إلى صديق لم ينفك عن الثقة في قدرات الشعب التونسي على التحرر حتى في لحظات بلغت فيها النخب السياسية مرحلة اليأس من امكانية زوال وضع الاستبداد يوما ما إلى الطاهر المقيم في تونس من هناك، من مدينة الانوار. يبدو ظاهريا، على الاقل ان التفكير الفلسفي المعاصر لا يخلو من تساؤلات حول مفهوم الحياة المدنية للانسان بما يعنيه ذلك من تشريع تواضعي للقانون ومؤسسات مدنية تقوم على قيم المواطنة وآليات ممارسة السلطة وصيغ ادارة الشأن العام وهي تساؤلات تزداد حدة عندما يتعلق الامر بواقع مجتمع يعيش مسارا ثوريا يأمل من خلال الانتقال من وضع استبدادي ثقافة وقيما وسلوكا الى وضع ديمقراطي لا يتأتى له النجاح الا اذا ثوّرَ ذهنية كاملة وعمل على ارساء ثقافة النقد المفتوح على كل المجالات دون استثناء، نقد يعمل من اجل القطع نهائيا مع «طبائع الاستبداد ومصارع العباد» (الكوكبي) بما يعنيه من فساد واستغلال وتسلط واقصاء وتخلف وجهل في جميع ميادين الحياة العامة والخاصة فهل يستطيع المسار الثوري ان يشرع لمنطق جديد للممارسة السياسية والحياة المدنية للمجتمع التونسي وهل يمكن القول ان المشروعية الثورية للشعب التونسي بامكانها ان تستقر في مشروعية مؤسساتية لا ترضى بأقل من الديمقراطية نظاما سياسيا واذا كان الامر كذلك اي شكل من النظام الديمقراطي يمكنه الاستجابة لانتظارات الثوة في تونس من عدالة وحرية في التعبير والمعتقد وحق في العمل والصحة والتعليم ومساواة تامة وحق في التنمية والرقي والتقدم وحق في الاختلاف بما يحيل عليه من تعدد في الرؤى والمقاربات...؟ واذا سلمنا جدلا بوجود نوع من الطلب الاجتماعي عام وغالب لنظام ديمقراطي فأيّة صعوبات تعترض بناء هذا النظام؟ وهل يمكن لنظام ديمقراطي ان يقدم حلولا ناجعة لقضايا المجتمع التونسي المادية والاجتماعية والتنموية والثقافية والسياسية «للتو»؟ وكيف يمكن القطع نهائيا مع اليات النظام المستبد الذي نخر جسم المجتمع التونسي لعشرات السنين؟ ألا يتطلب الأمر دربة على السلوك الديمقراطي وعلى قيم المشاركة والمحاسبة والمسؤولية تقطع عمليا وتشريعيّا مع الثقافة التسلطية مهما كان مصدرها؟ ان كل هذه الاسئلة وغيرها هي التي دفعتنا الى النظرفي موقف احد الفلاسفة المعاصرين عرف عنه نضاله الفكري الفلسفي ونضاله الميداني الى جانب المضطهدين والمستغلين في كامل ارجاء المعمورة انه «جورج لابيكا»الذي نشر مؤلفات مهمّة يمكن ان يكون بمثابة الفكرة الموجهة بالمعنى الكانطي لمن يريد التفكير الجدي في مال ثورة الشعب التونسي. ان ما يثير الاعجاب في كتاب «لابيكا» هو، بادئ ذي بدءعنوانه «الديمقراطية والثورة» (نشر باريس سنة 2002، في دار النشر: أزمنة الازمات») فإذا كان البعض في تونس يرى ان منطق الثورة بما يعنيه من حركية وتغيير مستمرّيْن لا يمكن ان يتقاطع مع منطق الديمقراطية بما تفتح عليه من استقرار لمؤسسات المجتمع المدني فان لابيكا يقدم رؤية اخرى لا تنظرإلى الامر من هذه الزاوية المحدودة. لكن قبل توضيح هذه النقطة الايجابية في كتاب لابيكا هذا من الضروري تشخيص واقع الديمقراطية اليوم وهذا على الاقل في المجتمعات التي لها تجارب طويلة في التاريخ مع هذا النظام فأية وضعية لمفهوم الديمقراطية في النقاشات الفلسفية والسياسية اليوم؟ يؤكد لابيكا في هذا المجال ان هذا المفهوم يتعرض الى نقاش دائم يتعلق بمجموعة من المشكلات تهم آلية اشتغال الديمقراطية في ظلّ مرحلة جديدة من تطور علاقات الانتاج وهو نقاش تشارك فيه عديد الدول اذا لم تكن كل دول العالم اذ توجد اسئلة متشابهة حول الديمقراطية سواء كانت في الارجنتين او باريس او موسكو او تونس وذلك رغم الاختلافات في الوضع والتاريخ والحضارة والدليل على ذلك اننا نجد نفس الالفاظ الحاملة لنفس الدلالات ولادراك هذا يقترح لاببيكا التوقف عند النقاط التالية فيما يتعلق بالديمقراطية: الملاحظة الاولى هو «عولمة» لا الديمقراطية بل الحاجة الى الديمقراطية او «الطلب الديمقراطي» المنتشر في كل ارجاء العالم شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ويعود هذا الطلب الى تطور الديمقراطيات القديمة، والى نهاية الدكتاتوريات في العالم الثالث والى انهيار النظام الاشتراكي القائم في الاتحاد السوفياتي وهذا هو جوهر الحداثة لنتذكر سقوط حائط برلين وقيمته الرمزية الذي يتلخص في المأزق التالي: «اما الاشتراكية او الموزات» حيث يذكر هنا لابيكا طرفة لاحد رجال السياسة في الجزائر الذي حتى يدلل على وجود الاشتراكية في الجزائر ذكر بغياب انتاج الموز في بلاده (اذ لا يوجد موز في السوق)، ورغم هذا يلاحظ لابيكا ان مصير دول اوروبا الشرقية لم يكن خروجها من النظام الاشتراكي دون كثيرمن الاوهام (يذكر هنا مثال «ألبانيا» حيث هجر اغلب سكانها الى ايطاليا وفرنسا) وقد اجريت عدة بحوث حول انتظارات شعوب هؤلاء الدول من الديمقراطية، فكانت اجاباتهم تتخيل الديمقراطية بمثابة «الحل السحري» الذي سيوفر لهم الرفاه الكامل (المنزل والسيارة والمسبح والنساء الجميلات والمال)، لكن هذا لا يمكن ينسينا واقع الخيبة الذي عاشته شعوب بضع دول اوروبا الشرقية. السؤال الثاني الذي تطرحه الديمقراطية اليوم هو التالي: «هل ان عولمة الطلب الديمقراطي هي المقابل المباشر لعولمة السوق؟» يمكن الاجابة بتأكيد ذلك حسب لابيكا لاننا نلاحظ التقاء، اذ يبدو ان السوق يتطلب الشكل السياسي للديمقراطية فالديمقراطية والسوق يحدد الواحد منهما الاخر لكن ما نلاحظه في الصين يتناقض مع هذا التأكيد حرية السوق تسير جنبا الى جنب مع نظام تسلطي ان ما يمكن التأكيد عليه هنا هو ان الديمقراطية لا يمكن اختزالها في مجموعة من الاجراءات المعتمدة في ظرف آني محدود انها حصيلة تقاليد وممارسات على صراعات اجتماعية فالديمقراطية فرضت تاريخيا باعتبارها انجع نظام يتأقلم مع السوق رأس المال اذ ان رأس المال والديمقراطية يندمجان مع بعضهما البعض فهل يكون هذا دون نتائج وانعكاسات على الانظمة الديمقراطية القائمة وعلى الطلب الديمقراطي المتزايد عماليا؟ الا يمكن ان نرى في الليبرالية المتوحشة ثاو غيرها لا ارساء للديمقراطية بل ما يثير الصراعات القومية والطائفية والعرقية والدينية من طرف الذين همشهم نظام السوق؟ فما الحل؟ هل في مراجعة مفهوم الديمقراطية في دلالته البورجوازية؟ يلاحظ لابيكا هنا أن القاسم المشترك المميز للخاصيات المميزة لكل ديمقراطية يحتوي بعض الاشكال، ويعطي مثال التهميش الذي يقدم وكان ظاهرة جديدة، لكن لابيكا يلاحظ ان البشرية لا تضع ديمقراطية خالية من اقصاء وتهميش منذ اليونان الى اليوم ان الديمقراطيات اليوم متطورة ولكنها تبقى اقصائية لا تخلو من اشكال جديدة من التهميش: منذ خمسين سنة فقط أعطي الحق في الانتخاب للمرأة في فرنسا بينما لايزال العمال الاجانب الى اليوم محرومين منه الى اليوم. توجد ميزة اخرى للديمقراطية وهي هشاشتها: ان كل ديمقراطية، يؤكد لابيكا، هشة بحسب القاعدة التي تقول ان في داخل كل نظام ديمقراطي يمكن للقوى السياسية والاجتماعية المعادية او الرافضة للديمقراطية ان تستعمل الآليات الديمقراطية للوصول إلى السلطة. وقد اكتشفنا هذا في المانيا النازية وفي الجزائر ونرى هذا في ايطاليا وفرنسا حيث ظهرت وتنامت التيارات المناهضة للديمقراطية، وليس أدل على ذلك حسب لابيكا من الانتخابات الايطالية ووضع روسيا في عهد يلتسين. وتبعا لذلك فان البورجوازية، كما يلح لابيكا، لا تتأخر عن اللجوء إلى الفاشية عندما تجد مصالحها مهددة (ص 119 من نفس المؤلف). وفي المقابل لا توجد ديمقراطية مكتملة، ويقدم لابيكا مثالا على ذلك من خلال نواقص شعارات الثورة الفرنسية (حرية، مساواة، اخوة). يذكر مثلا جون بريدن عديد النواقص المهمة في الثورة الفرنسية لكنه يهمل ذكر الطبقات الاجتماعية. أليس من جوهر كل ديمقراطية ألاّ تنهي أبدا كل برنامجها؟ ان لا تصل أبدا الى تحقيق كل الانتظارات؟ أليست الديمقراطية قابلة للتلاعب؟ وحتى داخل الديمقراطيات المتقدمة او النموذجية فان اجراءات الانتخاب تثير عديد التساؤلات والصراعات، اذ ان القطيعة مازالت تكبر بين الناخبين وممثليهم وبين الجهاز القضائي والجهاز التنفيذي وذلك من خلال تقوية استقلال الجهاز التنفيذي، كما ان تضخم النظام الرئاسوي يسعى الى تحويل الديمقراطية الى ملكية (رئيس فرنسا حاليا). ونتيجة لكل ذلك يمكن القول ان الانظمة الديمقراطية، كما يبرز لابيكا، يمكنها ان تؤدي الى اللامساواة مما دعا عديد السياسيين الى نقد «يوتوبيات المساواة» وتفضيل «مبدأ الانصاف» (نفس المؤلف ص 120). السؤال الثالث او المشكل الثالث الذي يثيره مفهوم الديمقراطية اليوم هو معنى «النموذج». هل يمكن الحديث عن ديمقراطيات نموذجية او عن نموذج للديمقراطية؟ هل تستطيع الديمقراطيات المتقدمة أن تكون مثالا ناجحا للدول والشعوب او المجموعات التي لديها طلب ديمقراطي؟ ان هذه الديمقراطيات هي انظمة تعرف من خلال علاقتها بالحق. لكن خطاب الحق هو، في احد جوانبه، الخطاب التقليدي للايدولوجيا المهيمنة، باعتبار ان الحق يمثل التشريع الذاتي للطبقة المهيمنة على السلطة. لقد انتشر هذا الخطاب اليوم وتجلى في عبارات دولة الحق، وحقوق الانسان. ان قاعدة «النموذج» هي هذه الحقوق نفسها، لكن للأسف الاشياء ليست بهذا الوضوح. لقد تأسس مفهوم «دولة الحق» في القرن الماضي في المنايا (الدولة البروسية التي لم يكن لها اية علاقة بالديمقراطية). وفي السنوات السبعين انتشر هذا المفهوم واستخدمته الولاياتالمتحدة في الصراع الايديولوجي ضد «العالم الاشتراكي»، اما في ايامنا فقد تقلص الطموح الى دولة الحق واصبح ضعيفا. ان كل دولة، يقول لابيكا، وكما يوضح هانس كلسن، هي تاريخيا دولة حق مهما كانت طبيعة هذا الحق. لذلك من الافضل الحديث عن «دولة القانون» ان نفس الملاحظات يمكن ان تسحب على حقوق الانسان. هل يمكن لحقوق الانسان ان تمثل قاعدة للتعامل بين ادول المتقدمة والدول السائرة في طريق النمو لتحديد المستوى الديمقرطي؟ ان حقوق الانسان لا يمكن ان تقدم كنموذج او مثال لتحديد واقع الديمقراطية، ولنتذكر، يبين لابيكا، بنما ونيكارقوا وقرينادا وحرب الخليج التي كان ينتظر منها ارساء النظام العالمي الجديد، اين نقف على تجسيد قانون القوى لا منطق حقوق الانسان. (نفس المؤلف ص 121) (يتبع)، كما تبرز ظاهرة اخرى عندما يتعلق الامر بخطاب الحق وتشريع العلاقات الاجتماعية، خطاب يتطور بشكل سريع. يبين لابيكا ان هذا الخطاب يتخذ شكل العرف والتقليد في الدول الانجلوسكسونية، اما في الدول الاوروبية فقد أخذ شكلا جديدا فهو في الوقت نفسه «قومي وفوق قومي» غير انه اذا قبلنا، يوضح لابيكا، ان مصدر القانون في الديمقراطية هو قانون يعلن الحق، هو الارادة العامة، اي بعبارة اخرى السيادة الشعبية، فان هذا لن يمنع الصراعات من البروز. وقدم مثال الجمهورية الخامسة في فرنسا حيث استنبط المجلس التأسيسي. وهذا المجلس هو هيئة تعلن الحق دون ان تتقبل عقوبة من الارادة العامة ودون استشارة المجلس الوطني. ما هو الآن مصير المواطنة في ظل هذا المعطيات؟ انه لمن جوهر النظام الديمقراطي، يشدد لابيكا، ان يتطور ويتعمق دون انقطاع وان يبدع حقوقًا جديدة، واذا توقف عن التطور فانه يحطم ذاته. وما يلاحظ هنا ان البورجوازية عرفت كيف تصد المسار الديمقراطي في كل مرة يظهر لها ذلك ضروريا. وأعطى لابيكا امثلة على ذلك ما حدث في فرنسا سنة 1793، 1848 أو في 1871. يذكر ايضا لابيكا ظاهرة اخرى لصيقة «بالديمقراطيات النموذج» وهي ظاهرة الاقصاء الخاصة ويعني بها «الاقصاء السياسي» ويقصد بها ظاهرة الغزوف السياسي التي تتجسد في التغيب عن المواعيد الانتخابية. ويعتبرها لابيكا نوعا من الاقصاء الذاتي (نفس الكتاب ص 123). اما الملاحظة الأخيرة فتتعلق بخطاب النهايات: نهاية الايديولوجيا، نهاية اليوتوبيا، ونهاية التاريخ نفسه، وهي نهايات تعلن الانتصار النهائي للرأسمالية، وهذا في وضع الغموض حول «السوق الديمقراطية» (نفس الكتاب ص 124). فهل يدعو هذا إلى القبول بأشكال اللامساواة المختلفة وبكل انواع الاقصاء المتفاقمة لمجتمع «ذي سرعتين»؟ ام يجب البحث عن امكانات بديل اخر يقوم على نقد على نقد آليات الاغتراب ويفتح على مزيد التعمق في الديمقراطية؟ يؤكد هنا لابيكا، وبالعودة الى منطلق بحثه، «أن عولمة الطلب الديمقراطي، مهما كانت الدولة الدولة، القومية القوى الاجتماعية التي تصوغها، تجعل من الافضل انطلاقا من تطور وثقافة معينين، ان نعرف ماذا نريد وما يمكن القيام به بعيدا عن أوهام «النماذج» (نفس الكتاب ض 124) يجب تحرير المجتمع المدني، بالمعنى الحقيقي لهذه العبارة، من هيمنة الدولة. ان أهمية القراءة التي قدمها لابيكا لما يمكن ان نسميه «النموذج الديمقراطي» تكمن في بلورته لموقف دقيق وراهن حول المسألة الديمقراطية، موقف تحتاجه النخب السياسية في تونس في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة، لعلها تقدر على الاضطلاع بالدور الخطير الملقى على عاتقها للانتقال بالمجتمع التونسي من وضع الاستبداد والاقصاء والتهميش والاستغلال الى وضع ديمقراطية يقوم على المشاركة والعدالة الاجتماعية والحرية في كامل أبعادها الفكرية والعملية.