منذ عقود والحديث متواصل عن «المعجزة التونسيّة» على اعتبار الإحساس بقدرة التونسيين والتونسيّات على صناعة التاريخ وتحقيق ما يُشبه المعجزات ، وهم فعلا كذلك. وعلى الرغم ممّا طال هذه التعبيرة من استخفاف ومحاولة لتوظيفها في غير مواقعها للتغطية على واقع مرير كانت تعيشهُ فئات وجهات عديدة من البلاد ، واقع من الخصاصة والحرمان والتهميش والبطالة ، على الرغم من ذلك فإنّه يحقّ اليوم أن نقرّ فعلا بتلك «المعجزة التونسيّة» وبكونها في طريقها إلى أن تكون واقعا ملموسا بعد أن تخطّت الثورة، وهي تحتفلُ بذكراها الأولى، أهمّ مراحلها في اتجاه تحقيق الانتقال الديمقراطي المنشود والمأمول على مرّ أجيال متعاقبة. نعم، تونس اليوم تتّجه لتحقيق «معجزة» حقيقيّة في نقل السلطة من سلطة مؤقتة فرضتها ضرورات الثورة إلى سلطة شرعيّة منتخبة بشكل ديمقراطي نزيه وشفّاف، نقل سلمي وهادئ وسلس للسلطة يكاد يكون خياليّا بما أنّه فريد ونموذجي في المنطقة وفي الممارسة السياسيّة العربيّة. يحقّ للتونسيين لا فقط أن يفتخروا بثورتهم المجيدة ويُحيّوا شهداءها وجرحاها ويضعوا على قبورهم وصدورهم نياشين الإكبار والاعتزاز، بل كذلك الافتخار بانجازهم التاريخي الباهر في إنجاح أولى مراحل الانتقال الديمقراطي لمؤسّسات السلطة وإعادة الشرعيّة لها في ظرف سنة وحيدة. وسيكون أمام التونسيّين والتونسيّات اليوم متّسع من الوقت لمُراكمة المزيد من الانجازات ومن ثمّ مواصلة إنجاح مسيرتهم الموفّقة في تنفيذ النموذج في الانفكاك عن واقع القهر والظلم والحيف وغياب الحريات والعدالة والتهميش والبطالة إلى واقع جديد مُشرق فيه التنمية العادلة والتوزيع المتكافئ لفرص العمل ولثروات البلاد. نعم، إنّها وبكلّ المقاييس والاعتبارات «المعجزة التونسيّة» الّتي تقطعُ اليوم مع الشعارات الفضفاضة والمقولات الجوفاء والدلالات الخاطئة والأرقام والمؤشرات المغشوشة لفائدة ممارسة ميدانيّة فعليّة ناجعة ومثمرة ومطمئنة للمستقبل الأفضل. وما من شكّ فإنّ التحديات والرهانات تظلّ ماثلة، اليوم وغدا، في وجه مزيد تثبيت هذه المعجزة وترسيخ أركانها في جميع دواليب الدولة ومؤسساتها وفي جميع ربوع الوطن ولدى كلّ الفئات الاجتماعيّة ووسط مختلف القطاعات الانتاجيّة والصناعيّة والفلاحيّة والخدماتيّة. إنّ الثورة التونسيّة الّتي تقطع اليوم عامها الأوّل ستبقى في حاجة إلى المزيد من التوافق بين كلّ أبنائها وبناتها بغضّ الطرف عن انتماءاتهم السياسيّة أو الإيديولوجيّة أو موقعهم في الحكم أو المعارضة أو في المجتمع المدني ، من أجل أن تُحجب كلّ العراقيل وتغيب كلّ الصعاب وتنفتح أمام البلاد المزيد من الفرص والمجالات للتطوّر والنماء. إنّ «المعجزة التونسيّة» التي انطلقت بالشهيد محمّد البوعزيزي ووصلت اليوم إلى تركيز أسس الدولة الشرعيّة والمنتخبة أمكن لها أن تجتاز كلّ المخاوف وكلّ الهواجس المرهبة من الصدام ومن حدوث الفراغ واستطاعت أن تقفز على مسائل صعبة جدّا بحكم ما حصل من وعي لدى كامل الشعب بالحاجة إلى القطع مع الماضي والتأسيس لشيء جديد مُغاير تغيب فيه كلّ المظاهر والسلوكات السلبيّة والرديئة وتُبنى فيه تونس الخير والبركة والمحبّة والألفة والتضامن الحقيقي والعدالة الحقّة والمساواة، تونس الديمقراطيّة والتعدديّة ، تونس المعجزة.