من حزب أم، اعتقدوا أن حصولهم على التأشيرة انما هو امكانية عبور نحو قصر قرطاج... وهنا لا يمكن لأحد ان ينكر، أن الحاكمية والحكم كانت هدف الجميع... وفي هذا الأمر شرعية، تؤمّنها طبيعة وتعريف الحزب السياسي... اذ يقول «موريس ديفرجي» M. Duverger في كتابه «الأحزاب السياسية» إن الأحزاب وحدها التي ترنو الى الحكم، ذلك ان النقابات والجمعيات تصنّف كلها في خانة مجموعات الضغط... أي أنها تضغط على السلطة وتشكّل السلطة الموازية، ولا تلج السلطة بفعل تعريفها هذا... انه الأمر نفسه الذي نراه اليوم خارج أسوار التأسيسي أو يكاد... ثانيا : لم تستوعب بعض الأحزاب السياسية، ان أفول الحزب الحاكم ماضيا، الدستوري عهد بورقيبة و«التجمع» عهد بن علي، لم يكن سوى أفول للهياكل الحزبية والشخصيات القيادية، أما تلك الجموع المنتظمة والمنظّمة فلا أحد سأل عنها أو تساءل أين هي؟ وأين ذهبت؟ وفي اي دهاليز تقبع... الا حزب واحد، وهو الذي استطاع أن يتحول الى شبه «ماكينة» Appareil سارع العديد من المعارضين له (الحزب المعني) الى إلصاق تهم وصفات عليه تشابه او تقارب الدكتاتورية او الهيمنة او التغوّل مثلما سمعنا أطرافا تنعت حزب النهضة. الحقيقة لا يملكها أحد... وهذه مقدمة من المفترض ان الجميع على وعي بها... المشهد السياسي في تونس ورغم التغييرات التي طرأت عليه بفعل الثورة والانتخابات الشفّافة الاولى بتونس، مازال يحتاج الى معالجات... وصبر وتروّ... على المعارضة داخل التأسيسي وخارجه أن تتريث ولا تستبق الأحداث بفعل معرفتها الجديرة بالتقدير لكل تفاصيل الحياة السياسية فهي ليست معارضة وافدة... ولا هي أحزاب طفيلية وفدت مع الثورة وتحت جناح موجات «تسونامي الأحزاب» وبالتالي فإنها خير من يعلم أن المسار بدأ للتوّ في تونس... وأن المهم هو التأسيس لعقلية وليس لفريق يكتب الدستور... كما أنه على حزب الأغلبية والذي تمكّن ب«دهاء» سياسي، مقبول في عالم التحالفات السياسية أن يعي مرة أخرى أن التحالفات والتكتلات ابنة ظرفها... وأنها دوالي بين الأحزاب، تتغير بتغيّر الدواعي لإنشائها... وليس في هذا ضير ولا عتب على أحد... ففن السياسة هكذا يدار، وقد بيّن حزب الأكثرية وليس الاغلبية بحكم ان طبيعة القانون الانتخابي تمكّن من أكثرية ولكن لا تمكّن من أغلبية بيّن إذن أنه يدير تحالفاته والتقاءه بأحزاب أخرى بحنكة سياسية قريبة من المدرسة «الأنقلو ساكسون» (أي الانقليزية ممزوجة بالأمريكية)، وهي براغماتية لم تبلغها الأحزاب الاخرى حتى التي توجد في المعارضة الآن، لأن فن التعامل السياسي مدارس... الى حد الآن بقيت مدارس متفرّقة، بل ومتضادة أحيانا... طوال الأيام الثلاثة الماضية، شهد المواطن التونسي وشاهد ما لم يكن يدور بخلده يوما... تطارحا بالأفكار يصل حد التعصّب أحيانا... والتعالي أحيانا أخرى، بل والاتهام و«الاعتداء» اللفظي... والتّنابز ب«الألقاب» وطلب الغفران في ما بعد... كلّها صيغ في التعاطي مع المستجد من المشهد السياسي التونسي، فتسمو هذه النقاشات بالفكر الجدلي بالبلاد، وتجعل المواطن أقرب الى المجلس التأسيسي ومن الفعل السياسي أكثر من ذي قبل... الحقيقة لا يملكها أحد... وكل ما يستحق الثورة أو الاحتجاج او الرفض او القبول ممكن تحقيقه... فلا نحزن كثيرا، إن أنتج المجلس الوطني التأسيسي دستورا لا يستجيب لتطلعات أغلبية التونسيين... ولا ضير في حكم قد لا يخدم نمطه المقترح تطلعات الثائرين التونسيين الذين تسلّحوا بالإرادة الوطنية وحدها لتبديل الحال... ولكن ما يجب ان يعيه الجميع أن لا أحد يملك الحقيقة... والجدل الأخلاقي وحده هو الذي يمكن أن يرتقي بنا الى الحقيقة...